الخميس 10 شوّال 1445 هـ :: 18 أبريل 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

الرجل الذي فقدته الأمة 1


عناصر المادة
الخطبة الأولى
نشأة عمر بن عبد العزيز
حبه للعلم
أهمية البيئة الصالحة
حياة عمر قبل الخلافة
حياته بعد الخلافة
أهمية المشورة الصالحة
الخطبة الثانية
مواقف من حياة عمر

الخطبة الأولى

00:00:04

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

نشأة عمر بن عبد العزيز

00:00:31

فإن الله يبعث على كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة دينها ويعيدها إلى الصراط المستقيم بعد الاعوجاج والانحرافات، ويتعاهد الله هذه الأمة بالمجددين كما تعاهد الأمم السابقة بالأنبياء، وهؤلاء المجددون في أمة محمد ﷺ عدد وفير طيب، وإن التأمل في سيرهم وخصوصاً الذين قاموا بإصلاح الأوضاع بعد فسادها لكفيل بأن يوجد دروساً للحاضرين يستفيدون منها ممن غبر وسبق، وإن من أعظم المجددين الذين مروا بهذه الأمة، عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، الخليفة الراشد، والإمام العادل، إنها ذرية بعضها من بعض، وهكذا يبدأ الأمر بقدر من الله، وقد كان عمر بن الخطاب يوماً يسير بين البيوت، ويتفقد أمور رعيته، فتعب ذات ليلة فأسند ظهره إلى جدار بيت ليستريح فإذا بامرأة تقول لابنتها: ألا تمذقين اللبن بالماء أي: تخلطينه بالماء ليكثر، فقالت الجارية: كيف أمذق وقد نهى أمير المؤمنين عن المذق، وذلك لأن فيه غشاً معلوماً عند بيع اللبن، فقالت الأم: فما يدري أمير المؤمنين؟ فقالت الجارية: إن كان عمر لا يعلمه فإن إله عمر يعلم، ما كنت أفعله وقد نهى عنه، فوقعت تلك المقالة من تلك البنت الصالحة التي تخاف الله وقعت في نفس عمر فرجع إلى بيته فدعا ابنه عاصماً فوصف له المكان ونصحه بأن يتزوجها، فتزوجها عاصم بن عمر، فولدت له بنتاً، فهذه البنت حفيدة عمر بن الخطاب، فتزوج هذه البنت عبد العزيز بن مروان بن الحكم وهو والد عمر، فأتت حفيدة عمر بن الخطاب بعمر بن عبد العزيز، ذرية طيبة بعضها من بعض.

حبه للعلم

00:03:59

ونشأ عمر بن عبد العزيز رحمه الله أكثر أيامه في المدينة، وتتلمذ على فقهائها وعلمائها، وجمع القرآن وهو صغير، لقد رأيتني بالمدينة غلاماً مع الغلمان ثم تاقت نفسي للعلم فأصبت منه حاجتي.

وهكذا كان إذن الميل إلى العلم مع عمر منذ الصغر، وحبب الله إليه العلم، وإذا رأيت الشاب ينشأ منذ أول أمره مع أهل السنة والعلم فارجه، ولكن الله إذا أراد شيئاً هيأ له أسبابه، ويقضي ما يشاء، ولا يعلم الغيب إلا هو، ولما كبر عمر أرسل أبوه عبد العزيز إلى مصر أميراً عليها، وأبقى ولده في المدينة يتعلم عند عبد الله بن عمر، واستقدمه مرة إلى مصر فرمحته دابة فشجته، فقال أبوه: ما ينبغي لمن كان يرجى له ما يرجى له أن يكون تأديبه إلا في المدينة، وهكذا رجع مرة أخرى إلى موطن العلم والفقه والإيمان، إلى دار الإيمان في المدينة، فتولى تعليمه من كبار علماء المدينة وفقهائها صالح بن كيسان رحمه الله.

أهمية البيئة الصالحة

00:06:04

أيها المسلمون: إن البيئة الصالحة تنتج أولاداً صالحين، وإن الاهتمام بتربية الأولاد والاعتناء بهم، هو الذي يوجههم إلى الوجهة التي سيكونون عليها في مستقبل الأمر غالباً، ولذلك فإن العناية منذ الصغر تنشئ رجال المستقبل، وإن الاهتمام بالبيئة هو الذي يصلح الأحوال بإذن الله، وقد كان فيما سلف سنة قد اختفت، وهي المؤدبون، كانوا يعتنون بتأديب الأولاد، ومؤدب الولد يأخذه بحفظ القرآن وشيء من الحديث والتربية على حسن الخلق والآداب الشرعية، فينشأ عف اللسان، وينشأ محباً للدين والعلم والصالحين، وإن الأب، ولو كان مشغولاً ينبغي أن يتعاهد ولده ولو من بعد، فإن والد عمر بن عبد العزيز وإن كان في مصر وابنه في المدينة فإنه وكّل به رجلاً صالحاً يتعاهده ويلزمه الصلوات، فأبطأ يوماً عن الصلاة – أي الولد – فقال شيخه: ما حبسك؟ قال: كانت مرجلتي تسكن شعري، وكان لهم من الإماء ما يستعملونهن في الخدمة، فاتخذ بعض المترفين هؤلاء لمثل هذه الأعمال، فقال شيخه: بلغ من تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة، وكتب بذلك إلى والده، فبعث عبد العزيز رسولاً إليه فما كلمه حتى حلق شعره، الحزم والتعاهد والتفقد والمتابعة بين الأب والمؤدب المعلم الذي يهتم بالولد، إنها حلقة مهمة في الوصل جداً المتابعة بين الأب والمعلم، وهكذا فعل عبد العزيز مع صالح بن كيسان، فكان في حلق شعره أثر بالغ وهو الذي تربى في بيئة الترف، وآثار النعيم والملك، وكان لهذه التربية أثر في نشوء ولد يخاف الله، فبكى عمر بن عبد العزيز مرة وهو غلام صغير، فقالت له أمه: ما يبكيك؟ قال: ذكرت الموت، فهو يعقل إذن ويتذكر ثم يخاف الله.

وكان مما تربى عليه حسن الصلاة، ولذلك كانت صلاته تشبه صلاة النبي ﷺ، وهكذا كان منذ أول أمره حسن الخَلق والخُلق كامل العقل حسن السمت، وافر العلم، فقيه النفس، أواهاً منيباً، قانتاً لله حنيفاً، زاهداً ظاهر الذكاء والفهم، تعاهد الله به الأمة، تعاهد الله الأمة بعمر بن عبد العزيز.

وكان مالك بن دينار الزاهد يقول: الناس يقولون: مالك زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها.

حياة عمر قبل الخلافة

00:10:42

وكان حسن التأسيس العلمي فلذلك كان مجاهد وهو من كبار العلماء يقر ويعترف بأنه استفاد من عمر بن عبد العزيز، فعمر بن عبد العزيز مع نشأته في بيئة ترف وملك لكن الله تعالى وفقه وجعل له بيئة صلاح وعلم، مع بيئة الترف، فهو هو الذي كان صاحب المشية العمرية يتعلمها الجواري من حسنها في نظرهن ويتبخترن فيها، وهو هو الذي كان يضع الطيب فتعصف ريحه، فيعرف بأن عمر بن عبد العزيز مر من هذا المكان، وهو هو الذي كان بعض الناس يلتمس الغسال الذي يضع عمر ثيابه عنده فيجعلون ثيابهم مع تلك الثياب من شدة الطيب وجماله، وهو الذي أسبل إزاره فدخل الثوب في نعله فتحامل عليه فشقه لكي لا يخلع النعل مما كان يعيش فيه من الثياب والنعيم، والذي كان عطاؤه ألف دينار، وكان متاعه ينقل على ثلاثين بعيراً، ولما تزوج وضع المسك زيتاً للسراج، هو هو الذي تزوج فاطمة.

بنت الخليفة والخليفة جدها أخت الخلائف والخليفة زوجها

حياته بعد الخلافة

00:12:38

لكن هذه الحياة المترفة قد انقلبت شيئاً آخر تماماً عندما تولى الخلافة؟ فماذا حصل لعمر بعد ما تولى الخلافة رحمه الله تعالى؟ عمر صاحب تلك الحياة الهنيئة المملوءة بالترف لما تولى الخلافة تغيرت حياته تغيراً عظيماً.

يقول أحد تجار الثياب: أمرني وهو والٍ على المدينة أن أشتري له ثياباً فاشتريت له ثياباً بأربعمائة فلمسها بيده فقال: ما أخشنه وما أغلظه، ثم أمرني بشراء ثوب له وهو خليفة فاشتريته بأربعة عشر درهماً فلمسه بيده فقال: سبحان الله ما ألينه وأرقه.

لما اشتريت له ثياباً وهو والٍ على المدينة قبل الخلافة قال: ما أجودها لولا خشونة فيها، وهو الذي لما تولى الخلافة فأتي له بجبتين خشنتين فقبضهما وقال: ما أجودها لولا لين فيها، والأولى بثمانمائة درهم والثانية بثمانية دراهم.

تغيرت مشية عمر ورحمه، فيقول علي بن بذيمة: رأيت عمر بن عبد العزيز في المدينة وهو أحسن الناس لباساً وأطيب الناس ريحاً وهو أخيل الناس في مشيته، ثم رأيته بعد أن ولي الخلافة يمشي مشية الرهبان، فمن حدثك أن المشية سجية فلا تصدقه بعد عمر بن العزيز.

يعني: أن العادات قابلة للتغيير، ومهما كان الإنسان على حال سنوات طويلة إذا أراد أن يغير فإنه يغير.

وقال رجل من حرسه: رأيت عمر بن عبد العزيز حين ولي وبه حسن اللون وجودة الثياب والبزة، ثم دخلت عليه وقد ولي يعني: الخلافة، فإذا هو قد احترق واسود ولصق جلده بعظمه حتى ليس بين الجلد والعظم لحم من كثرة الصيام، وإيثار المسلمين بالطعام، وإذا عليه قلنسوة بيضاء قد اجتمع قطنها، يعني من كثرة الغسيل، وخرجت حشوتها وهو على الأرض ملتصق بها.

وكان يؤثر بالطعام ولا يأكل من طعام المسلمين العام إلا بعدما يجعل فيه دراهم من ماله الخاص، هكذا قال القائل: لو شئت أن أعد أضلاعه من غير أن أمسكها لفعلت. مما حصل به من تغير الحال، والسهر في مصالح الأمة، والإعراض عن الدنيا، والزهد فيها، وعمر بن عبد العزيز، لما تغير حاله بزيادة الهداية التي هداه الله إياها، أراد أن يصلح كل شيء حصل في الماضي ولو منذ السنوات الطويلة.

حصلت له قصة فيما مضى من حياته مع محمد بن كعب القرظي رحمه الله، رآه مرة وهو والٍ على المدينة وعمر مسبل إزاره، فقال محمد بن كعب: يا عمر إن رسول الله ﷺ قال: ما جاوز الكعبين فهو في النار[بمعناه في البخاري5787]، فغضب عمر بن عبد العزيز كيف يوجه هذا الكلام إليه، وقال: اتق الله يا ابن كعب ولا تكن ذبالة، أي سراج الفتيل الذي يحترق، لا تكن ذبالة تضيء للناس وتحرق نفسها، فأخذته العزة بالإثم فأغلظ بالجواب وهدد بالعقاب، ولما تولى الخلافة وصارت سلطته أكبر وقدرته على الانتقام أكثر، وقوته تعاظمت، لكن بالهداية التي هداه الله إياها أرسل يسأل عن محمد بن كعب القرظي، لم ينس الموقف أن فلاناً نصحه لله فرد عليه رداً سيئاً، فجعل يبحث عنه، فقيل له: إنه خرج في الغزو في سبيل الله، فأمر أميره في تلك الناحية إذا رجع محمد بن كعب من الغزو أن يجهزه ويسرحه إليه، فلما وفد عليه محمد بن كعب دخل على عمر بن عبد العزيز فرآه على الهيئة التي لم يكن يعرفه فيها من قبل، فقال عمر بن عبد العزيز: يا محمد استغفر لي من سوء مردودي عليك حين وعظتني بالمدينة، فهو ذنب لا بد أن يتحلل ممن ارتكبه في حقه، وبكى حتى ابتلت لحيته، فقال محمد بن كعب: غفر الله لك يا أمير المؤمنين، وأقال عثرتك. ثم جعل ينظر إليه، فقال عمر: يا محمد لماذا تنظر إليَّ؟ قال: يا أمير المؤمنين أنظر وأتعجب، فأقول: أين ذاك اللون النضير والشعرة الحسنة والبدن الريان؟ فهل اغتر بكلام هذا الرجل الصالح أو أعجبه؟ أبداً، قال عمر بن عبد العزيز: فكيف لو رأيتني بعد ثلاث من دفني، وقد سقطت حدقتاي على خدي، وسال منخراي وفمي صديداً ودوداً، إذن لكنت أشد نكارة لي منك اليوم.

عمر بن عبد العزيز رحمه الله لم يكن ضالاً حتى في أيام شبابه كما يتصور البعض، لكن به من أثر الترف والنعيم، وهو الذي كان قد عرف بقول الحق، فقد أرسل إليه الوليد الخليفة مرة والسياف قائم، فقال الخليفة لعمر بن عبد العزيز: ما تقول فيمن يسب الخلفاء، أترى أن يقتل؟ كأنه يريد أن ينتزع من عمر بن عبد العزيز رأياً في قتل من يسب الخليفة فسكت عمر فانتهره وقال: مالك؟ فسكت، فعاد لمثلها، فقال: أقتلَ يا أمير المؤمنين، هذا الذي سب الخليفة أقتل؟ قال: لا، ولكنه سب الخلفاء، قال: فإني أرى أن ينكل، أي: لا يصل إلى القتل؛ لأنه لم يقتل، فاضطر الخليفة إلى الإذعان وقال: إنه فيهم لنابه – أي عمر بن عبد العزيز – وكان يعظ الخلفاء، فحج سليمان بن عبد الملك ومعه عمر بن عبد العزيز فأصابهم برق ورعد ومطر ولكن كادت قلوبهم تنخلع من صوت الرعد والبرق، فقال سليمان لعمر: يا أبا حفص هل رأيت مثل هذه الليلة قط أو سمعت بها؟ قال: يا أمير المؤمنين هذا صوت رحمة الله، الرعد والبرق مع المطر الذي هو رحمة من الله، هذا صوت رحمة الله فكيف لو سمعت صوت عذاب الله؟

وهكذا كان يقول لسليمان، زهى مرة في عتاده ورجاله وقال: ما تقول في هذا الذي ترى يا عمر؟ قال: أرى دنياً يأكل بعضها بعضاً وأنت المسؤول عنها والمأخوذ بها.

أهمية المشورة الصالحة

00:22:47

ومن الآثار العظيمة للصالحين أنهم يشيرون بالأمر الصالح، وقد كان لرجاء بن حيوة موقف عظيم شهد له به تاريخ المسلمين، وفي ميزان حسناته إن شاء الله عندما اقترح على سليمان بن عبد الملك وهو مريض أن يولي بعده عمر بن عبد العزيز، وكان سليمان يريد أن يولي رجلاً آخر، وهكذا قال له والكلام في هذه اللحظات مؤثر جداً، وعند اتخاذ القرار يكون وجود الصالحين غاية في التأثير، وعظيماً جداً، وقرار يتخذ في لحظة يمكن أن تنبني عليه مصالح أمة بأكملها سنين، وهكذا، لما حضر سليمان الموت جعل رجاء يذكره بالله والإسلام ويقول له: اتق الله فإنك قادم على الله تعالى، وسائلك عن هذا الأمر وما صنعت فيه، يعني في الاستخلاف، من ستستخلف بعدك، أنت ستأتي على الله وسيسألك عن هذا، هذه هي الكلمات الوعظ المهمة في اللحظات الحاسمة، هذه الكلمات التي يحتاج إليها جداً، نحتاجها في كثير من المواقف، قادم على الله وسيسألك الله عما صنعت في هذا الأمر، قال: فمن ترى؟ قال: عمر بن عبد العزيز، قال: كيف أصنع بعهد عبد الملك إلى الوليد، لقد اختارني على أن أبايع بعده واستخلف بعده الوليد، قال: فاجعل الوليد بعد عمر بن عبد العزيز، فكان حلاً لكي تأتي الأمور على ما فيه مصلحة المسلمين، وهكذا أمضى سليمان البيعة بعده لعمر بن عبد العزيز واختارها ولم يكن عمر يطمح إليها ولا يريدها، ولا سألها، ولذلك لما جاءته عن غير مسألة أعين عليها.

اللهم ارحم الصالحين والخلفاء العادلين، اللهم انصر المجاهدين، اللهم وفق الدعاة العاملين، واغفر لنا ذنوبنا أجمعين يا رب العالمين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

00:25:58

الحمد لله الكبير المتعال، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً رسول الله ﷺ وعلى صحبه والآل، أما بعد:

مواقف من حياة عمر

00:26:30

فإن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة وبويع على المنبر جلس من هول الصدمة، ولم يتكلم حتى قام رجاء فبايعه وبايعه الناس بعده، وقال للناس كلاماً عظيماً: إني لست بفارض ولكني منفذ ولست بمبتدع ولكني متبع، وكان التغيير في أمره منذ تلك الساعة تغييراً عظيماً، فجيء له بمراكب الخلافة وهي الدواب العظيمة المدربة المزينة المطرزة المذهبة، فأبى أن يركبها، كان التغيير حاصلاً منذ تلك اللحظة التي استشعر فيها عمر عظمة ما ولي والموقف أمام الله .

وجاءه أصحاب مراكب الخلافة الموظفون المسئولون عن هذه الدواب يطلبون ثمن العلوفة وحق الخدمة، فقال: ابعثوا بها إلى أمصار المسلمين يبيعونها ويجعلون أثمانها في مال الله، تكفيني هذه البغلة الشهباء.

وهكذا بدأت محاسبة النفس، وهكذا المفترض فيمن تقلد منصباً أو إدارة من المسلمين، ليس أن يتقبل التهاني بذلك ويزداد طغياناً وعتواً على من تحته من الموظفين والمساكين وإنما يتواضع لله فإذا تواضع لله في تلك اللحظة فارجه.

وكذلك وجه عمر خطاباً للناس فيمن يدخل عليه، وقال: بأن لا يدخل عليه إلا العلماء وأصحاب الحاجات والناصحون، فجاء العلماء وانصرف الشعراء، وتحدد منذ البداية من معه ومن جلساؤه ومن الذين يدخلون عليه، فأيس أصحاب الدنيا من عمر، وهكذا تراجع المنافقون وأصحاب المجاملات وطلاب الدنيا، وجاء الصلحاء والفقهاء والعلماء والناصحون والضعفاء وأصحاب الحاجات؛ لأنه أعلن إعلاناً واضحاً جداً، وهكذا يكون كل إنسان تولى على أمر من المسلمين صغيراً أو كبيراً أن يحدد من هم جلساؤه، من هم الذين يأتونه، إن ذلك أمر مهم جداً جداً في استقامة الأحوال.

كان يوم تولي الخليفة حداً فاصلاً بين حياتين، حياة دنيا وترف ونعم، وحياة آخرة وزهد وتقشف وشظف عيش وخوف من الله ، لقد كانت تلك الخلافة مع كونها سنتان وخمسة أشهر وخمسة أيام مؤثرة جداً في طول الدنيا وعرضها أحس بها الناس من العاصمة وحتى رعاة الغنم في البادية، رأوا أثر عدل عمر فيهم.

وهكذا رأى الناس نموذجاً عجيباً من رجل يأتي أول ما يأتي إلى أهل بيته، إلى زوجته فاطمة بنت الخلفاء وأخت الخلفاء وزوج الخليفة، ليقول لها: يا فاطمة إني قد وليت أمر أمة محمد ﷺ، على بلاد من السند إلى الرباط، ومن تركستان إلى جنوب أفريقيا، فإن كنتِ تريدين الله والدار الآخرة فسلمي حليك وذهبك إلى بيت المال، وإن كنتِ تريدين الدنيا فتعالي أمتعك متاعاً حسناً واذهبي إلى بيت أبيك، وليس أعز على المرأة من هذه القطعة التي أهداها لها أبوها، وهذا الحلي الذي أهداه لها أخوها، وهذا السوار الذي أهدته لها أمها، لكن لأن هذه الحلي أصلاً كانت من بيت المال رأى عمر أنه لا حق لزوجته فيها، فلا بد أن ترجع إلى مكانها الصحيح، وأخذ ذلك الحلي العظيم؛ لأن المرأة تأثرت بصلاح الزوج، المرأة تتأثر كثيراً بالزوج، فقالت: لا والله الحياة حياتك والموت موتك. وسلمت متاعها وحليها وذهبها إلى بيت مال المسلمين.

ونزل عمر من القصر إلى غرفة ليكون قريباً من المسلمين من المساكين الفقراء والأرامل، وهكذا قطعت له الثياب الخشنة، وتغير البيت وتغيرت الدابة، وتغيرت الثياب، وتغير الطعام، على العكس مما يتوقعه الناس تماماً، وبدأت الإصلاحات، هذه هي القضية الكبيرة جداً في حياة عمر بن عبد العزيز، فيتأثر الناس كثيراً من تغيره في ملبسه وطعامه وبيته، ولكن القضية الأكبر من هذا كله كيف استطاع عمر بن عبد العزيز في أقل من سنتين ونصف أن يعيد الأمة إلى أوقات الخلفاء الراشدين، فتذكر الناس وقت عمر بن الخطاب في عهد عمر بن العزيز، كيف حصل هذا التغيير، هذه هي القضية الكبيرة جداً التي ينبغي الوقوف عندها، ولنا عودة إلى هذا بمشيئة الله.

اللهم ارحم عمر بن عبد العزيز، وأسكنه جنات النعيم وارفع درجته فيها، اللهم إنا نسألك الرحمة والمغفرة للمسلمين والمسلمات، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهم إنا نسألك فرجاً قريباً تغيث فيه المسلمين يا رب العالمين، اللهم أذل اليهود والمشركين، واقمع أعداء الدين، وانصر المجاهدين في سبيلك يا رب العالمين، اللهم طهر بلاد المسلمين من الشرك والوثنية، اللهم وارفع الذل عنهم يا رب العالمين.

اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد، والرحمة للعباد، والنجاة يوم المعاد يا سميع الدعاء، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ۝ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

1 - بمعناه في البخاري5787