الخميس 19 رمضان 1445 هـ :: 28 مارس 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

51- ضوابط البدعة، والانحرافات في أبواب البدعة والتبديع 3


عناصر المادة
المقدمة
تغيير صفة العبادة الشرعية
أمثلة تغيير العبادة
التردد بين العادة والعبادة
البدع التركية
ضابط السنة التركية
حجية السنة التركية

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:

المقدمة

00:00:08

فقد تقدم في الدرس الماضي فيما يتعلق بالبدعة والتبديع ذكر ضوابط للبدعة، مع شرح تعريفها ومحترزات التعريف، ومثلنا بأنواع من البدع، وذكرنا أن من خطورة البدعة أن المبتدع لا يرى أن ما يفعله منكرًا، بل إنه يتقرب إلى الله بذلك، وذكرنا أن كل تقرب لله بفعل ما نهى عنه فهو بدعة، كالتقرب إلى الله بسماع الملاهي والرقص، كما يحدث في حلق بعض الصوفية، وكذلك التقرب إلى الله بفعل شيء من العادات أو المعاملات على وجه لم يعتبره الشارع، مثل اتخاذا لبس الصوف عبادة، وإنه لو فعله من طبيعة البلد للشتاء أو للعادة أو للمصلحة الصحية فلا حرج في ذلك، لكن التعبد أن ينوي بهذا اللبس التقرب إلى الله، التعبد هذا بدعة.
ويدخل في البدعة أيضاً الغلو في العبادة بالزيادة فيها على القدر المشروع، كمن سجد في ركعة ثلاث سجدات مثلاً، أو تقرب إلى الله بصلاة في كل ركوع ثلاثة ركوعات، هذا تقرب على نحو غير مشروع، ومخالف لما شرعه الله ، وكذلك التشدد والتنطع في الإتيان بشيء يتقرب به إلى الله مثل اعتزال النساء ولو لم يعتقد تحريمه، أما لو اعتقد تحريم الحلال فهذه مصيبة كبيرة، لكن لو ما اعتقد التحريم وتقرب إلى الله بالترك كترك اللحم، وترك النوم طيلة الليل، -وإلا من سمات الصالحين كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ[الذاريات: 17]- تقرب إلى الله بترك الطيبات فهذه بدعة.

وذكرنا من الضوابط أن الأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يقوم دليل على المشروعية، وان باب العبادات مغلق لا يفتح إلا بنص شرعي، فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على المشروعية، والأصل في العقود والمعاملات الحل والإباحة حتى يقوم دليل على البطلان أو التحريم.
وذكرنا الفرق بين هذه الأبواب، وذكرنا أن كل عبادة تستند إلى حديث مكذوب على نبي الله ﷺ فهي بدعة، وما أكثرها في رسائل الواتس أب، وذكرنا أن من الضوابط تخصيص العبادة بمكان، أو زمان، أو هيئة، أو عدد بغير دليل، وأن ذلك يدخلها في البدعة، وأن التخصيص موكول إلى الشرع، وليس إلى المكلف، وأن المكلف ليس له حق أن يتدخل في التخصيصات؛ لا تخصيص عدد، ولا تخصيص هيئة، ولا تخصيص زمان، ولا تخصيص مكان، وأن هذا التخصيص حق لله -تعالى- فقط.
انظروا إلى البدع الموجودة في الرسائل المتداولة.
مبعث البدعة أحيانًا قد يكون نبيلاً من جهة الأصل، يعني: الدافع؛ ولكن هؤلاء يظنون أنهم يحسنون صنعًا، وفي الحقيقة أنهم يبتدعون.

مثال ورد في رسائل الجول في نهاية العام الميلادي الساعة الثانية عشرة ليلاً عند النصارى يقلب التاريخ يبدأ عندهم دخول اليوم الذي بعده، وهذا مخالف للشرع والعقل، فإن الليل تبع النهار، وعندما نقول: إن غدًا الثلاثاء أو غدًا الأربعاء، فمعنى ذلك أن ليلة الأربعاء تبدأ من المغرب قبل اليوم، فنحن الآن دخلنا في ليلة الأربعاء، نحن الآن صلينا المغرب قبل قليل لما غربت الشمس، ماذا حدث شرعًا وعقلاً؟  دخول ليلة الأربعاء، ستنتهي ليلة الأربعاء ويبدأ صباح الأربعاء ونهار الأربعاء، فالليلة تسبق اليوم، الكفرة يعتبرون أن الساعة الثانية عشرة ليلاً هي بداية اليوم القادم بدون شرع ولا عقل، فإذًا هم يعتبرون أن آخر يوم من ديسمبر ينتهي الساعة الثانية عشرة، بعد ذلك يبدأ أول يوم من يناير، حتى بالعقل نصف الليل ليس سواء في العالم، الساعة الثانية عشرة قد تكون أقرب للفجر، وقد تكون أقرب للمغرب بحسب المكان والزمان، الشاهد أن بعضهم في الرسائل قال: غدًا آخر يوم من أيام العام الميلادي، والنصارى والكفار في الأرض ينتظرون الساعة الثانية عشرة من آخر يوم من ديسمبر ليبدأ بعدها يناير في سنتهم الجديدة، وأنهم يحتفلون بهذه اللحظة بالخمور، والمسكرات، والرقص، والفجور، والحرام، هذا كلام صحيح، فبادر يا عبد الله يا مسلم الثانية عشرة إلا خمسة بصلاة ركعتين إلى الساعة الثانية عشرة وخمسة حتى ينظر الله إليك في وقت فجورهم وأنت تعبده، فتكون أنت خالفت النصارى، وهم يفجرون، ويفسقون، ويرقصون، ويسكرون، وأنت تصلي -أيها الإخوة والأخوات- بلغوا أرسلوا، لا تقف الرسالة عندك، نريد أن يرانا الله في هذا الوقت ونحن نصلي وهم يسكرون، ابدؤوا بالركعتين الساعة الثانية عشرة إلا خمس، ومدوها إلى الثانية عشرة وخمس، هذه بدعة، لماذا تخصيص ركعتين؟ تبدأ من اثنا عشر إلا خمسة وتنتهي اثنا عشر وخمسة هذه بدعة، وهو آثم، وفتح باب ضلالة، ومخالف لما أنزل الله، ويشرع في الدين للناس ما لم يأذن به الله، ويبتدع وينشر البدعة، ويحث غيره عليها، ويرسل ويطالب بالإرسال، هذا مثال.
وخذ أمثلة كثيرة:

نريد حملة مليونية للصلاة على النبي ﷺ، نريد مليون صلاة الليلة؛ هذه الصلوات بدعة، المسألة ليست مسألة عادات، ولا عقود ومعاملات، ولا مسألة أكلات شعبية، هذه عبادة متعلقة بالصلاة على النبي ﷺ مقصود بها التقرب إلى الله على وجه لم يرد في الشرع.
فباب الدين مخترق بالطول والعرض في رسائل الواتس أب والوسائط المختلفة؛ لأنه لا يوجد فقه في موضوع البدعة، ولا معرفة للضوابط، ولا فهم لمعنى العبادة في الإسلام، وحدود العبادة في الإسلام، من الذي يحق له أن يشرع؟ من الذي يحق له أن يحدد؟ من الذي يحق له أن يخصص؟
فذكرنا أن من الضوابط أن تخصيص العبادة بمكان أو زمان أو هيئة أو عدد من غير دليل أن ذلك يدخلها في البدعة، وأن التخصيص من حق الشارع، من حق الله –تعالى-، وليس إلى المكلف، ولا إلى الناس، وذكرنا أمثلة لهذه التخصيصات والتقييدات في العبادة بلا دليل.

تغيير صفة العبادة الشرعية

00:12:02

من الضوابط رابعًا: كل عبادة وردت في الشرع على صفة مقيدة فتغيير هذه الصفة بدعة. 
قال الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله-: "العبادات توقيفية فما شرعه الله ورسوله مطلقًا كان مشروعا كذلك، وما شرعه مؤقتًا في زمان أو مكان توقت وتقيد بذلك بالمكان والزمان" انتهى من فتاوى الشيخ [3/99].
فمن أطلق ما قيده الشرع فقد ابتدع، ومن قيد ما أطلقه الشرع فقد ابتدع، ومن غير القيد من مكان إلى مكان فقد ابتدع أيضاً.

أمثلة تغيير العبادة

00:13:03

نأخذ أمثلة:
قيد الشرع الأضحية بالعاشر من ذي الحجة، وجعل أيام الذبح ممتدة أيام التشريق، فمن جعل الأضحية في أول يوم من ذي الحجة فقد ابتدع؛ لأن الله قيد بهذا اليوم العاشر بعد صلاة العيد، فمن فتح التقييد فقد ابتدع.
صدقة الفطر جعلها الشرع مرتبطة بالفطر، والفطر يكون يوم العيد، يبدأ شوال من ليلة العيد، ورخص الشرع في الأدلة بتقديمها يومًا أو يومين، فمن أخرج صدقة الفطر بعد صلاة العيد، أو اثنين شوال، أو ثلاثة شوال، أو جعلها في كل شوال فقد ابتدع، فإذًا أولاً مخالفة في الزمان وعرفناه.
ثانيًا: مخالفة في المكان كالاعتكاف في غير المساجد، أو الطواف لغير الكعبة، فالشرع ما جعل اعتكافًا مشروعًا إلا في المساجد، فمن قال: سأعتكف في بيتي، أو سأعتكف في قصري، أو سأعتكف في مكتبي، سأعتكف في مقر العمل مبتدع؛ لأن الشرع خص الاعتكاف بمكان معين، فغيره إلى مكان آخر، أو فتحه، هذه بدعة.

ولا يوجد طواف صحيح في الدين كله إلا الطواف بالكعبة، لا يوجد مكان يصح فيه عبادة الطواف في العالم إلا الكعبة، فمن جعل قبرًا يطاف به، وحتى لو ما كان قبر، لو قال: ألا ترون العلامة البيضاء فوق جبل الرحمة -الشاهد الأبيض- سأطوف به سبعة أشواط هذا بدعة، فالشرع قيد الطواف بالكعبة، فتح التقييد وجعل الطواف بأي قبر، وأي شاهد في جبل، وأي مكان، أو نقل التقييد من مكان إلى مكان، أو إدخال زيادة على التقييد بدعة.
ثالثًا: المخالفة في الجنس كالتضحية بالدجاجة، فالشرع جعل الأضحية خاصة ببهيمة الأنعام: الإبل، والبقر، والغنم، لا أرنب، ولا غزال أفتى بعض الضلال في بعض الجامعات في دولة إسلامية أن الغلاء إذا دخل وحل في الخرفان تنتقل الأضحية إلى الدجاج، هذه مخالفة في الجنس بدعة، وحتى لو قال: بحيوان أكبر بزرافة أو بفرس هذه بدعة.
رابعًا: المخالفة في القدر كالعدد، كزيادة صلاة سادسة على ما شرعه الله في اليوم والليلة، وصلاة الظهر خمسًا، أو زيادة الركعات والسجدات.
خامسًا: المخالفة في الكيفية، مثل الترتيب: كتعمد الوضوء بعكس ما ورد، فبدأ بالرجلين ثم الرأس ثم اليدين ثم الوجه هذه بتدعة، غير وبدل فيها.

قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: "وليس ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها مطلقًا، فقد رأى النبي ﷺ رجلاً قائمًا في الشمس، فسأله عنه، فقيل: نذر أن يقوم، ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي ﷺ: مره فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه رواه البخاري [6704].
لاحظ قوله: وليتم صومه الشيء المشروع أمره أن يمشي عليه، والشيء المبتدع أمره أن يتركه، ما قال: اترك كل شيء، يتم صومه لأنه نذر أن يقوم، ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، وهو صائم، فما الذي يصح من هذا النذر؟ المشروع فقط وهو الصوم، وبقية الهيئات المضافة بدعة. ما هو الحكم؟ تلغى.
يقول ابن رجب -رحمه الله-: "فلم يجعل قيامه وبروزه في الشمس قربة يوفي بها، وقد روي أن ذلك كان في يوم جمعة عند سماع خطبة، النبي ﷺ وهو في المنبر فنذر أن يقوم  ولا يقعد ولا يستظل ما دام النبي ﷺ يخطب؛ إعظامًا لسماع خطبة النبي ﷺ".

انظر الباعث عليها أصلاً، يمكن تقول: باعث إيجابي، قصده تعظيم الخطبة النبوية، لكن ليست بهذه الطريقة التعظيم بارك الله فيك، التعظيم أن تغتسل، وتطيب، وتبكر، وتأتي المسجد، وتدنو من الإمام، وتنصت، هذا التعظيم الشرعي، أما أن يقوم في الشمس واقفًا ولا يقعد هذا تعظيم بدعي، هيئاته تعظيم، لكن ليس هذا تعظيمًا شرعيًا، فليست كل الاستحسانات والآراء والأفكار التي تبدر للإنسان، وتعن له، وتخطر بباله، وتأتي في عقله صحيحة.
قال ابن رجب -رحمه الله-: "ولم يجعل النبي ﷺ ذلك قربة توفي بنذره، مع أن القيام عبادة في مواضع أخرى كالصلاة والأذان، فدل على أنه ليس كل ما كان قربة في موطن يكون قربة في كل المواطن، وإنما يتبع في ذلك كله ما وردت به الشريعة في مواضعها" جامع العلوم والحكم [1/178].

التردد بين العادة والعبادة

00:21:51

خامسًا: إذا تردد الأمر بين كونه عبادة أو عادة فما هو الأصل؟ حصل فيه خلاف هل هو عادة أم عبادة ما هو الأصل؟
فالأصل أنه عادة، ولا ينهى عنه حتى يقوم دليل على أنه عبادة، فالأصل في العادات التي اعتادها الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه ألا يحظر منها إلا ما حظره الله" اقتضاء الصراط المستقيم: [2/86].
وقد سبقت الإشارة إلى هذا، فمثلاً لو أن رجلاً قال لصاحبه الذي نجا من هلكة: ما شاء الله لا قوة إلا بالله هنيئًا لك.
فقام رجل فقال: هذه بدعة، هذا ذكر.
وقال الآخر: أنا ما قصدت الذكر، ولا أقول أنه ذكر، ولا أحث الناس عليه، ولا أنا ألتزم به، ولا أعتقدت أن هذا ذكر أنافس به الشريعة، والأذكار الشرعية، الأصل أن هذه عادة، وأنه لا بأس بها، ولا حرج فيها، وأي كلام طيب دلت محاسن الشريعة -الشريعة محاسن- وقد دلت محاسنها على أن يواسى الإنسان في المصيبة، ويهنأ في النعمة، ما وردت الشريعة بذكر معين لمن قامت من الولادة، فنحن نقول أي كلام طيب، وهذه عادات بيننا، لا يعرف فيها نص معين يقال للمولود، وجاء عن الحسن البصري أنه قال: "بورك الموهوب، وشكرت الواهب، وبلغ أشده" [الأذكار للنووي: 853]، هل الحسن لما قاله اخترع ذكرًا خصصه وعينه واعتقد فضله، ونشره بين الناس لا يقال غيره، الحسن البصري -رحمه الله- رجل فصيح ولد لأحد إخوانه مولد، فدعا له بدعوات طيبة، وهنأه، وواحد حفظها، ونقلها، فمن اعتقد أن هذا ذكر من الأذكار الشرعية يؤجر الإنسان عليها خاصة دون غيرها، في هذه المناسبة الخاصة، ويتقرب بها إلى الله، كذكر العطاس، وذكر السلام، وقع في البدعة، لكن هذا قال كلامًا طيبًا على عادة الناس في تهنئة بعضهم بعضًا بالمولود.

اشترى سيارة جديدة، جاءت له ترقية في العمل: على البركة يا أبو فلان، خطأ لغوي، الصحيح يا أبا، كما قال بعض السلف رأى على كيس التجار بضائع لأبو فلان، فقال: سبحان الله! يلحنون ويربحون، والذي عنده اهتمام باللغة مفلس في الغالب.
فالآن عبارات التهنئة العامة هذه عادة بين الناس لا بأس بها ليست بدعة، الزواجات فيها نص معين ورد: بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير  [أبو داود:2130، وصححه الألباني صحيح أبي داود:1850]، "على البركة وعلى خير طائر" [البخاري: 3894، ومسلم: 1422]. وردت نصوص معينة يتقرب بها إلى الله، يعني: تقال على أنها ذكر شرعي من الله، لها ميزة على بقية التهاني، ولا مانع من الإتيان بتهاني أخرى، فتكون التهاني الأخرى من باب العادة، ويؤجر عليها الأجر العام أجر إدخال السرور على المسلم، الدعاء للمسلم بالخير، الأجر العام، لا أجر الكلام الخاص الذكر والدعاء المشروع، فمن قصد بعبارة لم ترد في الشرع أجر الذكر المخصوص والدعاء المشروع فهو مبتدع.
فإذًا لو قال له في الزواج على هذا السؤال: بارك الله وبارك عليك وجمع بينكما في خير، ويجيئك ذرية طيبة، يتربى بعزك، ما ورد في الشرع لكن الناس تقوله من التهاني العامة، لا بأس بها، ولا حرج، قائل: يتربى بعزك، ما يقصد بكلمة يتربى بعزك ذكرًا شرعيًا، له أجر خاص من الشرع، ويتقرب به إلى الله مبتغيًا به ذلك المشروع الخاص، أليس هذا كلمة طيبة يقولها الناس.

نفس الشيء في التعزية ورد نص معين: لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فاصبر واحتسب[البخاري: 1284، ومسلم: 923]، لو قال: البقاء براسك يا فلان، أحسن الله عزاءك.
ينظر في العبارات هل فيها إشكال؟ مثلا البقية في حياتك لو قال: أقصد الخير والبركة، ولا أقصد أن بقية عمر الذي مات تجيئك أنت؛ لأنه أصلاً لو بقي بقية ما مات فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ[الأعراف:34]، كل من مات استوفى أجله، ولا لحظة ولا دقائق ولا ساعة ولا شيء، بمعنى أن البقية تروح لولده، أو لأخيه، عمره كله انتهى.
فإذًا قلنا في مناسبة معينة كالزواج والعزاء الذكر المشروع، وأضفنا إليه أشياء أخرى من باب العادة، لا من باب العبادة، لا من باب التقرب بالذكر المعين الخاص، الذي له أجر خاص، لا مانع، هذه من عادات الناس المباحة بينهم.
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "وفي الشرع ما يشهد لهذا، حيث جعل الناس يهنئون كعب بن مالك بتوبة الله عليه في حديثه الطويل، وكثير من التهاني التي تحدث بين الناس لا يزعم أحد أنها بدعة إلا بدليل، لأنها أمور عادات لا عبادات". انتهى كلام الشيخ [مجموع فتاوى ورسائل العثيمين: 5/260].

البدع التركية

00:33:47

هل البدع خاصة بالأفعال والأقوال أما أنها تكون حتى في غير الأفعال والأقوال؟
هناك بدع بالفعل يفعلها الناس، وهناك بدع في المقابل بالترك، بدع فعلية وبدع تركية، يعني: ليست البدع أنها تفعل فقط، هناك بدع فيها ترك، تترك أشياء فتكون بدعة، فنريد أن نتعرف على ضابط البدعة التركية.
البدعة التركية جديرة بالانتباه.

ضابط السنة التركية

00:34:32

ضابط السنة التركية أولاً: ما هي الأشياء التي تركها سنة؟
هل هناك أشياء تركها سنة؟ يعني مثلًا نعرف في السفر أن السنن الرواتب تترك إلا سنة الفجر، قيام الليل تفعل، سنة الفجر تفعل الصلوات الأخرى غير السنن الرواتب الضحى تحية المسجد ركعتي الوضوء تفعل، لكن جاء في السنة ترك سنة الظهر القبلية والبعدية، وسنة المغرب، وسنة العشاءـ أن هذه لا تفعل في السفر، إذًا من السنة تركها، وتركها يؤجر عليه إذا قصده اتباعًا للنبي ﷺ.
الترك عبادة، الصيام ترك المفطرات من الطعام والشراب والنكاح من الفجر إلى المغرب، إذًا الترك يكون عبادة وبناء عليه تدخله السنة وتدخله البدعة، فالترك حالة بشرية، وهي مجال للثواب والعقاب، وللإباحة، وأن الإنسان لا له ولا عليه، لكن جدير بالمسلم أن يتأمل في موضوع الترك هذا؛ لأنه ممكن يحصل له من وراءه أجراً، وقد يحصل عليه وزرا.
هذه قاعدة مهمة للغاية: ترك النبي ﷺ للفعل مع وجود الداعي إليه في عصره، وانتفاء المانع منه يعتبر سنة، يعتبر هذا الترك سنة، والزيادة عليه تكون بدعة، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام في الفتاوى، وأصل ذلك أن المسلم مأمور بالاقتداء بالنبي ﷺ فيما يفعل، وفيما يترك على حد سواء، فإذا فعل النبيﷺ شيئًا فالفعل سنة، وإذا ترك شيئًا فالترك سنة، هذا وحي وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى[النجم: 3]، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ[الأحزاب: 21]. وحتى السنة تعريفها من قول أو فعل أو ترك أو هم بفعل، فالنبي ﷺ قد يترك فعل شيئًا ليسن لأمته هذا الترك، هذه مسألة دقيقة وعميقة.

مثلاً في الحج في منى إذا وافق يوم جمعة يوم الحادي عشر، فقال الحجاج في منى: نريد صلاة الجمعة، فنقول: لقد ترك ذلك النبي ﷺ وكانت الجمعة عرفة، وما صلى جمعة في عرفة، وإنما صلى الظهر والعصر جمعًا وقصرًا في عرفة في نمرة، وخطب بالناس لا خطبة الجمعة، لكن خطبة المشهد العظيم، خطبة التذكير كما خطب في منى لأنه في الحج، خطب عدة مرات انتهازًا لاجتماع الناس خطب في منى، وخطب في عرفة، فإذًا هذه الخطبة في عرفة ما كانت خطبة جمعة، هو كان يوم جمعة والصلاة ما كانت صلاة جمعة كانت صلاة ظهر وعصر جمعًا وقصرًا.
إذًا ترك الجمعة بمنى سنة، وأفضل من فعلها، بل إن فعلها غير مشروع، تركه ﷺ فتفعله أنت، أأنت أخشى لله منه، أنت أعبد لله منه، أنت أفقه بشريعة الله منه.
هذا موضوع الترك دقيق:
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "وأما نقلهم -يعني: صحابة النبي ﷺ لتركه ﷺ فهو نوعان، وكلاهما سنة:
أحدهما: تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا، ولم يفعله،  كقوله في شهداء أحد: "ولم يغسلهم، ولم يصل عليهم" [البخاري: 1343] -ترك التغسيل وترك الصلاة على شهداء أحد، هذا الترك ليس نسيانًا، ولا إهمالاً، بل ولا اضطرارًا.
وكذلك في صلاة العيد "لم يكن أذان، ولا إقامة، ولا نداء" [مسلم: 886] ، لاحظ في صلاة العيد لم يكن أذان ولا إقامة ولا نداء، إذًا صلاة العيد ما لها أذان، ولا لها إقامة. [إعلام الموقعين:2/281].
وكذلك صلاة الجنازة، قال شيخنا عبد الرحمن بن ناصر البراك -نفع الله به-: ما يقولونه الآن صلاة العيد أثابكم الله مخالف للشرع، لأنه أذان" هذا كالأذان أو كالإقامة، صلاة الجنازة أثابكم الله، ما هذا نفس المعنى فهذه بدعة، وكونهم يخبرون عن الجنازة أنها رجل أو كذا لا مانع، يقول: الصلاة على الرجل، الصلاة على الرجلين، الصلاة على الطفل، الصلاة على المرأة، والطفل هذا من باب الإخبار حتى ينوي، أو يعرف، أو يدعو المصلي، فهذا ليس نداءً ولا إقامة، مجرد الإخبار، يقول: الصلاة على الرجل، إخبار لكن "الصلاة على الجنازة أثابكم الله" هذا أذان أو إقامة، هذا ليس من الدين، دع ما تتابع عليه الناس، وما اشتهر، ليس كل شيء اشتهر وحدث فهو صحيح، الناس عندهم بدع كثيرة.
إذًا صلاة العيد لم يكن لها أذان ولا إقامة، ولا بأي صفة من الصفات.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "وقوله في جمعه بين الصلاتين ولم يسبح بينهما، ولا على أثر واحدة منهما، ونظائره"، إذًا هذا الترك سنة، يعني: صلاة العيد ترك الأذان لها والإقامة سنة، صلاة الجنازة ترك الأذان والإقامة لها سنة، ترك التغسيل للشهداء سنة، ترك الصلاة على الشهداء سنة.
قال ابن القيم: "والثاني: عدم نقلهم لما لو فعله لتوفرت همهم ودواعيهم أو أكثرهم أو واحد منهم على نقله، فحيث لم ينقله واحد منهم البتة، ولا حدث به في مجمع أبدًا؛ علم أنه لم يكن" [إعلام الموقعين: 2/281].
فإذًا الترك النبوي إما أن يخبر به الصحابي تصريحًا: ترك النبي ﷺ كذا، أو ألا ينقل هذا الشيء عنه، والصحابة لا يمكن أن يكتموه، ولا أن يفرطوا في نقله لأنهم ينقلون الشرع، وهم مسؤولون أمام الله عن نقل الشرع، وتبليغ ما فعله نبيهم، وما تركه، فإذًا لما لم ينقلوا عرف أن الترك سنة، ولا يلزم أن يصرح الصحابي أن النبي ﷺ ترك كذا، وهذا شيء غير محصور، فكونه لم ينقل أنه تركه لا يحتاج إلى نقل، فتارة يصرح الصحابي أنه ترك، وتارة لا يصرحون بالترك، ولكن عدم نقلهم للفعل يعتبر نقلاً لعدم الفعل، نقلاً للترك، مثل عدم نقله بتلفظه بالنية في الصلاة، ما نقل صحابي واحد لو سبرت كتب السنة من أولها إلى آخرها، وعشت عمر نوح تبحث لن تجد نقلا أنه ﷺ قال قبل الصلاة :نويت أن أصلي لله -تعالى- فرض الظهر أربع ركعات مقيمًا خلف الإمام هذا، ما ورد أبدًا التلفظ بالنية إطلاقًا.

قال ابن القيم: "وتركه الدعاء بعد الصلاة مستقبلا المأمومين، وهم يؤمنون على دعائه"، يعني: بعد السلام، التفت إلى المصلين ويرفع يديه ويرفعون أيديهم جميعًا، ويدعو ويؤمنون، هذه بدعة؛ لأنه ما فعلها النبي ﷺ لو فعلها فلن يترك الصحابي نقل ذلك، في تصورك أن الصحابة يصلون خلفه خمس مرات يوميًا كذا سنة كلهم يجمعون على عدم نقل أي شيء يتعلق بالدعاء الجماعي بعد الصلاة، أو التلفظ بالنية قبل الصلاة، هل تتخيل أنهم فرطوا فيه وما نقلوه جحدًا، أو إهمالاً، أو كسلاً، أو تعمدًا لإخفاء شيء من الدين تفريطًا؟ لو كان فعله لنقلوه فقد نقلوا "كنا نعرف قراءته باضطراب لحيته" [البخاري:746]، نقلوا دقائق الدقائق، وتفاصيل التفاصيل حتى في الصلاة السرية نقلوا أشياء دقيقة، نقولها وكيف التسبيح والحركات؟ وكيف فعل وكان ينفتل عن يمينه؟ بالتفاصيل الدقيقة، ونقلوا عدد شعرات الشيب التي في عنفقته وصدغيه، نقلوا كل شيء بدقة أكثر من هذه، في أمانة أكثر من هذه النقل، في اهتمام، والله ما يمكن ولا يمكن ولا تجد لأحد من أهل الأرض نقلاً لشمائله وحركاته وسكناته وأفعاله مثلما نقل أصحاب محمد ﷺ عن نبيهم، فكونهم ما نقلوا جهرًا بنية قبل الصلاة، ولا دعاء جماعيًا بعد الصلاة، معناه أنه ما حصل.
وهذه في النقاشات في موضوع البدعة مهم جداً، هذا يعطيك أبعادًا في القضية، وحججًا فيها، وفهمًا لها في غاية الأهمية.

قال: "وتركه الدعاء بعد الصلاة مستقبل المأمومين وهم يؤمنون على دعائه دائمًا بعد الصبح والعصر، أو في جميع الصلوات، وتركه رفع يديه كل يوم في صلاة الصبح بعد رفع رأسه من الركوع الثاني، وقوله:  اللهم اهدنا فيمن هديت  يجهر بها، ويقول: المأمومون كلهم آمين" -يقصد القنوت الدائم في الفجر- لم يثبت.
"ومن الممتنع أن يفعل ذلك ولا ينقله عنه صغير ولا كبير لا رجل ولا امرأة البتة وهو مواظب عليه هذه المواظبة لا يخل بها يومًا وحداً، وتركه الاغتسال للمبيت بمزدلفة، ولرمي الجمار، ولطواف الزيارة، ولصلاة الاستسقاء والكسوف"، لكن ورد الاغتسال لدخول مكة، ورد في عرفة، وردت عن الصحابة أيضاً أشياء، لكن اغتسال للمبيت في مزدلفة، لا لرمي الجمار لا لطواف الزيارة، "ومن ها هنا يعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنة"، فإن تركه ﷺ سنة كما أن فعله سنة، "فإذا استحببنا فعل ما تركه كان نظير استحبابنا ترك ما فعله ولا فرق".
يقول ابن القيم في إعلام الموقعين: "فإذا استحببنا فعل ما تركه كان نظير استحبابنا ترك ما فعله" -هذا خطير- قال: "ولا فرق" [إعلام الموقعين: 2/281].

حجية السنة التركية

00:50:02

وترك ﷺ فعل أمر من الأمور إنما يكون حجة، فيجب ترك ما ترك بشرطين:
الأول: أن يوجد السبب المقتضي لهذا الفعل في عهده ﷺ، -هذا كلام مهم- لما يقول قائل: المكريفونات بدعة، تستعملونها في الأذان في الصلاة في المساجد بدعة، ما فعله ولا استعمله بدعة، فالرد أن تركه ﷺ فعل أمر من الأمور إنما يكون حجة فيترك ما ترك بشرطين:
الأول: أن يوجد السبب المقتضي لهذا الفعل في عهده ﷺ، فإذا ترك فعل أمر من الأمور مع وجود المقتضي لفعله -بشرط انتفاء المانع- علمنا بذلك أنه ﷺ إنما تركه ليسن لأمته تركه، أما إذا كان المتقضي لهذا الفعل منتفيًا فإن تركه ﷺ  لهذا الفعل عندئذ لا يعد سنة، بل إن فعل ما تركه ﷺ يصير مشروعًا غير مخالف لسنته متى وجد المقتضي لذلك، ودلت عليه الأدلة الشرعية.
مثال قتال أبي بكر المرتدين قتال أبي بكر لمانعي الزكاة.
الشرط الثاني: انتفاء الموانع لأنه ﷺ قد يترك فعل أمر من الأمور مع وجود المقتضي له، مثلاً قتل  المنافقين، قتل عبد الله بن أبي، هذا كان له داعي، كان له فائدة في العهد النبوي وجد المقتضي، آذوه في عرضه وأهله ودينه وإخوانه، لماذا ما فعله مع وجود المقتضي؟ وجود مانع لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه [البخاري: 4905، ومسلم: 2584] لئلا تنقل الأخبار في جزيرة العرب أن الذي دخل في دينه مالهم أمان، هؤلاء معه يصلون قتلهم، فيهم واحد محسوب عليه من أصحابه داخل فيهم فجأة ذبحه، ولذلك بعض الطوائف المصنوعة لتشويه الإسلام يدرسون السنة وينظرون أين الذي ترك ويفعلونه، أين الذي فعل ويتركونه، لتشويه الإسلام.
الشرط الثاني: انتفاء الموانع، لأنه ﷺ قد يترك فعل أمر من الأمور مع وجود المقتضي له في عهده بسبب مانع، وذلك كتركه ﷺ قيام رمضان؛ لماذا ما واظب على صلاة التراويح في رمضان؟ لها مقتضي لها سبب أنه يجمع الناس، فعلها أيامًا ثم تركها لوجود مانع، خشية أن تفرض على المسلمين، بعد وفاته المقتضي موجود والمانع زال، عمر فقيه فعل، والنبي ﷺ علل ذلك بخشيته أن يفرض عليهم، فإذا زال المانع بموته ﷺ كان فعل ما تركه ﷺ إذا دلت على هذا الفعل الأدلة الشرعية مشروعًا غير مخالف لسنته، وكذلك كما فعل عمر في جمعه الناس على إمام واحد في صلاة التراويح، بل إن هذا العمل يكون من سنته ﷺ لأنه عمل بمقتضاه، انتهى من قواعد في معرفة البدع.
يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: "والترك الراتب سنة كما أن الفعل الراتب سنة" [مجموع الفتاوى: 26/172].
موضوع الترك هذا ما انتهينا منه سنكمله -إن شاء الله- لدقته وحساسيته غدًا -بمشيئة الله تعالى-.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.