الجمعة 20 رمضان 1445 هـ :: 29 مارس 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

أدركوا الفتوى قبل أن تضيع 1


عناصر المادة
الخطبة الأولى
أهمية الفتوى
حرمة كتم الفتوى
الحاجة إلى الفتوى
التورع عن الفتوى
الخطبة الثانية
شروط وآداب المفتي
قدرة الله في الكون

الخطبة الأولى

00:00:07

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. 

أما بعد:

أهمية الفتوى

00:00:30

فإن الله قد أوجب على عباده سؤال أهل الذكر إذا كانوا لا يعلمون فقال: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَسورة النحل43، وأوجب على العلماء أن يبينوا للناس ما نزل إليهم من ربهم، فقال تعالى: وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَسورة آل عمران187. وتوعد الذين يكتمون العلم وهم يعلمونه والناس محتاجون إليه فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (سورة البقرة159).

وقال النبي ﷺ: من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة[رواه أبو داود3658]. وبهذا يلتقي الطرفان المستفتي والمفتي على معرفة أحكام الله، فمن لا يعلم يجب عليه أن يسأل، وأهل العلم يجب عليهم البيان.

والفتوى هي الإبانة، والله تعالى يفتي يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ سورة النساء176، فيبين الحكم ، الفتوى: هي الإخبار بحكم الله تعالى عن دليل شرعي، والفتوى مثل الحكم لكن الحكم يزيد عليها بأنه ملزم، يلزم به القاضي ذو السلطان المحكوم عليه، وتجب الفتوى على صاحب العلم.

حرمة كتم الفتوى

00:02:42

ويحرم الكتمان بشروط، ومنها:

أن يكون عالماً بالحكم، أو متمكناً من تحصيل العلم به، فإن لم يكن كذلك حرمت عليه الإجابة؛ لأنه حينئذ يكون قائلاً على الله بغير علم، ومفتياً على جهل، فيكون إفتاؤه ضلالاً وإضلالاً.

وثانياً: في شرط وجوب الكلام والبيان للحكم أن تكون المسألة قد وقعت، فإن لم تكن وقعت لم يجب الجواب؛ لعدم ضرورة السائل وحاجته إليها، اللهم إلا أن يكون السائل طالب علم يريد معرفة حكمها لعلها تقع، وجبت إجابته حينئذ.

وثالثاً: أن لا يترتب على الفتوى مفسدة أعظم من السكوت عنها؛ لأن المفسدة لا تزال بمفسدة أعظم منها، وقد ترك النبي ﷺ إعادة بنيان الكعبة على قواعد إبراهيم لما كان أهل مكة حدثاء عهد بالجاهلية، وخشي النبي ﷺ أن يكون تغيير بنيان الكعبة سبباً لصدهم عن الدين وفتنتهم، ومن هذا أن يكون عقل السائل لا يحتمل الجواب، فقد يحمله جهله وجرأته على رد الحق أو فهمه على غير وجهه. ولذلك لما روى معاذ حديث حق العباد على الله ماذا قال النبي ﷺ؟ الحديث في البخاري ومسلم عن معاذ قال: كنت ردف النبي ﷺ على حمار يقال له: عفير، فقال: يا معاذ هل تدري ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً. فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر به الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا[رواه البخاري2856]. أي يتركوا العمل فهماً خاطئاً منهم لهذا الحديث، مثل ما يفهم كثير من العامة حديث: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة[رواه أبو يعلى الموصلي3899]. فيفعلون من المعاصي ما يفعلون ظناً منهم بأن مجرد قول هذه الكلمة كافٍ في دخول الجنة، وهذه الكلمة لها شروط وأحكام وواجبات ومستلزمات، كلمة عظيمة، لكنهم لا يفهمون مستتبعاتها وشروطها فيتورطون في أوحال المعاصي والآثام وترك الواجبات.

وقال علي بن أبي طالب: "حدثوا الناس على قدر عقولهم، أتريدون أن يكذب الله ورسوله".

وقال عبد الله بن مسعود: "ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة".

ورابعاً من أسباب إيجاب الجواب على المفتي: أن يكون المستفتي طالباً للحق باحثاً عنه، فإن كان يسأل تعنتاً، ومفاخرة، ومباهاة، وإحراجاً، وإظهاراً لعلمه، أو يسأل طلباً لفتيا يتلاعب بها، ويحرفها، ويجعلها حجة على باطله، أو يسأل لتحصيل ما وافق هواه، فيأخذ إن وافق ويرد إن لم يوافق هواه ويبحث عن مفتٍ آخر لم يجب جوابه حينئذ.

وقد حكى الله تعالى عن اليهود أنهم كانوا يأتون النبي ﷺ يتحاكمون إليه في أشياء، ولا قصد لهم إلا اتباع الهوى، يقول بعضهم لبعض قبل الذهاب للاستفتاء: إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا أي: الذي يعجبكم فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْسورة المائدة41، إن حكم بالحكم الذي يوافق هواكم اقبلوا حكمه، وإن لم يحكم لكم به فاحذروا أن تتابعوه على ذلك، فكل الذين يذهبون للاستفتاء اليوم يطلبون جواباً يوافق هواهم، إذا أعجبهم جواب المفتي، أو الشيخ أخذوا به، وإلا بحثوا عن واحد آخر، هؤلاء أتباع اليهود في هذه المسألة، مذهب اليهود إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا الذي يعجبكم فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْسورة المائدة41، فاليهود سلفهم في هذا المسألة.

ولذلك خير الله تعالى نبيه محمد ﷺ في الحكم بينهم أو عدمه، فقال: فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ سورة المائدة42 لماذا؟ لأنهم ليسوا طلاب حق. ليسوا من السائلين لمعرفة الحق، وإنما أناس يتبعون الهوى. ولذلك لم يوجب الله على نبيه أن يجيبهم وإنما قال له: فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَسورة المائدة42.

الحاجة إلى الفتوى

00:08:51

وحاجة المجتمع المسلم إلى الإفتاء كبيرة؛ لأن المجتمع المسلم إذا انعدم فيه القائمون بالإفتاء بحيث لا يجد الناس من يتعلمون منه حكم الله في عباداتهم ومعاملاتهم وشؤونهم، فإن ذلك سيؤدي إلى تزايد الجهل بالشرعية، وتخبط الناس خبط عشواء فيقعون في الحرام، ويحرمون الحلال، ويرتكبون المعاصي من حيث يشعرون أو لا يشعرون، ويعملون السيئات وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. وهكذا يحل الخلل بعباداتهم ومعاملاتهم، ولذلك فإن نصب المفتين، والتصدي لهذا من فروض الكفايات، ولو أننا أردنا أن نتصور مدينة تخلو من الأطباء بالكلية، كيف يكون حال أهلها؟

فخلو البلد من المفتين أشد وأعظم؛ لأن الضرر على الدين أعظم من الضرر على الجسد، فكيف يمكن أن يستغني المسلمون عمن يفتيهم فيما أشكل عليهم من أمر دينهم؟

ثم إن قضية الإفتاء ومنصبه خطيرة جداً في الدين، ولذلك وصف العلماء المفتي بأنه موقع عن الله، فالمفتي يوقع عن الله، ويقول: إن هذا الحكم هو حكم الله في هذه المسألة، ومن هنا كانت خطورة الفتوى وتحريم الفتوى بغير علم، قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ سورة الأعراف33. فجعل الكلام على الله بلا علم، الفتوى بغير علم قرينة للشرك؛ لأنه قال: وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ سورة الأعراف33، هذا حرمه، وقال محذراً: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ سورة النحل116. وقال قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ سورة يونس59. وكفى بهذه الآية زاجرة زجراً بليغاً في الإفتاء بغير علم، وأن لا يقول شخص شيئاً في الدين إلا بعد إيقان وإتقان، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت وإلا فهو مفترٍ على الله.

وقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا[رواه البخاري100]، وقد وقع ما أخبر به النبي ﷺ، فضاع منصب الإفتاء بين كثير من المسلمين، وأصبح من يملؤه في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي أناس من أهل الجهل وأصحاب الهوى والمبتدعة وأهل الدنيا، وأصحاب الأطماع الذين لا يخافون الله ، يبيعون الدين بالدرهم والدينار، ويرضون الناس ولا يرضون الله، والله أحق أن يرضوه لو كانوا مؤمنين، لكن كثيراً منهم ليسوا بمؤمنين، فحصل من الخلل في حياة الناس في أنحاء العالم الإسلامي ما حصل وتشعبت الأقوال وتاه العامة ولم يسلم من خلق الله إلا قليلون.

وهكذا يعصم الله من الهلكة من أراد وجهه واتبع نبيه ﷺ، وقد يرى الذي يفتي أن الأنسب أن يحيل السائل على عالم آخر يتولى الإجابة لأسباب، ومن ذلك أن تكون المسألة اجتهادية، فيتورع عن الفتوى فيها، وهذا يبين أنه لو سألك سائل فقال: كم صلاة في اليوم واجبة؟ فإنك تجيبه بأنها خمس؛ لأن المسألة ليست اجتهادية، ولو قال: متى يبدأ الصيام ومتى ينتهي؟ فتقول: يبدأ بطلوع الفجر وينتهي بغروب الشمس، المسألة ليست اجتهادية، كم إله في الكون؟ فتقول: إنما هو إله واحد؛ لأن المسألة ليست اجتهادية، أنت تعلمها يقيناً، العامي يجيب في هذه المسألة، لكن عندما تكون اجتهادية فلا يجوز أن يتكلم إلا أهل الاجتهاد، وأهل الإفتاء، لكن الجهل يجعل أحياناً بعض الناس يتصور المسائل الاجتهادية مسائل قطعية محسومة، فيقول: هذه سهلة أنا أفتي فيها، فتزل قدم بعد ثبوتها.

التورع عن الفتوى

00:15:08

ومن الأمور التي تجعل من يُسأل ويستفتى يحوِّل السؤال أن لا يتصور السؤال جيداً، لكون السائل مثلاً من بلد آخر فيحيله على من هو أعلم بحال بلده وأكثر اطلاعاً عليه.

وثالثاً: أن يكون المحال عليه أكثر علماً، فيريد الذي يُسأل أن يتبع السلف في رد السائل إلى الأعلم.

ولكنه لا يجيز أن يحيل على من يعلم بأنه جاهل، ولا على فاسق، ولا على متسرع، ولا على متساهل، ولا على متقول على الله بغير علم، ولذلك فإنك لو سئلت عن مسألة لا تدري جوابها فإنك إذا أحلت السائل لا بد أن تحيله على صاحب علم ولا يجوز لك أن تحيله على متساهل، ولا على جاهل، ولا على فاسق؛ لأنك تكون مشتركاً في الإثم حينئذ ومتورطاً في القضية، فانظروا إلى دور العامي إذن حتى العامة يشاركون في القضية عندما يحيلون الناس، فضلاً عن أئمة المساجد وغيرهم، إذا أرادوا إحالة الناس الذين يسألون لا بد أن يحيل على من يوثق بعلمه ودينه، فحتى الذي يقول: لا أدري، عليه مسؤولية عندما يحول، ولا تنتهي مسؤوليته بقول: لا أدري، إذا أراد أن يحول فعليه مسؤولية أيضاً أن يحول على صاحب العلم.

قال ابن القيم رحمه الله: هذا موضع خطر جداً، فلينظر الرجل إلى من يدل عليه وليتق الله، فإنه إما معين على الإثم والعدوان، وإما معين على البر والتقوى.

وهذا جواب السؤال عما يقع من بعض الناس عندما يقول: اسأل فلاناً فإنه سهل، ولا تسأل فلاناً فإنه صعب. اذهب إلى فلان يسهل لك الأمور، هذه دلالة على منكر، هذه مشاركة في الإثم، والذي يظن بهذا التحويل أنه سلم وبرئ فهو جاهل مخطئ؛ لأنه مشارك في الإثم عندما يحيل على متساهل.

أيها المسلمون: إن التسرع في الفتوى قضية خطيرة جداً، وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى، ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، فإذا رآها قد تعينت عليه بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة، أو قول الخلفاء الراشدين، ثم أفتى.

قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله ﷺ ما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.

وقال ابن عباس وابن مسعود: "إن كل من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه لمجنون".

وكان ابن عمر إذا سئل قال: اذهب إلى هذا الذي تولى أمر الناس فضعها في عنقه، يريدونا أن يجعلونا جسراً يمرون علينا على جهنم. من الذي يقول، يتكلم؟ عبد الله بن عمر العالم المجتهد.

ولو قارنا حال اليوم بحال الأمس في هؤلاء المتساهلين، الذين يفتون في كثير من الشاشات، والمجلات، والمساجد، وقارناهم بحال الصحابة والعلماء الذين يخافون الله لعرفنا لماذا تسلط علينا اليهود والنصارى، ولماذا صرنا بهذا الحال؟ رخص عندنا الدين، يُسأل فيه من هب ودب، ويؤخذ من المتساهلين، ومن الجهلة، وكل واحد يجترئ على الدين في المجالس ويتكلم ويفتي، تلاعب الناس بالفتوى، رخص الدين عندهم، وهان أمره، فلا تقل: لماذا تسلط علينا الأعداء؟ وهذا واحد من أعظم الأسباب.

وربما يكون بعض المجيبين اليوم أجهل من بعض السائلين، يفتون باتباع الهوى، يفتون بالرخيص لإرضاء فلان وفلان، وبعضهم يأنف من أن يقول: لا أدري. وكان الثقات والأثبات من العلماء لا يستحون من قول: لا أدري.

سئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل: ألا تستحي من قولك: لا أدري، وأنت فقيه أهل العراق؟ قال: لكن الملائكة لم تستح حين قالت: سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَاسورة البقرة32.

أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاءسورة البقرة31، لا علم لنا.

قال النووي رحمه الله: وقال الشعبي والحسن: إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر.

والناس اليوم في المجالس يقول الواحد منهم: في ظني ما فيها شيء، أنا لست شيخاً لكن رأيي أنه جائز. وإذا كنت لست بشيخ فلماذا تتكلم؟ لماذا تتبرع بالحديث؟

أو يسأل شيخاً ثم يقول: ما فيها شيء أو لا يا شيخ؟ أنت سألته اسكت لتسمع الجواب، لماذا تتقدم بين يديه بعدما تسأله؟

وعن الهيثم بن جميل قال: شهدت مالكاً سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري، كم النسبة المئوية؟ فأجاب عن ثنتين وثلاثين منها بلا أدري.

وعن مالك أيضاً: أنه ربما كان يسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها، وكان يقول: من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف خلاصه ثم يجيب.

وسئل عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: ليس في العلم شيء خفيف.

وقال أبو حنيفة: لولا الفرق من الله -أي الخوف منه- أن يضيع العلم ما أفتيت، يكون لهم المهنأ وعليَّ الوزر. هم يأخذون الجواب يعملون به وعليَّ الوزر؟

وأقوال السلف في هذا كثيرة معروفة.

وكان رجل خطيباً في مسجد فلما نزل من المنبر بعد الصلاة سألوه عن مسائل، فقال: لا أدري، فقالوا: تصعد المنبر وتخطب بنا وأنت لا تدري، فقال: صعدت بقدر علمي.

صعودي المنبر على قدر علمي، والمنبر ثلاث درجات، وهذا حد علمي.

صعدت بقدر علمي ولو صعدت بقدر جهلي لبلغت السماء. فجزاه الله خيراً عرف قدر نفسه ولم يستح من قول: لا أدري.

اللهم إنا نسألك أن تعلمنا ما ينفعنا، وأن تنفعنا بما علمتنا وأن تزدنا علماً، اللهم فقهنا في الدين ولا تذرنا من الجاهلين، يا رب العالمين.

 أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

00:24:04

الحمد لله العليم الحكيم، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، رب الأولين والآخرين، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً رسول الله معلم الخلق صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى التابعين، لما ترك من المنهج القويم، اللهم صل عليه وسلم صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.

شروط وآداب المفتي

00:24:55

عباد الله: لخطورة الفتوى وحال المفتي ذكر العلماء شروطاً فقالوا:

من شروطه: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والعدالة، وهذه مجمع عليها، ولذلك لا يجوز أن يفتي كافر، ولا مجنون، ولا صغير، ولا فاسق؛ لأنهم لا يقبلون أصلاً في الشهادة عند القاضي، فكيف يقبلون في الفتوى؟!

وقد نقل الخطيب البغدادي رحمه الله إجماع المسلمين على أن الفاسق لا تصح فتواه لغيره، ولذلك لو جاهر شخص بأنه يسمع الغناء مثلاً، جاهر بمعصية وهو يعلمها معصية أيَّ معصية جاهر بها وعرفت منه، وقالها، فإنه فاسق لا يجوز استفتاؤه أصلاً.

والشرط الخامس: العلم، والمراد به العلم بالكتاب والسنة، فيعرف آيات الأحكام، وأحاديث الأحكام، يحفظها، أو يستطيع الوصول إليها، ويكون عنده القدرة على تمييز الحديث الصحيح من الضعيف، بمعرفة قواعد الحديث، والمصطلح ويعرف الناسخ والمنسوخ، فقد تكون الآية أو الحديث الذي يتضمن حكماً تكون منسوخة، أو يكون الحديث منسوخاً، ويشترط أن يعلم العام والخاص، فهذا يخصص العام، هذا نص يخصص، وهذا نص يقيد المطلق، وهكذا.

والعلم بلغة العرب ثانياً، علم بلسان العرب ومفرداتها ومركباتها اللغة العربية؛ لأن القرآن والسنة إنما نزل بلسان عربي مبين، والعلم بأصول الفقه، كيف الاستدلال، ما هي دلالات الألفاظ، كيف نفعل إذا تعارض في ظاهر الأمر عندنا تعارضت نصوص كيف نجمع بينها؟ وكيف نرجح بين الأدلة المتعارضة في الظاهر.

ويشترط أن يعلم أقوال العلماء في المسألة، ويعرف الإجماع حتى لا يخالفه، وأن يكون ذا قريحة جيدة، وفطنة، وذكاء.

قال الشافعي رحمه الله: لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله بصيراً بأحاديث رسول الله، بصيراً باللغة الفصحى والشعر الجيد، وما يحتاج إليه منهما في فهم القرآن والسنة، ويكون مع هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، مطلعاً على أقوال العلماء والخلاف بينهم، وتكون لديه قريحة وقادة، فإذا كان هذا فله أن يفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي.

وهناك صفات أخرى منها: النية الصالحة فتكون نيته بيان أحكام الشريعة والذب عنها، وهداية الناس وإرشادهم، وكذلك معرفة أخلاق الناس ومقاصدهم التي يدورون حولها، يجب على المفتي أن يكون بصيراً بحيل الناس؛ حتى لا تلتبس عليه الأمور، ولا تنطلي عليه المخادعات؛ لأن بعض المستفتين يخفون معلومات مهمة، وبعضهم يدلسون في شأن الواقعة، ويبينونها على خلاف ما هي عليه، وهؤلاء مساكين يظنون أن هذا التدليس وإخفاء المعلومات، وحذف البيانات وتغيير الوصف عما وقع يفيدهم إذا أفتى المفتي مع أنه لا يفيدهم إطلاقاً.

لكن من شروط المفتي: أن لا يكون مغفلاً، قال البهوتي رحمه الله في شروط المفتي: معرفة الناس، ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم، ولا ينبغي له أن يحسن الظن، بل يكون حذراً فطناً مما يصورونه في سؤالاتهم؛ لئلا يوقعونه في المكروه.

وفتوى المفتي مبنية على ما سمعه من السؤال، ولذلك فإن فتواه في واقعة، في وصف غير حقيقي للواقعة لا يغير شيئاً من الحكم عند الله تعالى في هذه المسألة، ولا يجعل الحرام حلالاً ولا الحلال حراماً.

قال النبي ﷺ: إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وأقضي له على نحو ما أسمع. أنا أقضي على حسب ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذ فإنما أقطع له قطعة من النار[رواه البخاري2680]. رواه البخاري.

فلو ذهب هذا فهوَّل وفخم وغير ودلس وبدل، وتفاصح عند القاضي حتى أقنعه أن الحق له، فحكم القاضي له، فهل يغير حكم القاضي من الحقيقة شيئاً، وهل يصير الأرض هذه حلالاً عليه وهي ليست ملكاً له؟ كلا، لا يغير شيئاً من الحقيقة عند الله تعالى، ولو حكم به ألف قاض وأفتى فيها ألف مفت.

ومن شروط المفتي: أن يكون متأنياً من الفتوى غير متسرع، والتأني من الله، والعجلة من الشيطان.

وكذلك من آداب المفتي: أن يكون مستغنياً عن الناس ما أمكن؛ لأنه إذا كان محتاجاً إليهم في المال تلاعبوا به، وهددوه بقطع رزقه، ولا يعطونه إلا إذا أفتى بما يرضيهم، ولذلك استحب العلماء أن يكون مستغنياً عن الناس ما أمكن.

قال أحمد رحمه الله: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:

أولاً: أن تكن له نية، فإن لم تكن له نية يعني صالحة لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور.

والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة.

والثالثة: أن يكون قوياً على ما هو فيه وعلى معرفته.

الرابعة: الكفاية وإلا مضغه الناس.

الخامسة: معرفة الناس.

وهذا مما يدل على جلالة أحمد ومعرفة رحمه الله وتجربته في هذا المجال.

وإذا لم يكن المفتي أهلاً للفتوى ولا تنطبق عليه الشروط حرم عليه الإفتاء.

دخل مالك رحمه الله على شيخه ربيعة فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك، أمصيبة نزلت بك؟ قال: لا، ولكن استفتي من لا علم له ووقع في الإسلام أمر عظيم، ولبعض من يفتي هاهنا أحق بالسجن من السراق.

بكى ربيعة شيخ مالك في أي قرن من هذه الأمة؟ في القرون الأولى، بكى في ذلك القرن، القرون المفضلة الأولى، فما حالنا نحن؟ وما بال أمتنا اليوم وقد ضاع فيها هذا المكان؟!

وهكذا لم يبق إلا من رحم الله من أولي بقية من أهل العلم يفتون على المنهج السوي، وإلا فالأكثر يفتي بتلك الفتاوى العجيبة، وسنعرف بعضاً من هذا الموضوع في الخطبة القادمة بمشيئة الله.

قدرة الله في الكون

00:33:50

عباد الله: إن الله هو المتصرف في الكون المدبر له، ويرينا من آياته في خلقه ما يدل على عظمته وقدرته، وقد سمعنا بتلك الطوفانات الهائلة في أوروبا والخسائر بالبلايين، وإخلاء الناس، وأمضى أصحاب المتاجر ليلهم يحاولون نقل بضائعهم، وشاركت الجيوش في عمليات الإخلاء، وغرق بعض رجال الإطفاء، وغمرت المياه القرى وسدت الطرق، وأصبحت القطارات كعلب الكبريت تسبح على الماء، ذلك أمر الله ، لما طغى الماء، وهذه قدرته ، ومنازل تنهار تحت وطأة العاصفة، وحافلات عسكرية تنقلب بفعلها، وأشجار تقتلعها الرياح فتسقط على الناس فتقتلهم، والفيضانات في الصيف، وهو أمر غير مألوف عندهم، فسبحان الله الحكيم العليم، الذي هو على كل شيء قدير ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُسورة يس82، فإذا كان وقع هؤلاء الناس المتقدمون علمياً، وتقنياً في أمر فضيع واعتبروها كارثة قومية، وعثر على المزيد من الجثث على السواحل، وأقيمت معسكرات في بلدان العالم المتقدمة لإيواء النازحين، وأخليت المستشفيات إلى أماكن أخرى، هذه قدرة القدير ، قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْسورة الأنعام65، .

اللهم إنا نسألك الغوث والعون لإخواننا المسلمين، اللهم إنا نسألك النصر للمجاهدين، اللهم اعل راية الدين، واقمع المشركين والكافرين، اللهم زلزل اليهود ودمرهم تدميراً، اللهم فجر أسلحتهم فيهم، واجعل بأسهم بينهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واضرب قلوب بعضهم ببعض، وأخرجهم من ديارنا أذلة صاغرين، اللهم وأنقذ المسجد الأقصى من بين أيديهم، ورده إلى المسلمين، اللهم إنا نسألك يوماً قريباً تعز فيه دينك وعبادك الموحدين، اللهم عجل فرجنا، وعجل نصرنا، اللهم إنا نسألك أن تردنا إلى الحق يا رب العالمين، اللهم جنبنا الهوى إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ۝ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

1 - رواه أبو داود3658
2 - رواه البخاري2856
3 - رواه أبو يعلى الموصلي3899
4 - رواه البخاري100
5 - رواه البخاري2680