الجمعة 20 رمضان 1445 هـ :: 29 مارس 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

معنى العبادة


عناصر المادة
الخطبة الأولى
حقيقة العبادة
الافتقار إلى الله لب العبادة
أركان العبادة
الخطبة الثانية
استقبال رمضان
آداب صلاة الكسوف

الخطبة الأولى

00:00:05

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

حقيقة العبادة

00:00:25

الحمد لله الذي جعلنا عبادًا له، وخلقنا لعبادته، وامتن على عبده ونبيه ﷺ بهذا المقام الرفيع، وهو مقام العبودية، فقال تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [سورة الفرقان:1]، وقال سبحانه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [سورة الإسراء:1]، وقال عن المسيح ابن مريم: لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [سورة النساء:172]، أي: لن يستنكفوا أيضًا أن يكونوا عبيدًا لله وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا [سورة النساء:172]، جعل العبودية واجبة، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، وأهم واجب على المكلف أن يعبد ربه، خلقنا لذلك، وأجوبه علينا، وهذه العبادة التي خلق الله الثقلين الجن والأنس لأجلها أنواع: أقوال وأعمال من صلاة وصوم وزكاة وحج وسجود وطواف وذبح ونذر وخوف ورجاء واستغاثة واستعانة واستعاذة ونحو ذلك، بالجوارح وبالقلب باللسان بالأعضاء كلها، وهكذا من بر والدين، وصلة أرحام، وأمر بالمعروف، وإحسان للجار واليتيم، وهكذا أعمال القلب من الخوف والرجاء والمحبة والإنابة والصبر والشكر والرضا والرجاء، وهذه العبادة لا تنحصر في حد ضيق، فكل ما شرعه الله لنا من الأقوال والأعمال والنيات فهو عبادة، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ [سورة البقرة:21]، أول أمر للناس في الكتاب العزيز وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [سورة الإسراء:23]، كمال المخلوق أن يكون عبدًا لله.

كل ما ازداد العبد عبودية وتحقيقًا لها ازداد كمالًا وعلت درجته عند ربه، والعبد كلما كان أعبد لله كان أعظم عند الله، هذه العبودية تنطوي على معنى الذل والخضوع، الافتقار: إظهار المسكنة لرب العالمين.

العبودية استسلام، وكلما كان العبد أكثر ذلًا لربه، وأكثر استسلامًا لربه، وأكثر طاعة لربه؛ فإنه يكون أعلى عند ربه، والقلب لا يصلح ولا يفلح ولا ينعم ولا يسر ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة الله، هكذا فطره الله.

لماذا يحس الناس بالفراغ؟ لماذا يحسون بالوحشة؟ لماذا يندفع البعض للانتحار؟ إنها وحشة بسبب قلة العبودية أو عدمها، وهؤلاء الذين يعيشون هملًا للطعام والشراب والشهوات ما عرفوا عبودية الله، إن هنالك في الإنسان روحًا لا يمكن أن تطمئن ولا تسكن إلا بعبودية الله.

إن هذه العبودية هي السرور الذي يدخل على الصدر فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ [سورة الأنعام:125]، إن هذه العبودية هي النعيم الذي في الدنيا حقيقة، قال أحد السلف: "مساكين أهل الغفلة خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها"، قيل له: وما هو؟ قال: "محبة الله والأنس به".

العبادة تثمر طيبة العيش مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [سورة النحل:97]، الإقبال على الله والإنابة إليه والرضا به، وامتلاء القلب من محبته، ولهج اللسان بذكره، ثواب عاجل لصاحبه، فرح وسرور، نعيم في الدنيا، طمأنينة قلب، وانشراح صدر، لا نسبة لعيش الأغنياء إليها البتة، "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"، هذه العبودية لله تحرر المسلم من عبادة غير الله، ومن الاستسلام للآخرين، إنها تجعله حرًا طليقًا، إنها تجعله عزيزًا بالله مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [سورة فاطر:10].

الافتقار إلى الله لب العبادة

00:05:50

ومن أخص خصائص العبودية، أن تعلم -يا عبد الله- أنك مفتقر إلى الله، لا غنى لك عنه مهما كنت ذا مال، مهما كنت شابًا قوي الجسم، مهما كنت ذا سلطان ومنصب ونفوذ، لا غنى لك عن الله، ولو شاء الله أن يسلبك ذلك في لحظه لحصل، حقيقة العبودية ولبها الفقر إلى الله يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [سورة فاطر:15]، بهذه توسل موسى إلى ربه لما خرج طريدًا من بلده، فسقى للمرأتين، ثم تولى إلى الظل منهكًا متعبًا جائعًا، وكان في طريق السفر يخشى أعداءه، كان يخاف من أن يصلوا إليه، فهو يريد أمنًا، ويريد شبعًا، ويريد مأوى فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [سورة القصص:24]، لقد خرج منها خائفًا يتقرب، لما وصل مدين جائعًا منهكًا متعبًا فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [سورة القصص:24]، أنا فقير إليك يا رب، أنا محتاج إلى خيرك يا رب، حقيقة هذا أن لا تكون لنفسك، وإنما تكون كلك لله، الفقر الحقيقي دوام الافتقار إلى الله في كل حال، الافتقار إلى الله أن تجرد نفسك من حظوظها وأهوائها وتكون مستسلمًا لأمره ونهيه، وهذه العبادة العظيمة، هذا الافتقار إلى الله، هذا الذل بين يدي الله، هو الذي يعبر عنه العبد في صلاته عندما يقف عند ربه خاشعًا متذللا في سكينة مطأطأً رأسه، ينظر إلى موضع سجوده، ثم يحني ظهره لربه توقيرًا وتعظيمًا، ثم يعفر جبهته بالأرض، مستديرًا منيبا، وهكذا يكون في حال سجوده أعظم ما يكون، ولذلك قال: وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم[1]، لأنه لما وضع أعلى شيء فيه لرب العالمين كان أقرب ما يكون لرب العالمين، لما وضع أعلى شيء فيه -وهو جبهته- لله على الأرض صار أقرب ما يكون إلى الله، ولذلك صار مرجو الإجابة، فليسأل الآن، وليدعو في سجوده، والله تعالى علم مكانه، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون، لا يخفى عليه إغماض الجفون، ولا لحظ العيون، ولا ما استقر في المكنون، يحتاجه كل شيء في كل شيء، وهو غني عن كل شيء سبحانه ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [سورة غافر:92]، أما الإنسان فمخلوق ضعيف يفتقر جسمه للطعام والشراب؛ حتى يبقى، هذا تنهشه الأمراض والأعراض، هذا يسلب ما يملك في لحظات، هذا يزول عنه سلطانه في لحظات، هذا يولي من الدنيا ولا يأخذ منها شيئًا، هذا تؤذيه بقة، وتقتله شرقه، هذا محتاج إلى الله دائمًا مهما أوتي من متاع الدنيا فهو لا يزال بحاجة إلى ربه؛ لأن الله هو الغني، لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [سورة البقرة:255]، والله تعالى امتن على محمد ﷺ بقوله: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [سورة الضحى:8]، وأغناك عن الناس، وأغناك بالمال، وأغناك بغنى القلب الذي يغني عن كل شيء من هذه الدنيا، فلا يكون العبد ذليلًا إلى الناس، ولا مادًا يده إليهم، وهكذا يكون الفقر إلى الله مغنيًا عن الخلق، بل إن الفقر إلى الله يجعل صاحبه يتحمل أمورا كثيرة من هموم الدنيا وغمومها مما في الدنيا من الحاجات، يقوى فلا يكون عبدًا لها، وأما الذي لا يفتقر إلى ربه فإنه تستولي عليه هذه الحاجات الدنيوية حتى لربما سرق من أجل الكماليات.

عباد الله: استغنى الناس بالمال، واستغنى المؤمنون بالكبير المتعال، فرح الناس بالحطام، وفرح المؤمن بأُنس العزيز العلام، أدرك عظمته فعبده، والتجأ إليه ففتقر إليه، وهكذا يكون الخرور للسجود لله يزيد الخشوع كما قال الله: وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [سورة الإسراء:109]، وأعلم الناس بالله أخوفهم منه، ورهبت العبد من الله على قدر علمه به، لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [سورة البقرة:255]، وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [سورة الأنعام:56]، كلما ازداد العلم بالله ازداد الخوف منه، وازدادت الخشية، وازداد التعظيم وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:60]، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [سورة الزمر:67]، هذا القرآن كلامه تجلى فيه لعباده بصفاته، فتارة يتجلى في باب الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس، وتخشع الأصوات، ويذوب الكبر كما يذوب الملح بالماء، الذي يقرأ كلام الله وفيه أن من أسماءه المتكبر من أسماء الله، ولا يليق الكبر لأحد إلا لله، فهو المتكبر ، وحق له ذلك، أما نحن المخاليق فإن الكبر في أمرنا وشأننا صفة نقص عظيمة تلحق صاحبها بالنار، وتمنعه الجنة، لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر[2]، الجبروت صفة نقص للمخلوق؛ لأن الجبار من المخاليق مأواه النار، كل عتل جبار هذا مأواه النار، لكن الله من أسمائه الجبار والعظيم، وهذه العظمة وهذا الكبرياء إزاره ورداءه ، اتصف بهما، اتصف بالعظمة والكبرياء، فمن تأمل في كبرياء الرب ذاب كبريائه هو، وانكسر لله، ويذوب كبره كما يذوب الملح في الماء.

وتارة يتجلى تعالى في صفات الجمال والكمال في كتابه لعبده فيستفيد العبد حبًا له، وكل ما زادا العبد حبًا لربه مما يرى من أسمائه وجليلها، وصفاته وعظيمها؛ فإنه يشعر بالعجز والتواضع مع المحبة والخوف والرجاء، ولا يمكن لمثل هذا العبد المتأمل في هذه الآيات أن يتكبر وهو يقرأ قول الله: فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ۝ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ ۝ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ۝ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ على بعثك مرة ثانية يا ابن ادم لَقَادِرٌ ۝ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [سورة الطارق:5-9].

يا عبادي كلكم ظال إلا من هديته، فاستهدوني اهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل إلى البحر فهل تنقص الإبرة شيئًا إذا أدخلت البحر؟ وهل ينقص البحر شيئًا إذا أخرجت منه الإبرة يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه[3]، كلما ازداد القلب حبًا لله ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية ازداد حرية عند الناس، والقلب فقير إلى الله من جهة العبادة والاستعانة، يحتاج إلى العبادة، ولا يمكن أن يعبد إلا بعون من الله، ولذلك يقول الإنسان في الصلاة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] فنحن بحاجة إلى العبادة وبحاجة إلى العون والتمكين منها، ولذلك يقول وهو يجيب المؤذن: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله[4]، فلولا الله ما تمكن من الصلاة، لولا أن أمكنه منها ما تمكن.

أركان العبادة

00:17:39

عباد الله: إن الإنسان الذي يعبد ربه بالنسبة للمعاني من الخوف والرجاء والمحبة، كالطائر يطير: رأسه المحبة، وجناحه هذا الخوف، والآخر الرجاء، فلو قطع الرأس مات الطائر، ولو انكسر الجناح كان عرضة لكل صائد وكافر، والخوف سوط الله يسوق به عباده إلى المواظبة على الأعمال، وترك المحرمات، وفعل الواجبات، وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله، فإنك إذا خفته هربت إليه، لأنك أين ستهرب منه وهو يدركك أينما كنت، وكم أطلق الخوف من سجين في غفلته المستحكمة؟ وكم فك من أسير للهوى أضاعت فيه همته؟ وكم أيقض من غافل التحف بلحاف شهوته؟ وكم من عاق لوالديه رده الخوف عن معصيته؟ وكم من فاجر في لهوه أيقضه الخوف من رقدته؟ وكم من عابد لله قد بكى من خشيته؟ وكم من مسافر إلى الله رافقه الخوف في رحلته؟ وكم من محب لله ارتوت الأرض من دمعته؟ الخوف ليس مقصودًا لذاته، ولكنه لكي نرتدع ونعود، ولذلك في الجنة لا يوجد خوف لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:112]، ومن خاف اليوم أمن غدًا، ومن أمن اليوم خاف غدًا.

وأما الرجاء فإنه يسهل قطع المسافات، الرجاء مدح الله أهله، الرجاء هو الروح التي تجعلك تمضي ولا تيأس، وتعمل ولا تحبط، يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي[5]، هؤلاء الذين يدعون ربهم يرجون رحمته، ويخافون عذابه، ما هو الرجاء؟ حسن الظن بالله في قبول الطاعة، إذن هو عمل، ثم بعد ذلك رجاء، وليس رجاء بلا عمل؛ لأن الرجاء بلا عمل صناعة المفاليس البطالين، وأما الرجاء أن تعمل وترجو أن يقبل العمل، وإذا أذنبت أنت تتوب وترجو أن تقبل التوبة، هذا الرجاء الذي يجعل الإنسان يعيش بالأمل ويدفع للعمل، ثم المحبة التي تجعل للعمل حلاوة، وللحياة طعمًا، هذه المحبة التي توصل أصحابها إلى درجات لم يكونوا لغيرها بالغين، هذا الخوف والرجاء والمحبة.

نسأل الله أن يجعلنا من عباده حقًا، اللهم اجعلنا ممن يعبدك كما تريد يا رب العالمين، اللهم ارزقنا عبادتك وحلاوتها، اللهم ارزقنا عبادتك وخشيتك، اللهم ارزقنا عبادتك والتقوى، اللهم ارزقنا التمسك بالعروة الوثقى، اللهم أحينا عابدين وتوفنا على العبادة لك يا رب العالمين.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

00:21:41

الحمد لله الكبير المتعال، أشهد أن لا إله إلا هو الواحد القهار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى صحبه والآل، اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ونبيك، النبي البشير النذير، وصاحب الشفاعة المقام المحمود، وحامل لواء الحمد يوم الدين، اللهم اجعلنا من أهل شفاعته، وأوردنا حوضه، اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا أن تجعلنا بعبادتك آمنين مطمئنين، نشهد أن لا إله إلا الله، نشهد أن محمدًا رسول الله.

استقبال رمضان

00:22:35

عباد الله: وعلى مقربة منا -نسأل الله أن يبلغنا- شهر كريم، نستقبل فيه موسمًا عظيمًا، ومضمارًا يتسابق فيه الصالحون، إنه فرح للمؤمنين، وسرور وبهجة وحبور، يستقبله المسلمون بالغبطة والاستبشار والإنابة إلى الواحد القهار طول الطاعات، ويتهيؤون لذلك، كان أهل هذا الإسلام والدين يشتاقون لرمضان، كانوا من قوة الإيمان يترقبونه، ولما حضر رمضان قال رسول الله ﷺ: قد جاءكم رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها، فقد حرم[6] وهو حديث صحيح، ولا عجب أن تضطرم النفوس -قلوب المؤمنين- لذلك الشهر وتحن، وأن تتطلع النفوس وتشتاق، أرأيتم قط طالبًا مجدًا يقتحم لجة الاختبارات دون استعداد مسبق؟ أرأيتم قط تاجرا ناجحًا يقبل عليه موسم فلا يتهيأ؟ أرأيتم قط مزارعًا يذر البذر وقت الزرع ويرجو الحصاد؟ إنها سنة الله أن لا يدرك إلا المجد ولا يحصل إلا الباذل.

إذا أنت لم تبذل وأبصرت حاصدًا ندمت على التفريط في زمن البذر

هذا رمضان على الأبواب، فينبغي أن تستعد النفوس له، تترقبه نفوس المؤمنين، وهي مع ذلك تعمل في شعبان وقبله، ولكن تتضاعف الأعمال، ويكون الحماس في أوجه، قال بعضهم: شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر سقي الزرع، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع، وقال بعضهم: مثل شهر رجب كالريح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثل المطر، ومن لم يزرع ويغرس في رجب ولم يسقِ في شعبان، فكيف يريد أن يحصد في رمضان، فالتهيؤ حاصل من قبل رمضان هذا بالنسبة لأهل الإيمان، وأم أهل الغفلة فلا يستيقظون إلا في رمضان، ويبدأون بالتفكير في ماذا نعمل؟

مضى رجب وما أحسنت فيه وهذا شهر شعبان المبارك
فيا من ضيع الأوقات جهلًا بقيمتها أفق واحذر بواقك
تدارك ما استطعت من الخطايا فخير ذوي الفضائل من تدارك

شعبان يغفل الناس فيه عن العمل، ولذلك كان النبي ﷺ يكثر في الصيام فيه، ومن العبادات التي تشرع فيه هذا الصيام، ولكن ما صامه ﷺ كله، وإنما صام رمضان كله، ونهى عن تقدم رمضان بيوم أو يومين، فيكون للنفوس اشتياق لرمضان، وطعم جديد عندما يأتي الصيام، وأما من كانت له عادة معتادة، كمن اعتاد صيام الاثنين والخميس فلا حرج أن يصوم الاثنين، ولو كان قبل رمضان بيوم أو يومين، وكذلك من كان عليه قضاء فإنه يصوم في الجمعة، ويصوم قبل رمضان بيوم أو يومين ليقضي ما عليه، ولا يشرع صيام يوم الشك، وهو اليوم الذي يقول بعض الناس إذا كانت تسع وعشرين من شعبان يقول: هذا الثلاثين من شعبان، قد يكون أول رمضان فالأصل احتياطًا، فهذا الاحتياط لا معنى له، ولذلك قال عمار بن ياسر: "من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم ﷺ"[7]، لأن الذي يكفينا نحن صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته[8]، وأما الاحتياطات فلا معنى لها مع ورود هذه النصوص، وبعض الناس يودع شعبان بظاهرة الشعبنة هذه، وهي في الحقيقة عند بعضهم شيطنة، وليست شعبنة؛ لأنهم يريدون اغتنام تصفية كل لحظة قبل رمضان بالمعاصي، كما قال قائلهم:

إذا العشرون من شعبان ولت فواصل شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغار فإن الوقت ضاع عن الصغار

وهكذا يريدون تصفية شرب الخمر إلى النهاية، وهكذا يريدون المحرمات، ويودعون شعبان بها، مع أن شعبان شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله، وينبغي أن تكون نفوس المسلمين في إعداد لتلقي الشهر، وليست في معصية، وكيف سيأتي رمضان على من كان يودع شعبان بالمعاصي؟

عباد الله:

يتثبت دخوله برؤية هلاله لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له[9]، وقال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين[10]، ولذلك فإن دخوله يعرف برؤية هلاله، وهذه الرؤية هي الرؤية الشرعية، وهي الرؤية بالعين، ولا يضر إن كان في طائرة، أو له مرصد، أو كان له عدسة، فالمهم أن تكون بالعين، إذا رآه الثقة في دينه ونظره، إذا رآه لزم المسلمين الصوم، وأما الاعتماد على الحسابات فإنه اسقاط للنص، وابطال له، فإذا قال: صوموا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة[11]، فقال: نحن لا نريد أن نراه ولا نتطلع لرؤيته، والرؤية عندنا ليس لها قيمة، والحسابات ستكشف الأمور، وإن غم علينا أو لم يغم علينا سنعمل بالحسابات، ويقول: هذا النص من زمان، والدنيا تغيرت ونحو ذلك، معلوم أن نصوص الشريعة لكل زمان ومكان، والنبي ﷺ لما أطلق النص لم يرد به عهده فقط، ولقد كان في عهده من الحسابيين والفلكيين في اليونان وغيرهم، من خبراء الحسابات الفلكية بالعالم من كان حسابه دقيقًا معلومًا، وليس علم الفلك من ما اخترق في هذا الزمن، الحسابات قديمة، والنصوص لكل زمان ومكان، ولم يكن النبي ﷺ: صوموا أنتم في هذا العهد، أو في حياتي، أو في حياة الخلفاء، أو خصه بالقرون الثلاثة الأولى مثلًا، وإنما أطلق العبارة للأمة، كما أطلقها في غيرها من النصوص صوموا لرؤيته، وارشدنا ماذا نعمل إذا غم علينا؟ أكملوا عدة شعبان ثلاثين ولا حرج في استعمال المراصد والمناطيد والطيارات إذا كانت سترى، إذا كان الهلال بالنهاية سيرى بالعين، فمن صعد في طائرة أو منطاد فرأه فقد رآه، فالمهم تطبيق النص صوموا لرؤيته ومعلوم ما معنى الرؤية، وليست الرؤية حسابات.

عباد الله:

لا حرج بالتهنئة بدخول رمضان، ومن هنأك فأجبه لأن الله قال: وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [سورة النساء:86].

آداب صلاة الكسوف

00:31:27

وربما يأتي على الناس الكسوف، ويقولون ماذا نفعل فيه؟ وهو ذهاب ضوء الشمس أو بعضه، فهذا من الآيات يخوف الله عباده بذلك؛ لأن الله قال: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [سورة التكوير:1]، يوم القيامة وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [سورة القيامة:9]، لُفت وذهب ضوؤها، وهذا الكسوف ذهاب لضوء الشمس أو بعضه، فيذكرك -يا عبدالله- بيوم القيامة، يوم ترى هذه الشمس قد لُفت وذهب ضوؤها، ولذلك فزع النبي ﷺ إلى الصلاة، واليوم يفزعون إلى المناظير والنظارات الخاصة، ويفزعون إلى قمة جبل، ويفزعون للآلات التصوير، ويقولون كالكفار الاستمتاع بالرؤية، لرؤية الكسوف، استمتعوا برؤية الكسوف، وأما النبي ﷺ، فإنه قد خرج من بيته فزعًا إلى الصلاة مباشرة، وهؤلاء يريدون أن يجعلونا نعيش في جو آخر غير جو الخوف من الآخرة، وإنما جو الاستمتاع برؤية الكسوف كما يقولون، هذا الكسوف آية من آيات الله، وأما هؤلاء فإنهم نسوا الآخرة في غمرة الدنيا.

يا رب هذا العصر ألحد عندما سخرت يا رب له دنياك
ما كاد يطلق للعلى صاروخه حتى أشاح بوجهه وقلاكا
واغتر حتى ظن أن الكون في يمنى بني الإنسان لا يمناكا
أوما درى الإنسان أن جميع ما وصلت إليه يداه من نعماكا
أوما درى الإنسان أنك لو أردت لضلت الذرات في مخباك
لو شئت يا ربي هوى صاروخه أو لو أردت لما استطاع حراكا
يا أيها الإنسان مهلًا واتئد واشكر لربك فضل ما أولاكا
واسجد لمولاك القدير فإنما مستحدثات العلم من مولاكا

فهؤلاء الذين يغترون بالعلم، علم الدنيا يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [سورة الروم:7].

عباد الله: ركعتان بركوعين وسجودين وقراءتين في كل ركعة، ويدرك المأموم الركعة إذا أدرك ركوعها الأول، فإذا فاته ركوعها الأول قضاها بعد الإمام بصفتها بركعتين وسجدتين وقراءتين، فاتحة ويقرأ بعدها ما تيسر قبل الركوع الأول، ثم يرفع، وبعدها أيضًا الفاتحة ويقرأ ما تيسر هكذا في الركعة الأولى، ثم الركعة الثانية.

أيها المسلمون: ولا يجب أن تستمر الصلاة إلى أن ينتهي الكسوف، فإذا صلى وسلم ولا زال الكسوف قائمًا فلا يجب عليه إعادة الصلاة، أو أن يصلها مرة أخرى، والسنة أن تصلى جماعة في المساجد، وحتى لو كان في النهار فإنه يجهر به الإمام، وينادى لها الصلاة جامعة، ولابأس للنساء من حضورها، ويذكر الإمام الناس بعدها، وهذا الكسوف لو اجتمع مع صلاة الظهر: فإن كسفت الشمس قبل دخول وقت الظهر بدأ الناس بالكسوف، وإن صار بعد الظهر صلوا الظهر أولًا، ثم صلوا الكسوف، ولا يدخل المسبوق مع الإمام في الكسوف وينويها ظهرًا، لأن كيفية الكسوف غير كيفية الظهر، ويشرع عند الكسوف الصدقة والدعاء وذكر الله والاستغفار، والتعوذ بالله من عذاب القبر، كما وردت ذلك النصوص الشرعية، وقال ﷺ: فإذا رأيتم شيئًا من ذلك ففزعوا إلى ذكره ودعاءه واستغفاره[12]، وفي رواية: فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي[13]، وفي رواية " فقال ما شاء الله أن يقول ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر"[14].

عباد الله:

نحن نعيش مع ربنا وهكذا ينبغي لنا أن نعبده دائمًا، وهكذا ينبغي أن نكون في كسوف وفي غيره، في رمضان وفي غيره.

فنسأل الله أن يتقبل العمل وأن يغفر الزلل، وأن يتوب علينا سبحانه، ونسأله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، نسأله أن يتغمدنا برحمته، نسأله أن يمحوَ السيئات، ويغفر الزلات، ويقيل العثرات، اللهم اقضِ ديوننا، اللهم اشفِ مرضانا وارحم موتانا، اللهم استر عيوبنا، اللهم إنا نسألك أن تبلغنا رمضان، وتجعله لنا عونًا على طاعتك، اللهم اجعلنا فيه على ما تحب وترضى يا رب العالمين، اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في الأوطان والدور، اللهم وأعن الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون ۝ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ۝ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الصافات:180ـ 182].

  1. ^  رواه مسلم: (479).
  2. ^  رواه مسلم : (91).
  3. ^  رواه مسلم: (2577).
  4. ^  رواه البخاري: (613)، ومسلم: (385).
  5. ^  رواه الترمذي:(3540).
  6. ^  رواه أحمد: (7148).
  7. ^ رواه البخاري: (3/ 27).
  8. ^  رواه البخاري: (1909)، ومسلم: (1081).
  9. ^  رواه مسلم: (1080).
  10. ^ رواه البخاري: (1909)، ومسلم: (1081).
  11. ^  رواه مسلم: (1081).
  12. ^  رواه البخاري: (1059).
  13. ^ رواه مسلم: (904).
  14. ^ رواه البخاري:(1050).