الجمعة 20 رمضان 1445 هـ :: 29 مارس 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

لا ترتدوا على أدباركم


عناصر المادة
مقدمة
ظاهرة الرّدة عن الإسلام في العهد النبوي
أمثلة قرآنية للردة عن الدين الحق
أقسام الضعف الذي يصيب المسلم في دينه
النكوص الذي يؤدي بالإنسان إلى الفسق
المعنى الحقيقي للنكوص عن الإسلام
أسباب النكوص والانتكاس عن الإسلام والاستقامة
أن يكون التدين ليس لله
دخول طريق الاستقامة من باب التجربة
عدم الخلاص الكلي من شوائب الجاهلية
أثر الرفقة السيئة في ترك الاستقامة
 الندم الشديد والتأنيب على الماضي
الاستقامة المؤسسة على غير تقوى الله
الاستقامة الفردية
العُجب بالنفس
الكبرياء والتعالي على الخلْق
إحساس المرء بالكمال المطلق
اللؤم والحقد وعدم التسامح
التساهل واتباع الرخص واحتقار الصغائر
حب الوجاهات والمناصب والتعلق بها
دعوى الانشغال بالدعوة واهمال الواجبات
الاشتغال بالمال والتجارة
الخوف من الابتلاء والمحنة قبل وقوعها
ضغط الأهل والأقارب على الشخص المستقيم
أهمية الاحتساب لأجل الثبات على الاستقامة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:

مقدمة

00:00:18

 فإن الله -سبحانه وتعالى- قد أنزل علينا كتابه، وأرسل إلينا رسوله، ليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، ومن يثبت على منهج الله ممن ينكص ويرتد عن هذا المنهج وعن هذا الطريق: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ  [البقرة: 143].
فهو إذن ابتلاء وامتحان للعباد، وهؤلاء الذين ارتدوا على أدبارهم قال الله -سبحانه وتعالى- في شأنهم:  إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ [محمد: 25].
وعن حُبوط عملهم يقول: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 217]، وقال سبحانه: وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [المائدة: 21]، والردّة عن الدين أخطر موضوع يمكن أن يواجه الإنسان؛ لأنه ليس هناك شر أعظم من الردّة عن الدين، ولذلك يقول ﷺ: من بدّل دينه فاقتلوه [رواه البخاري: 3017].

ظاهرة الرّدة عن الإسلام في العهد النبوي

00:02:10

 هل حدثت أحداث من الردة على عهد رسول الله ﷺ؟
الجواب: نعم، إن البشر الذين كانوا على عهد الرسول ﷺهم من جنس البشر، بينهم الصالح والطالح، والطيب والخبيث، ولذلك كان منهم من آمن، ومنهم من كفر، ومنهم من ارتد بعد إسلامه.
ولأن عهد الرسول ﷺ كان أبرك العهود التي مرت على البشرية، فإن الذين ارتدوا في ذلك العهد كانوا قلة جداً بالنسبة لمن أتى بعدهم، ومن الأحداث المشهورة في الردة ما رواه الحاكم والبيهقي وهو حديث صحيح: لما أُسري بالنبي ﷺ إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس ممن كانوا معه، فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، لماذا ارتدوا؟ لأن عقولهم الضعيفة لم تتحمل هذا الخبر العجيب كيف يذهب الرسول ﷺ إلى بيت المقدس ويرجع في ليلة واحدة مستحيل، وسعوا بذلك إلى أبي بكر -رضي الله عنه-، فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال: "أو قال ذلك"؟ قالوا: نعم، قال: "لئن كان قال ذلك لقد صدق"، قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: "نعم، إني لأصدقه في ما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة" يعني يأتيه الخبر من السماء في لحظات ما أصدقه أنه ذهب إلى البيت المقدس ورجع في ليلة؟ فلذلك سُمي أبو بكر الصديق، والحديث في السلسلة الصحيحة رقم واحد.
ومن الأحداث النادرة كذلك في الردّة في الزمن الأول هذه الرواية التي جمعتُها من ألفاظ الشيخين، عن أنس قال: "كان رجل نصراني من بني النجار، فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي ﷺ، فعاد نصرانياً -ارتد عن الدين ورجع إلى النصرانية-؛ لأن الإيمان لم يتمكن من قلبه، فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب، فكان يقول: لا يدري محمد إلا ما كتبتُ له، كل هذا الذي يقوله محمد أنا كتبته أصلاً، يقول من كتابتي، قال: فرفعوه وعظمّوه، قالوا: هذا كان يكتب لمحمد، فأعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فأماته، فحفروا له -النصارى الذين هرب إليهم- فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، وضعوه في الأرض وبعد ما دفنوه وأهالوا عليه التراب، اليوم الثاني في الصباح أصبحوا وجدوا الجثة فوق الأرض، فوق سطح الأرض خرجت، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، نبشوا عن صاحبنا فألقوه، أكيد الرسول ﷺ أرسل ناساً في الليل حفروا وأخرجوا هذا الرجل فألقوه، فحفروا في الأرض ما استطاعوا -يعني عمقوا تعميقاً شديداً- فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فعلموا أنه ليس من الناس فتركوه منبوذاً" [رواه البخاري: 3617، ومسلم: 2781].
وهذا من دفاع الله عن رسوله ﷺ.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ما عُهد أن أناسا يدفنون فيلقون خارج الأرض إلا أناس اعتدوا على حق الرسول ﷺ، فعند ذلك يعاقبهم الله عقاباً شديداً".
وأّلف شيخ الإسلام في ذلك كتاباً مهماً جداً، جمع فأوعى، وهو كتاب: الصارم المسلول على شاتم الرسول، وقال فيه ينقل عن بعض الغزاة المسلمين سواء في الشرق أو في الغرب في بلاد الأندلس، يقول: "كنا إذا حاصرنا الحصون فاستعصت علينا حتى نكاد نيأس، فإذا وقع القوم في سب رسول الله ﷺ استبشرنا خيراً، فلا يلبث الله أن يفتح؛ لأن الله يدافع عن رسوله ﷺ دفاعاً لا يدافعه أحد" [الصارم المسلول على شاتم الرسول: 117].
ومن القصص أيضاً التي نُقلت: قصة ردّة عبيد الله بن جحش، زوج رملة أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، يقول الذهبي -رحمه الله- في السير: "ومن محاسن النجاشي أن أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان بن حرب الأموية أم المؤمنين أسلمت مع زوجها عبيد الله بن جحش الأسدي قديماً، فهاجر بها زوجها إلى أرض الحبشة، فولدت له حبيبة ربيبة النبي ﷺ، ثم أنه أدركه الشقاء، فأعجبه دين النصرانية فتنصّر، فلم ينشب أن مات بالحبشة" [سير أعلام النبلاء: 1/441]. فلما فرغت العدة بعث الرسول ﷺ إلى النجاشي، فخطبها، فزوجه إياها، ودفع المهر نيابة عن الرسول ﷺ.
يقول ابن كثير -رحمه الله- في البداية والنهاية: "أما تنصُّر عبيد الله بن جحش فقد تقدم بيانه، وذلك على أثر ما هاجر مع المسلمين إلى أرض الحبشة، فزُين له دين النصارى، فصار إليه حتى مات عليه لعنة الله، وكان يعيّر المسلمين، فيقول لهم: أبصرنا وصأصأتم" [البداية والنهاية: 4/164].
فإذن، حدثت وقائع على عهد الرسول ﷺ في ارتداد أناس، ولكنها نادرة جداً، وذلك لطبيعة التربية النبوية التي لم يرفضها إلا من كان قد طبع الله على قلبه.

أمثلة قرآنية للردة عن الدين الحق

00:09:50

 والله بيّن لنا أمثلة في القرآن أمثلة عامة: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف: 175، 176]. ولذلك الردة لا تضر في الإسلام، لا تضر إلا صاحبها، يقول الله : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: 54]،  وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38] ، ليست هناك مشكلة للإسلام، لا ينقص في الدين شيء لو ارتد الناس، الدين باقي والله يحفظه، لكن المشكلة مشكلة المرتد نفسه، وهذا كان المدخل إلى الموضوع، الموضوع الذي سنتحدث عنه ليس هو موضوع الردة.

أقسام الضعف الذي يصيب المسلم في دينه

00:11:17

 الضعف الذي يصيب المسلم يمكن أن نقسمه إلى ثلاثة أقسام: فمنه ما يكون ضعفاً شديداً جداً يخرجه عن ملة الإسلام فيصبح مرتداً، وهو أسوأ الأنواع.
والنوع الثاني: يخرج المسلم من دائرة الاستقامة يكون مستقيماً ملتزماً بشرع الله إلى دائرة الفسق، فيصبح فاسقاً فاجراً، يكون الواحد ملتزماً مستقيماً ثم ينحرف فيصبح فاسقاً، لكن لا يزال في دائرة الإسلام ما خرج عن الإسلام فأصبح مرتداً، ولكن صار فاسقاً، ومنه نوع أخف من النوعين السابقين بكثير وهو الفتور الذي يصيب المسلم، وهذا الفتور إن كان المسلم في حالة فتوره لا يرتكب المعاصي، يعني هذا الفتور لا يؤدي به إلى ترك الواجبات وفعل المعاصي فإنه لا يزال بخير؛ لأن الرسول ﷺ يقول: فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى [رواه البيهقي في الشعب: 3595، وابن خزيمة: 2105، وابن أبي عاصم في السنة: 51، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 56].
يعني إذا صار الفتور لدرجة يرتكب محرمات وهو على خطر أو يترك الواجبات وهو على خطر، لكن لو فتر بشيء بسيط؛ لأن الإيمان يزيد وينقص، نقص إيمانه قليلاً لكن لا يزال في دائرة الإسلام والإيمان والتقوى، ما نزل إلى دائرة الفسق، هذا فتور مقبول؛ لأن الإنسان إيمانه يزيد وينقص، ولا نتوقع أننا كلنا نبقى في حالة إيمانية واحدة، لا يمكن، لا بد الآن نحن في مجلس الذكر في حالة نختلف عندما نخرج مثلاً نشتري الأشياء من السوق، أنت فكر في نفسك، عندما تخرج مثلاً من هنا أو من أي مكان فيه حلقة ذكر، ثم تدخل السوق تشتري أشياء والمناظر أمامك، هل أنت تكون في نفس الحالة الإيمانية؟ لا.

النكوص الذي يؤدي بالإنسان إلى الفسق

00:13:41

 نحن سنتكلم في هذا الدرس عن موضوع النكوص الذي ينزل الإنسان من دائرة التقوى إلى دائرة الفسق، الانحراف الذي يجعله يرتكب بعض المحرمات أو يترك بعض الواجبات، هذا هو النوع الذي سنتكلم عنه، الآن الذي يدقق في الواقع يرى بأن هناك بعض الأشخاص قد هداهم الله -سبحانه وتعالى- في فترة من الفترات وزمن من الأزمان، وبعد فترة من الزمن تغيرت أحوالهم، واحد كان مستقيماً ملتزماً بشرع الله، تتفاجأ بعد فترة من الزمن بأنه قد تغير شكله، وترك المظهر الإسلامي، ووقع في بعض المحرمات، وهو تارك الآن لبعض الطاعات، تغيرت أحواله، هذه الحالة موجودة، لكن هل أصبحت ظاهرة؟ هل هي منتشرة جداً بحيث أنك ترى يومياً أشخاصاً كثيرين جداً ينتقلون من معسكر الهداية إلى معسكر الفسق؟ نسأل الله ألا تكون الأحوال بهذه الصورة، وهناك أشياء تطمئن أن الذين استقاموا على الدين أكثر من الذين نكصوا، والذين دخلوا فيه أكثر من الذين خرجوا عنه، والحمد لله هذه نعمة، وأنت ترى الآن هذا، أنت ترى الآن أن الذين يدخلون في الدين أكثر من الذين يخرجون منه، وأن الذين يدخلون ويسلكون سبيل الاستقامة والالتزام أكثر من الذين ينحرفون.
ولكن هذه المشكلة موجودة، وهي من مشاكل الصحوة الإسلامية في هذا العصر، وبالطبع فإن هذه الحالة؛ حالة النكوص والانتكاس، هذه الحالة ناتجة عن اتساع رقعة الصحوة الإسلامية من جهة، وهذا الاتساع الذي يقلل التركيز ويجعل مجالات هذه الصحوة تتعدد، والجهود تتوزع في تلك المجالات، فلا بد أن يخف الاهتمام تبعاً لذلك على الداخلين في طريق الاستقامة، وطاقات الدعاة مهما كانت محدودة، فمع ازدياد القادمين إلى طريق الاستقامة لا تعود طاقات الدعاة تستوعب هذا الكم الكبير الذي يتجه إلى الدين، ومن هنا فلا بد أن نتوقع حصول مثل هذه الحالات؛ حالات الردة، أو الضعف الذي يوصل الإنسان إلى الانحراف، ونتوقع أيضاً اتجاهات غير مرضية في المنهج العلمي أو منهج التحرك في هذا الدين؛ نتيجة عدم وجود التوجيه الكافي، ولا بد أن نذكر قبل عرض الموضوع أننا سنتكلم عن أسبابه، ومع بعض الأسباب سنذكر العلاج، وهناك علاجات منفصلة سنذكرها في النهاية، وسنمر كذلك بحالة هذا المنتكس نفسياً، كيف يشعر؟ ما هي الأشياء التي تغيرت فيه؟ كيف بدأ يتغير؟ وإلى أين ينتهي حاله؟ وكيف يعود إذا كتب الله له أن يعود؟

المعنى الحقيقي للنكوص عن الإسلام

00:18:02

 بعض الناس عندما يتكلمون عن ظاهرة التساقط فإنهم يتكلمون من منظار أو من زاوية التساقط الحزبي، ونحن سنركز في كلامنا في قضية التساقط وقضية النكوص عن الانحراف عن الجادة الصحيحة التي توقع الإنسان في الفسق والفجور أو ترك الواجبات، هذا هو التعريف الذي سنتخذه في أثناء كلامنا ونسير عليه، فهو إذن المقصود فيه: الخروج عن طريق الهداية الربانية، وهي الخسارة الحقيقية، بعض الناس يظن أنه إذا تركه شخص كان يسير معه فذهب إلى غيره مثلاً أن هذه خسارة، والحقيقة ليست كذلك، الخسارة: أن يكون إنساناً ملتزماً بشرع الله، مستقيماً على طريق الله ينتكس ويترك الاستقامة، هذه هي الخسارة، ويجب أن نعلم أن النكوص الذي نتحدث عنه هو عن شخص كان مستقيماً في أموره ثم انحرف، وليس لشخص كان أصلاً غير مستقيم في بعض الجوانب ثم انحرف في كل الجوانب، كشخص مثلاً كان لا يحافظ على صلاة الفجر ويشاهد الأفلام المحرمة، ثم أطلق لحيته مثلاً والتزم ببعض الأشياء، ثم انتكس بالكلية، ليس هذا هو الشخص الذي نتحدث عنه، وهذا الرجل لا يسمى ناكصاً؛ لأنه كان أصلاً منتكساً من قبل، وهو الآن اتسعت رقعة انتكاسه، هذا الذي حدث.
ومن الملاحظ أن كثيراً من الناكصين لم يردوا حياض التربية الإسلامية، ولم ينهلوا منها، فأنّى لهم الثبات.
وقد يوجد في الوسط الإسلامي رجل فيه انحراف، لكن لا يتبين أمره من البداية، ومع مرور الزمن وتوالي الأحداث تتكشف الأمور، وهذا مثال من السيرة النبوية: روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: "خرجنا مع النبي ﷺ إلى خيبر ففتح الله علينا، فلم نغنم ذهباً ولا ورقاً ولا فضة، غنمنا المتاع والطعام والثياب"، والغنائم حكمها: أن تُجمع كلها، ما أحد يأخذ منها شيء، تجمع ثم توزع حسب الطريقة الشرعية في توزيع الغنائم، ثم انطلقنا إلى الوادي ومع رسول الله ﷺعبد له وهبه له رجل من جذام يدعى رفاعة بن زيد من بني الضبيب، فلما نزلنا الوادي قام عبد رسول الله ﷺ يحل رحله، فرُمي بسهم، هذا العبد رُمي بسهم وهو مع المسلمين، وحاصر مع المسلمين، فكان فيه حتفه، مات من هذا السهم الذي رمي به، فقلنا: هنيئاً له الشهادة يا رسول الله، فقال رسول الله ﷺ: كلا والذي نفس محمد بيده  كلا ليست شهادة، إن الشملة لتلتهب عليه ناراً  الآن في القبر الشملة تلتهب عليه ناراً، أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم هذا سرقها من الغنائم قبل أن توزع، سرق شملة؛ رداء، فهي تلتهب عليه ناراً، قال: ففزع الناس، الناس فزعوا، فجاء رجل بشراك أو بشراكين، ما وضعها مع الغنائم، فقال: يا رسول الله، أصبت يوم خيبر، فقال رسول ﷺ: شراك من نار أو شراكان من نار [رواه مسلم: 115].
فإذن، قد يوجد في الوسط المسلم رجل فيه انحراف لكنه في الظاهر ملتزم مستقيم، لكنه يتبين مع الزمن ولو مات، فالله أعلم بنيته، قد يتصور البعض أن موضوع النكوص هو فقط الردة عن الإسلام، أو هو مثلاً ترك الواجبات، مثل ترك الصلاة في المسجد، أو الوقوع في الزنا، أو في الفواحش، تصوروا مثلاً هذا هو النكوص، ولكن بعض الناكصين قد يستمرون على التزامهم بمظهرهم الإسلامي، ويؤدون الشعائر، ولا يقترفون الفواحش، ولكنهم يتركون واجباً مهماً من الواجبات مثل الدعوة إلى الله، تجد شخصاً طيباً حاله في حال نفسه فقط، لا ينفع المسلمين ولا يدعو إلى الله، ولا يؤثر في غيره، الدعوة إلى الله -عز وجل- واجبة، فلا يمكن أن نسمي هذا الشخص مستقيماً بمعنى الكلمة، وهناك حالات كثيرة لهذا النوع في المجتمع، أناس كثيرون ظاهرهم الطيبة والاستقامة، من المسجد إلى البيت، لا يرتكب المنكرات والفواحش، ويعتبر نفسه أنه بخير، وأنه قد وصل إلى الدرجات العلى، لكن في الحقيقة هو تارك لواجبات كثيرة، مثل: واجب الدعوة إلى الله، فلا نعتبر هذا الشخص مستقيماً بمعنى الكلمة، بل إنه مقصّر، وقد ترك واجب التواصي بالحق والصبر إذا أعرض عن الأخوة في الله، ورفض الأخوة في الله، ولا تآخى مع أحد، فكيف يتواصى معه بالحق والصبر وهو الواجب الشرعي المذكور في القرآن؟.

أسباب النكوص والانتكاس عن الإسلام والاستقامة

00:24:56

 وإذا جلسنا ندقق في أسباب النكوص والانتكاس في هذا القسم الذي نتحدث عنه فسنجدها كثيرة جداً، فبعضهم يدخل طريق الاستقامة من باب الارتياح العاطفي، والتعلق بشخص الداعية الذي دعاه إلى الله، ويتقبل الأحكام الشرعية ويطبقها؛ لأنها خرجت من فلان الفلاني الذي يرتاح لشخصه، لا لأن هذه أحكام الله التي قضى بها، إنه يطبق هذه الأحكام ويلتزم بها؛ لأنه يحب الشخص الذي دعاه إلى تطبيق هذه الأحكام، لا لأنه يحب الله الذي فرض هذه الأحكام، فيصبح هذا الداعية وسيط بينه وبين الله، فإذا ابتعد هذا الداعية أو سافر مثلاً، أو حدث بينهما إشكال أو خلاف انقلب على عقبيه؛ لأن الذي كان يربطه بطريق الاستقامة قد ذهب، وهذا يؤكد التربية على الصلة بالله لا بالأشخاص، والارتباط بالله لا بالعواطف.
قد يكون للمرأة أو للرجل من يسانده في الاستقامة من أهله داخل البيت أو خارجه، واحد يؤازره ويشد عضُده، فلسبب من الأسباب يتخلى هذا المساند عن مساندته، إما لسفر، أو ابتعاد، أو لتغير قناعاته، فيحدث التزلزل والانتكاس مرة أخرى، تعلق القلب ليس بالله، وطلب العون ليس من الله، هذا عنده مثل هذه النوعية من الأشخاص، وهذا ركن واهٍ لا بد أن يغير إلى ركن شديد، يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد [رواه البخاري: 3387]. ولذلك نعى الله في القرآن على الذين يرتبطون بشخصية في التزامهم واستقامتهم ولا يرتبطون بالله، حتى لو كانت هذه الشخصية هي شخصية الرسول ﷺ، الذين يلتزمون فقط؛ لأن الرسول ﷺ موجود بين أظهرهم هم أناس ما فقهوا حقيقة الاستقامة: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران: 144]، هذه حقيقة مهمة ينبه عليها القرآن: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]، قد يموت كما مات أي رسول، قد يقتل كما قتل أي رسول  أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144].
سبحان الله العظيم كأن هذه الآية نزلت في المرتدين بعد وفاة الرسول ﷺ، ولذلك لما قرأها الصحابة كأنهم لأول مرة يقرءوها، ولما قام عمر يتكلم ويقول: "إن محمداً ذهب إلى ربه كما ذهب عيسى، وليوشكن أن يرجع فيقطع رقاب أناس من المنافقين" قال أبو بكر: "اقعد يا عمر، فلم يقعد، فقام أبو بكر فتكلم فتحول الناس إليه، فتلا عليهم هذه الآية: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران: 144].  إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30].
فإذن، الدعوة إلى الله والاستقامة على منهج الله ليست مرتبطة بأشخاص، إذا زال هؤلاء الأشخاص زالت الاستقامة، إذا ابتعدوا ابتعد الإنسان عن الاستقامة، كلا، وكثير من الناس اليوم ارتباطهم بالدين هو عبارة عن ارتباط بأشخاص، لو زال هؤلاء الأشخاص لزال الارتباط بالدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد يستغرب البعض وجود الارتياح العاطفي الشخصي بين فاسق وداعية إلى الله يدعوه، ولكن الحقيقة أن هذا الأمر طبيعي في وسط الجاهلية التي أفرغت قلوب الناس من محبة الله وذكره، فيمكن أن تجد كل عاطفة سلبية مكانها في تلك القلوب الخاوية، وتنشأ العلاقات، ويحصل التأثر ليس لله، وإنما لشخص الناصح، لأجل الناصح، فيلتزم لوجه الناصح لا لوجه الله، من أسباب الانتكاس فساد الابتداء، وهذا أحد الأمثلة التي ذكرناها.

أن يكون التدين ليس لله

00:29:55

 مثال آخر: أن يكون تدين بعض الناس ليس لله، مثل أمثلة على هذا: طالب دخل نشاطاً إسلامياً في مدرسة مثلاً، واستقام في الظاهر لأجل الدرجات، حتى يحصل على درجات من مدرس الدين، أو غيره، هذا التدين ليس لله، فلذلك لو تخرّج هذا الطالب من المدرسة فلا يُتوقع له أن يستمر على عهده، ولو جاءت العطلة لربما تغير، ولو تغير مدرسه لربما تغير أيضاً؛ لأن الشخص الذي كان ينتفع به من جراء التدين ذهب، أو موظف مثلاً في دائرة أو مؤسسة يكون مديره مستقيماً على شرع الله، فهو يستقيم في الظاهر؛ لتتحسن معاملة المدير له، أو ليعطيه مزيداً من المزايا لمصلحته الشخصية، وهذا ملاحظ، لو جاء مدير مستقيم في أي مكان تجد بعض الناس يتغيرون تلقائيا وبسرعة، عجيب، كيف تغيروا؟ هل أمدى الإيمان يدخل في قلوبهم وبسرعة انقلبت شخصياتهم، سبحان الله، إذاً المسألة فيها سر، وهو أن القضية قضية مصلحة، صار التدين الآن للمصلحة، بعض الدارسين في كليات العلوم الشرعية قد يلتزم ظاهرياً؛ لأنه يدرس الشريعة، كيف لا يطلق اللحية، وكيف لا يظهر أمام الناس بمظهر المستقيم وهو يدرس الشريعة، وقد يصبح في المستقبل قاضياً، أو مدرساً للمواد الدينية.
فإذن، طبيعة الدراسة تفرض عليه أن يتدين، فهو يتدين لا لله لكن لأن مجال الدراسة يفرض عليه هذا؛ لأنه في مكان قد يكون مظهره مخالفاً لما هو مفترض أن يكون عليه، فيفرض عليه الواقع أن يستقيم في الظاهر وهو في الحقيقة غير ذلك، بعض الناس قد يتدينون ويستقيمون من باب تغيير الجو، هذا من فساد الابتداء لا حباً لله، ولكن سئم من حياته التي يعيش فيها فنظر فرأى أعداداً من المستقيمين كثُر، فدفعه حب الاستطلاع أن يعرف كيف يعيش هؤلاء الناس؟ هل هم سعداء يا ترى أم غير سعداء؟ دعني أنظر كيف يعيشون؟ كيف يكون نمط حياتهم؟ فلأعمل مثلهم، وألتقي بهم، وأسير معهم حتى أغير، من باب التغيير، وقد يحس البعض في البداية بأن حياة الالتزام والاستقامة حياة جميلة؛ لأنها جديدة عليهم، وقد يحس الواحد في أول أمره بفيض من المشاعر يغمره، مثل: مشاعر الأخوة في الله، أو المشاعر التي تنتج عن عمرة، أو حج في البداية يكون له طعم خاص، وبعض جلسات العلم في بداية أمرها يكون لها طعم خاص، وبعض المناسبات الإسلامية مثل الرحلات وغيرها تحتوي على أمور لم يكن يألفها من قبل، ولم تقع عينه عليها، فتلعب عوامل الإثارة دوراً مهماً في انجذاب هذا الشخص في البداية وتحمسه، ولكن بعد ذلك يدب التعب والملل، وتذهب تلك الإثارة؛ لأن الشيء الذي كان جديداً عليه قد أصبح معتاداً، وحب الاستطلاع الذي دفعه في البداية لأن يفعل ما فعل قد أصبح الآن زائلاً؛ لأنه قد عرف كيف يعيشون، انتهينا، فهو يخرج كما دخل، تأثرات في البداية تنتهي، فساد الابتداء.

دخول طريق الاستقامة من باب التجربة

00:34:26

 وبعضهم يدخل في طريق الاستقامة على أن هذه تجربة جديدة، فليجرب التدين، ثم يعود منحرفاً كما كان، ومن الناس من يكون فساد ابتدائه بأن يقبل منه في بداية أمره بقاؤه على نوع معين من المنكرات، أو يقبل منه أن يلتزم بجوانب من الدين في المظهر مثلاً، ولكن لا بأس أن يفعل بعض المنكرات الأخرى، فهذا لا يستمر طويلاً، بل إنه سرعان ما ينتكس ويسقط.

عدم الخلاص الكلي من شوائب الجاهلية

00:35:13

 ومن الأسباب كذلك عدم التخلص من شوائب الجاهلية وآثامها عند الاستقامة، فقد يكون للشخص المستقيم الذي يتظاهر الآن بالاستقامة علاقات ما زالت مع بعض أهل الشهوات لم يتب منها ولم يقطعها، وربما خفف منها في البداية أو توقف عنها، لكنه لا يزال يحن ويعاوده الشوق إلى ممارسة تلك العلاقات مرة بعد مرة حتى يسقط فعلاً.
فهو عند دخوله في طريق الاستقامة لم يكره الشر، ولم يسخط على الإثم، ولم يخلع على عتبة الإسلام جميع ملابس الجاهلية، فتعاوده تلك العلاقات بمبادرة منه، أو بمبادرة من صاحب العلاقة الآخر الآثم، يتصل به ويزين له الشر ويدعوه مرة أخرى، وهنا قد لا يصمد وينتكس ويسقط في هاوية الفاحشة.
والحديث الصحيح الوارد في قصة الصحابي الذي كان بعد إسلامه يهرّب المسلمين من مكة إلى المدينة، يذهب إلى مكة يدخل خفية، ويحمل بعض الضعفة من المسلمين من الضعاف الذين لا يستطيعون الهجرة بمفردهم ويهرب بهم إلى المدينة، يفعل ذلك لوجه الله، هذا الرجل كان على علاقة بامرأة في الجاهلية قبل أن يسلم، ولما دخل مكة سراً ليحمل بعض المسلمين ويهاجر بهم إذا بالمرأة التي كانت على علاقة معه تراه، فلما رأته هشّت له وبشّت، ودعته إلى ما كان منهما من الوصال المحرم في الماضي، ولكن هذا الصحابي الذي عصم الله قلبه بالإيمان لم يستجب لدعوة تلك المرأة، بل رفض العرض، فهددته أن تصرخ بكفار قريش ليأتوا به فيأخذوه، وقد يقتلوه، فرفض، فصرخت تنفيذاً للتهديد الذي تهددته به، فاجتمع كفار قريش، فهرب ذلك المسلم فدخل مغارة، فدخلوا يبحثون عنه، يقول: فأعمى الله أبصارهم فلم يروني، جزاء الاستقامة، ثم خرجوا فخرج هو وعاد إلى المدينة" [رواه أبو داود: 2051، والترمذي: 3177، وحسن إسناده الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود: 3177]. كذلك ينجي الله الذين اتقوا، إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج: 38]. فقد تعاود الشخص المستقيم أشياء من الماضي لا بد أن يقف لها بالمرصاد، وإلا فإن السقوط سيكون عاقبة طبيعية لاستجابته للمحرمات.

أثر الرفقة السيئة في ترك الاستقامة

00:38:18

 ويدخل في ذلك عدم قطع الصلة بالرفقة أصحاب السوء القدامى، فهو لا يزال يجلس مع هؤلاء ومع هؤلاء، لا يزال يجالس أصحاب السوء الذين كان على علاقة بهم، ولا يزال يجالس أيضاً أصحاب الاستقامة الذين قد تعرف عليهم الآن، فهو كالشاة العائرة بين الغنمين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فلا يلبث أن يغلب جانب الشر في نفسه، ولا يجتمع في قلب عبد محبة الله ومحبة الشيطان، وكما يقول ابن القيم -رحمه الله-: "وإن القرآن والغناء لا يجتمعان في قلب عبد أبداً" كيف يجلس مع هؤلاء فيسمع آيات التنزيل، ويسمع أحكام الله وأوامر الله، ويسمع الرقائق والمواعظ، ثم يجلس مع أولئك الناس الآخرين فيسمع الغناء والموسيقى والطرب ويلعب الورق كيف يجتمعان؟ فلا بد أن يكون عاقبة هذا السقوط عاجلاً أم آجلاً، ولذلك كان لا بد من هجر أهل السوء بالكلية عند الدخول في طريق الاستقامة، ومن شواهدنا على هذا: حديث قاتل المائة نفس الذي ورد في الصحيح، [رواه مسلم: 2766] .
هذا الرجل الذي قتل مائة نفس لما ذهب إلى عالم فسأله هل له توبة، قال: نعم، وما الذي يحول بينك وبين التوبة؟ قال له العالم: اذهب إلى القرية الفلانية، قرية كذا وكذا، فإن فيها أناساً صالحين يعبدون الله فاعبد الله معهم، قال له اخرج من مكانك واذهب لا تبقى فيه؛ لأن الناس الذين يشجعونك على الشر، ولذلك بعض العلماء يرون أن من شروط التوبة، عدوا شروطاً للتوبة: الندم على ما فات، الإقلاع عن الذنب، الندم على ما فات، العزم على عدم العودة إليه، إرجاع حقوق المخلوقين، مفارقة مكان المنكر، وهذه الأمور التي سردناها آنفاً تؤكد أهمية التربية، وتهذيب النفس، وتخليصها من كل شوائب الجاهلية، وأهمية التربية الإسلامية المركزة، لا التربية القطيعية، وستبقى المعضلة عند المخلصين الموازنة بين التربية الإسلامية المركزة، وبين استقبال الجموع الوافدة بسلبياتها وإيجابياتها إلى الأوساط الإسلامية واستيعابها، وفتح الباب أمامها على مصراعيه.

 الندم الشديد والتأنيب على الماضي

00:41:13

 ومن الأسباب كذلك التي تؤدي إلى السقوط أن يكون الإنسان في بداية الالتزام في حالة ندم شديد على ما فعل في الماضي، فيبدأ الضمير يؤنب، ويبدأ الرجل يحس بالحاجة إلى المواعظ ويحس بالحاجة إلى الرقائق، فهو لا يزال يسمع المواعظ والرقائق الواحدة تلو الأخرى ويستشعر خشية الله في البداية، بعد فترة من الزمن تبرد الأمور، وينشغل بأشياء أخرى عن المواعظ والرقائق، وينسى خشية الله، دائماً في بداية دخول الناس في بداية التوبة تكون التوبة حارة، ويكون الإقبال شديد، وتكون العبادة عظيمة، بعد فترة من الزمن تبرد هذه الأشياء، ويخف تأثر الإنسان بالمواعظ، وقد لا يسمع موعظة مطلقاً، ويقول: دع المواعظ لغيري ممن دخلوا في الطريق الآن، أنا أمري أعظم من سماع المواعظ، فيترك سماع المواعظ وينشغل بغيرها، فيضعف واعظ الله في قلبه، والرسول ﷺ كان من منهجه أن يحافظ على المواعظ بين أصحابه حتى لو تقدم بهم العمر في طريق الاستقامة، ولذلك يقول الصحابي: "وعظنا رسول الله ﷺموعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، بعد كم سنة وعظهم؟ لا يزال يعظهم، مضت عليهم سنوات في طريق الإسلام، لكن الموعظة مهمة، وترقيق القلب مهم حتى آخر لحظة من الحياة، ولذلك لا بد أن نركز على قضية الوعظ، وعلى قضية الرقائق، وعلى قراءة كتب الرقائق، وقراءة المواعظ، ولا بد أن يركز الدعاة إلى الله بين الناس على الوعظ، وبين أنفسهم كذلك على وعظ أنفسهم بأنفسهم، لا بد أن نتعظ، وورد في صحيح البخاري في قصة الخضر أن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل، فوعظ الناس وذكرهم، فسالت الدموع، ووجلت القلوب فولّى، فاختصر الموعظة، وعظ الناس بالشيء المناسب، ولما تأثروا مشى حتى لا يترك المجال لفتح مواضيع أخرى تذهب أثر الموعظة، فعلينا التركيز على قضية الوعظ والرقائق، وعدم إهمالها أو تركها لمن نعتقد أنهم دوننا في المستوى الإيماني.

الاستقامة المؤسسة على غير تقوى الله

00:44:08

 وكذلك فإن التزام بعض الناس بالإسلام التزام غير مؤسس على تقوى من الله ورضوان، فسرعان ما يزول، أو يكون بتأثير طاعة من الطاعات أو حدث من الأحداث، فهناك أناس يتغير واقعهم بعد الحج مثلاً، أو بعد عمرة في رمضان، يبكي في الحرم ويدعو، وفي الحج يشعر بتغيرات إيمانية كثيرة في نفسه، فيعود متغيراً متبدلاً، أو مثلاً بعد حادث سيارة نجا منه فيتغير الشخص، أو مرض خبيث نجا منه فيتغير الشخص، فهو تغير بعد طاعة واحدة، أو بعد حادث من الأحداث، لم يستغل التأثر الحادث بعد هذا الحدث وبعد هذه العبادة في تنمية الإيمان في نفسه، وإنما جاءت هذه الدفعة من الإيمان فلا زالت تنقص شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن وهو لا يستغل هذا الإيمان الحاصل في نفسه الذي جاء بعد حادث السيارة، أو بعد الحج والعمرة، فضعف وضعف حتى سقط، فإذن لا بد من استغلال الفرص، والاندفاع والتأثر في لحظات التأثر الأولى؛ لتغذية وتنمية الإيمان في النفس، والمبادرة بالاستمرار لعمل الطاعات والخيرات، ولزوم الرفقة الصالحة؛ حتى يقوى الإيمان، يصبح على أساسات، لا يصبح مجرد حماسة حدثت بعد حادث ثم انطفأت.

الاستقامة الفردية

00:45:57

 وانتكاس بعض الناس راجع إلى أن التزامهم بأحكام الدين كان بطريقة فردية، لم تحط بسياج من الإخوة الإسلامية، وما دامت الشاة بعيدة عن القطيع فإن تسلط ذئاب الشبهات والشهوات عليها يجعلها فريسة سهلة، فأين الحياة الفردية الباردة على شفا جرف هار من الحياة الإسلامية الجماعية التي يغذي بعضها بعضاً، ويدفع بعضها بعضاً، ويحمس بعضها بعضاً، ويستفيد بعضها من بعض، ويكمل بعضها بعضاً، فاعتقاد بعض الناس أنه يكفيهم الالتزام أو الاستقامة بعيداً عن إخوانهم الآخرين المسلمين هو اعتقاد خاطئ، وإذا بقي وحيداً فلا بد أن يكون السقوط حليفه يوماً من الأيام، وقد يكون لسفر مثلاً في إجازة من الإجازات أو غيرها، فيذهب هذا الشخص إلى مكان لا يوجد فيه أصدقاء طيبون، ولا أناس مستقيمون، فيبقى في ذلك المكان وحيداً فريسة للذئاب البشرية التي تريد أن تجتاله عن طريق الله، فلا يلبث أن يرجع إن رجع بعد ذلك إلى موطنه الأول متغيراً منتكساً، وتقع هذه الحالة كثيراً بين الناس الذين يسافرون إلى الخارج لقضاء العطلة، قد يزور أقرباء له فسقة، ويعيش شهوراً في جو من التفسّخ والتحلل والاختلاط الذي يؤثر على إيمانيته، فيجعل الرجل يترك الطاعات، والمرأة تترك الحجاب وغيره، ويعود هذا وهذه إلى مكانه منتكساً بعد أن كان مستقيماً، وأحياناً يكون انتقاله من منطقة سكنية إلى منطقة أخرى لا يلقى فيها أناساً مستقيمين كما كان حاله الأول في سكنه الأول، يكون سبباً مباشراً من الأسباب التي تجعله ينحرف عن الطريق المستقيم.

العُجب بالنفس

00:48:26

 والإعجاب بالنفس من الآفات الداخلية العظيمة التي تسبب السقوط، فقد يدفع الإعجاب بالنفس الإنسان أن يشابه الصوفية في معتقدهم الباطل، الصوفية يقولون: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99]. يزعمون أن اليقين مرحلة إذا وصلها الإنسان فإنه لا يحتاج إلى العبادة، والذي نعلمه من تفاسير أهل السنة والجماعة عن اليقين أنه الموت، وَاعْبُدْ رَبَّكَ [الحجر: 99]. عبادة متصلة تامة حتى يأتيك الموت وأنت على عبادة الله، فبعض الناس يقولون من منطلق الإعجاب بأنفسهم يقول: إنني قد نلتُ قسطاً وافراً كبيراً من التربية، وقد وصلتُ إلى مرحلة اليقين في الطريق فلا حاجة لي إلى المزيد، ولأتفرغ لمهام جليلة لا يقدر عليها البسطاء، فينحجب عن التربية وأجوائها فيقع في الهلاك بسبب إعجابه بنفسه، واغتراره بقدراته، فلا يلبث أن يسقط.

الكبرياء والتعالي على الخلْق

00:49:34

 ومن الأسباب كذلك الكبرياء والتعالي على خلق الله، وبالذات على إخوانه المستقيمين، ومما اشتهر في كتب التاريخ حادثة ارتداد جبلة بن الأيهم، وإن كانت قد وردت من طريق الواقدي وغيره، فهذه القصة التي ملخصها أن جبلة كان نصرانياً من ملوك غسّان، فأسلم وجاء يطوف بالكعبة فوطئ رجل على إزاره، فصفعه جبلة صفعة هشمت أنفه أو عينه، فرُفع الأمر إلى عمر، فقال: لا بد من القود، فلما رأى الرجل أنه سيُقاد منه، وأنه ملك، كيف يُستقاد منه من أجل رجل من مزينة ضعيف، فلما عرف أنه سيُطبّق عليه الحكم هرب في الليل وولى ورجع إلى النصارى، فعاش في أكنافهم حتى مات" وهذه القصة لها روايات مختلفة، والمقصود أن الكبرياء والتعالي من أعظم الأسباب.
وهذا الكبر وهذا الغرور يؤدي بالإنسان إلى السقوط في مهاوي لا يعلم بها إلا الله، ولعل من أشهر الأمثلة على ذلك في هذا القرن واحد من الناس كان عالماً من العلماء، وألّف كتباً في العقيدة السلفية يندُر أن يؤلّف مثلها، ومن أعظم كتب هذا الرجل كتاب: "الصراع بين الإسلام والوثنية" الذي ردّ فيه على أناس كثيرين من أهل الضلال، وتجد فيه من قوة الحجة والجودة في الرد ما لا تجده في مكان آخر، على سبيل المثال: احتجاج البعض بآية:وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء: 64]. التي احتج بها بعض المبتدعة على إتيان قبر الرسول ﷺ وهو ميت، وطلب الاستغفار منه، وما يتبع ذلك من الانحرافات، استدلوا بهذه الآية، تجد هذا الرجل قد رد في كتابه هذا رداً عظيماً مفحماً على أولئك.
وكذلك له عدة مؤلفات في نصرة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، وهذا الرجل بعد فترة من الزمن أصبح ملحداً من الملاحدة، وذهب إلى بلاد الكفار وعاش عندهم، وهو قريب العهد جداً بتاريخنا.
كانت بداية انحرافه ظهرت في كتاب له يسمى: "هذه هي الأغلال"، هذا الرجل درس في الهند، ورحل إلى مصر، وكان رفيق رحلته في إحدى الرحلات الشيخ عبد الله بن يابس -رحمه الله-، هذا الرجل كان يعيش في القصيم، ويسمى -العالِم المقصود الآن بالكلام الذي ألحد- يسمى: عبد الله بن علي القصيمي، وقصته معروفة مشهورة، وكان أبوه مصرياً من جيش محمد علي، وأمه من البلاد التي عاش فيها من القصيم، ثم أن الرجل ترعرع ونشأ وطلب العلم، ونبغ فيه، فألّف هذه المؤلفات العظيمة حقيقة مثل كتاب الصراع بين الإسلام والوثنية، ولكن الرجل كان عنده من الكبر في نفسه شيئاً كبيراً جداً، لدرجة أنه يقول: ولو أن ما عندي من العلم والفضل يوزع في الآفاق لأغنى عن الرسل، يقول: لو أن ما عندي من العلم والفضل يوزع على الناس كلهم في الآفاق لأغنى عن إرسال الرسل! ويقول: أنا عندي من الطاقات الإمكانيات والنبوغ والذكاء ما يبرر لي تكبري واستعلائي، أنا عندي السبب الذي أستعلي به، بدأ ينحرف وألف كتاب: "هذه هي الأغلال"، ورد عليه مجموعة من خيرة العلماء، منهم الشيخ محمد بن عبد الرزاق حمزة، والشيخ إبراهيم السويح في كتاب: "بيان الهدى من الضلال في الرد على صاحب الأغلال"، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله-، وكان أجود من ردّ عليه الشيخ عبد الله بن يابس -رحمه الله- رفيقه في رحلته، وهو يعترف بهذا، يقول: ولم يرد علي أحد مثل عبد الله بن يابس.
هذا الرجل تطورت به الأمور أكثر فأكثر حتى ألحد وألّف كتباً منها: العالم ليس عقلاً، هل لهذا العالم من ضمير؟ الكون يحاكم الله، وكتب أخرى فيها الكفر والزندقة والإلحاد الواضح، وذهب إلى بلاد الكفار؛ لأنه لا يمكن أن يعيش بين المسلمين، سبب ردة هذا الشخص: قضية الكبر والعُجب، هذا الكبر الذي وقر في نفسه، مع أنه ما ينقصه علم، لكن هذا الذي حدث، وبعض الناس الآن من صغار طويلبة العلم تجد أنهم يطلقون عبارات عجيبة في أثناء كلامهم، يمكن يقول شيء بسيط، ثم يقول: فاظفر بهذا التحقيق، أو هذا عزيز نفيس قلما تجده، وهذه الجمل قد تُعاب على بعض كبار العلماء، فكيف ببعض الصغار الذين ما تمكنوا بعد وكيف يطير الواحد منهم ولما يريش، ما نبت لهم ريش على أجنحتهم حتى يطيروا في سماء العلم، فهذه العبارات التي تنبئ عن العُجب والغرور هي تعبير عن العُجب في النفس، وهو سبب مباشر للسقوط.

إحساس المرء بالكمال المطلق

00:56:48

 وكذلك أيها الإخوة إحساس المرء أنه كامل، وأنه ليس بحاجة إلى غيره، ولا يحتاج إلى توجيه، ولا يقبل نصيحة من أحد، هذه النفسية لا تلبث أن تؤدي إلى سقوط صاحبها، ومن الأمراض القلبية كذلك الحسد، وتكرر صورة قابيل وهابيل، عدم الصبر على تفوق الآخرين في شتى المجالات، ويأكل الغيظ كبد الحاسد فلا يستطيع الاستمرار في الوسط الذي هو فيه، فيخرج إلى أناس من البلهاء، يترك الوسط الإسلامي، ويخرج إلى أناس من البلهاء يعيش بينهم ليرى نفسه أنه المتميز فيهم، يصل لدرجة يرى من حوله طاقات مشتعلة لا يستطيع أن يجاريها، ولا يستطيع أن يتفوق عليها وهو حاسد، فيترك هذا الوسط، ويذهب إلى وسط آخر فيه ضعفاء أو بُلهاء يعيش بينهم حتى يشعر بمجد العظمة. 

اللؤم والحقد وعدم التسامح

00:57:54

 هذه الطباع السيئة التي تبقى في النفس بعد دخول هذا الشخص في عداد المستقيمين ظاهراً كثيرة ومنها أيضاً اللؤم وعدم التسامح في الأخطاء والحقد، هذه الخصال إذا بقيت في نفس صاحبها بغير تهذيب فإنها ستتفاعل وتظهر على السطح مكونة مشاكل عظيمة بعد مدة قصيرة، وتبدو المواقف التي تنم عن سوء النية وخبث الطوية، فلا يلبث أن يحدث بعدها الانقلاب ويرتد على عقبيه.

التساهل واتباع الرخص واحتقار الصغائر

00:58:31

 ومن الأسباب كذلك التساهل واتباع الرخص واحتقار الصغائر، وهذه المسألة خطيرة تتسع وتمتد، فمرة يسبل ويقول: هناك من كره الإسبال ولم يحرمه، ومرة يأخذ من لحيته ويقول: هناك من أجاز ذلك، ومرة يسمع إلى الموسيقى والغناء ويقول: إن هناك من كرهها ولم يحرمها أو أجاز الموسيقى الهادئة وحرم الموسيقى الغربية الصاخبة، ويتساهل بعضهم في الجلوس مع النساء الأجنبيات، والاختلاط، وهذا التساهل واحتقار الذنب يؤدي تدريجياً إلى تراكم الذنوب، والانتقال من الذنب الصغير إلى الذنب الأكبر منه حتى يحدث الانتكاس والعياذ بالله.
ويدخل في ذلك مخالطة العامة بغير تحفظ، والأقرباء غير المستقيمين والاستئناس إليهم، والرضا بالمنكر الذي هم عليه وعدم إنكاره، ومجاراتهم في الحديث، وربما استهزءوا بالدين وهو جالس فلا يلبث أن تضعف عظمة الله في نفسه حتى تتلاشى فيسقط، وكذلك مدخل شيطاني يدخل منه أحياناً على الشخص من باب الدعوة، فيقوم الرجل يزعم أنه يريد أن يدعو امرأة أجنبية مباشرة، فيكلمها وتكلمه، أو امرأة تريد أن تدعو رجلاً أجنبياً فاسقاً مباشرة فتكلمه بزعمها تريد أن تدعوه إلى الله، ماذا نتوقع أن يحدث بعد ذلك إلا العلاقات المحرمة التي تنتهي إلى نهاية سيئة.

حب الوجاهات والمناصب والتعلق بها

01:00:21

 ومن الأمور كذلك قضية المناصب والوجاهات وما تسببه من الوقوع في كثير من المحرمات، فإن بعض الناس الذين يرتقون في السلم الوظيفي وتتحسن أحوالهم من هذه الجهة يأخذهم الكبر والعجب والغرور، ويبدأ يجتمع مع من هو أكبر منه يكون مشرفاً فيجتمع مع المدير، ويكون مديراً فيجتمع مع المدراء العامين، ويكون مديراً عاماً فيجتمع مع أعضاء مجلس الشركة، وقد يكون هؤلاء من الفسقة الفجرة الذين يكون اجتماعهم في معصية الله، فيتأثر بهم، ويجذبه بريق المنصب إلى طاعتهم، ويخاف على منصبه أنه إذا خالفهم في شهواتهم وأهوائهم أن يفقده، وقد يحضر وقت صلاة الجماعة وهو في الاجتماع، فيأتيه الشيطان، ويقول: كيف تغادر المكان الآن إلى صلاة الجماعة؟ ماذا سيقولون عنك؟ قد يتهمونك ويلفقون ضدك ما يفقدك هذا المنصب، ويدفع الكثير ممن يختلطوا بمثل هذه الطبقة من الناس الثمن من دينه، وقد يجلس في مكان يعرض فيه فيلم علمي مثلاً تصحبه الموسيقى، فيأتيه الشيطان، ويقول: كيف تخرج من القاعة؟ وماذا يقول الناس عنك؟

دعوى الانشغال بالدعوة واهمال الواجبات

01:02:05

 ومن الأمور كذلك أن بعض الطلاب في موضع الدراسة قد يضعف واقعه الدراسي، وقد يحصّل نتائج سيئة وهو مستقيم، فيبدأ يتهم من؟ ويضع السبب سبب الانتكاسة الدراسية على من؟ إنه يضعه على التدين، وعلى الدعوة إلى الله، وعلى المستقيمين، هي السبب، وهم السبب في نكسته الدراسية، ويقول: إن هؤلاء أشغلوني، وإن الدعوة إلى الله قد أشغلتني، وطلب العلم قد أشغلني، فوصلت إلى هذه الحالة الدراسية السيئة، فما هو الحل حتى يحسن وضعه الدراسي؟ إنه لا بد أن يتخفف من هذه المهام، ولا بد أن يخرج من هذه الأوساط حتى يصبح حراً طليقاً يدرس كما يشاء حتى يتفوق، ومن المعلوم أن ما حصل لهؤلاء كان بسبب عدم ترتيبهم وتنظيمهم لوقتهم، وعدم استغلال الأوقات في الأشياء النافعة التي يريدون عملها، فعندما يحمّل الدين، ويحمّل الاستقامة والدعوة إلى الله وطلب العلم والناس المستقيمين هم السبب في انتكاسته الدراسية، فيترك كل هؤلاء وينحدر بعد ذلك في طريق الغواية.

الاشتغال بالمال والتجارة

01:03:35

 ومن الأشياء كذلك التي تسبب السقوط: المال والتجارة، كثير ممن اشتغلوا بالتجارة في بداية أمرهم وكان مجالهم ضيقاً نسبياً، توسعت أعمالهم، وفتح الله عليهم، وهم يستزيدون من هذه الأموال، ويحرصون على الدخول في مجالات تجارية أخرى، حتى يمتلئ وقتهم تماماً بهذه الأشغال وهذه الأموال، وينشغلون عن أنفسهم وعن أهليهم أن يقوها ناراً وقودها الناس والحجارة، ويزعمون أنهم سينفقون من هذه الأموال والأرباح على المسلمين، وأنهم سيدعمون القضايا الإسلامية، ولكن هذه الدعاوى لا تلبث أن تنبئ وتكشف عما في قلب صاحبها من الخبايا السيئة، ويتضح أن المسألة جشع في طمع، وأن القضية حب للدنيا، هؤلاء الذين قال الله فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ  فتح عليهم ورزقهم  بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة: 76- 77].
أنتم ترون في الواقع كثيرين من أولئك الذين جذبهم بريق المال، وطمع التجارة عن تعلم العلم الشرعي، وأداء الوظائف الدينية والدعوة إلى الله ، إن المال فتنة وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ  [الأنفال: 28]، ولذلك يقول رسول الله -ﷺ في الحديث الصحيح: وما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى  [رواه أبو داود في الزهد: 160، وابن كثير ف ي السيرة النبوية: 4/24، والبيهقي في الدلائل: 5/242].

الخوف من الابتلاء والمحنة قبل وقوعها

01:05:41

 ومن الأسباب كذلك الخوف من الابتلاء والمحنة قبل وقوعها أو عند وقوعها، فالأول جبان رعديد الذي يخاف من الفتنة قبل وقوعها، والثاني مسكين، والمسألة تدل على خشية الناس أكثر من الله، ويخاف قطع الرزق، أو يخاف من الاضطهاد، ولكن صحابة رسول اللهﷺ كانوا إذا قيل لهم: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ  [آل عمران: 173]. أما كثيرون من الذين يزعمون الاستقامة اليوم فإنهم مع كلام المرجفين والمخوفين الذين يثيرون هذا الكلام وتلك الأخبار المكذوبة أو الصحيحة في الأوساط حتى يرعبون أولئك الذين يريدون أن يستقيموا، فيتصور الإنسان أن الاستقامة تؤدي به إلى الهلاك؛ فيترك الاستقامة؛ لأنه يخشى الناس أكثر مما يخشى الله.

ضغط الأهل والأقارب على الشخص المستقيم

01:06:51

 ومن الأسباب كذلك التي تؤدي إلى السقوط والانتكاس: ضغط الأهل والأقارب، فبعض الأهل والأقارب من الفسقة الفجرة الذين يهاجمون وينتقدون، وقد يصل الأمر إلى الضرب والمحاربة والمقاطعة، وإن المقاطعة تؤثر تأثيراً شديداً خصوصاً في قطاع النساء، فإن الرجل إذا قوطع قد يذهب إلى أصحابه ويخرج من بيته، ولكن المرأة المسكينة ماذا تفعل إذا قاطعها أهلها وبقيت وحيدة؟ فالضغط النفسي الذي يسببه الطوق الذي فرضه أولئك من الحصار عليها إذا ما اعتصمت بالله ولم تصبر فإنها قد تعود وتسقط نتيجة لهذا الظرف النفسي الشديد الذي تواجهه.
والحبس وقطع المصروف، والحرمان من العطية والهبات، أو الطرد من البيت، هذه أمور يفعلها بعض أولي القرابة اضطهاداً للمستقيمين من أبنائهم في البيوت، وسلمان الفارسي قد حصل له شيء من هذا، فإنه لما أراد أن يبحث عن الحق وعلم أبوه أن الابن سيذهب ويخرج ليبحث عن الحق قيده في البيت، وكبّله بالسلاسل حتى لا يخرج، ولكن الله أنجاه، فاستطاع الهرب حتى وصل إلى رسول الله ﷺ فأسلم عنده في قصة طويلة صحيحة، رواها الإمام أحمد وغيره.
[رواه أحمد: 23712، والطبراني وقال ابن الهيثمي: رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: 8/241].
وقد تصل الدناءة ببعض الأقارب أن يضعوا المغريات والفتن أمام المستقيمين من أبنائهم وبناتهم، فيجلبون الأفلام السيئة إلى غرف المستقيمين من العائلة، ويضعون الصور والمجلات الخالعة داخل غرفهم، وبعض الأمهات تصل بها الحال إلى إدخال ابنة الشخص المستقيم، ابنة خاله، أو ابنة عمه، متبرجة، أو بنت الجيران عليه -تزعم- حتى لا يصاب بالاكتئاب النفسي!، ويصل الأمر كذلك ببعض الفجرة أن يحرم ابنته من الحجاب، وبعض الأمهات كذلك تحرم ابنتها من الخروج بالحجاب، وقد تسحب الحجاب، وقد تخفيه، وقد تستهزئ بالبنت وهي تسير في الشارع أمام الناس من حجابها، وبلغ الأمر ببعض هؤلاء أنها كانت تخرج ابنتها كاشفة عن وجهها وشعرها عُنوة بالقوة لا تخرجها من البيت إلا وهي كاشفة، فتخرج هذه المسكينة من البيت، كيف تسير، فتضطر أن تخرج من باب البيت كاشفة حتى إذا خرجت من البيت بالكلية أو من العمارة أرخت على وجهها مرة أخرى، ولكن الدناءة تصل بتلك الأم أن تجلس على الشرفة لترى كيف تخرج البنت إلى الشارع، هل هي قد تحجبّت بعدما كشفت عن الحجاب أم لا؟ فإذا كانت قد تحجبت فإن الويل والثبور وعظائم الأمور بالانتظار بالمرصاد عند عودة البنت إلى البيت، وقد يصل الاضطهاد بهؤلاء إلى حالة أن يخجل الأب أو الأم أو الأقارب المستقيمين والمستقيمات أمام الجيران والجارات، وأمام أصدقاء العائلة، ويقولون على مرأى ومسمع انظروا إلى ابني، والأم تقول: انظروا إلى ابنتي، فعلت كذا وكذا، إنها متشددة، إنها تتحجب رغماً عني، والأب يسخر من لحية ولده ومن ثوبه أمام الآخرين في المجالس، وقد يكرهون الولد أو البنت على السفر معهم في الإجازة؛ حتى يعرضوه لأجواء المحنة والفتنة، وقد يصل بهم الأمر إلى منعه من زيارة إخوانه في الله، أو منعه من حضور حلقات العلم حتى ينقطع عن وسط التأثير والهداية.
وقد يحاكم الوالد ولده أمام الأقارب في المجلس، ويتهمه بالجنون والوسوسة، ويقول له: إن عاقبة التديّن إلى الجنون، ويقص القصص الخيالية أمام الناس في المجلس يقول: انظر إلى فلان إمام المسجد الفلاني، كان حافظاً للقرآن، عالماً، انحرف وصار يستعمل المخدرات، وترك الصلاة، وعلى فرض أن بعض هذه القصص صحيحة، وهي نادرة جداً والحمد لله؛ لأن الذين جاهدوا في سبيل الله لا بد أن يهديهم الله السبيل، فيشعرونه بأن التدين وسوسة، وأن عاقبته إلى الخسارة، وأنه سيجن بعد فترة، وأنه سيصيبه الوسوسة، ويقولون له: انظر إلى فلان التزم بالإسلام فحصل له كذا وكذا من الجنون، وفلانة التزمت بالحجاب وامتنعت عن الغناء وسماع المنكرات فحصل لها كذا وكذا من الخبط ومن الانفصام الشخصي، ومن المرض النفسي والعصبي، وكانت نهاية فلان في مستشفى الأمراض العصبية، كن وسطاً كأبيك، وقد يصل الأمر بالاضطهاد إلى الضرب والشتم، وأب كان يتفل ويبصق على ولده وهو خارج من الدار وهو عائد إليها، وربما كنا نظن أن قضية التعذيب والتنكيل مثل الصحابة خاصة بالصحابة أو شيء قد لا يتصور البعض، حتى سمعنا أن بعض الآباء قد يحمي حديدة ويضرب بها على جسد ابنته مثلاً أو ابنه حتى يرغمه على ترك الاستقامة، وذكرنا كذلك أمثلة بعض الآباء قد يغلق الباب حتى لا يخرج الولد إلى صلاة الفجر، يغلق الباب بالمفتاح ويأخذ المفتاح معه، وبعضهم قد يضع مزيل الشعر على لحية ولده وهو نائم عداء لسنة الرسول ﷺ.

أهمية الاحتساب لأجل الثبات على الاستقامة

01:14:13

 الشاهد أن هذه الضغوط شديدة، إذا ما صار الصبر، وما حصل الإحساس بقول الله -عز وجل-: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ  [العنكبوت: 2-3]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا [البقرة: 214].
فإذن، احتساب الأجر في هذه الأشياء مهم، وكثير من الذين صبروا نجوا والحمد لله؛ لأن الذين من حولهم يئسوا لما رأوا الثبات استسلموا للواقع، بل إنهم بعد فترة هم الذين يتأثرون من هؤلاء المستقيمين، ويتندمون على تلك الاضطهادات والإيذاء التي أوقعوها، ومن أشكال الضغط كذلك الرجل يهدد زوجته بالطلاق إذا هي تحجبت، أو تكون المرأة مثلاً بعد الخطبة غير متحجبة، ثم يهديها الله -عز وجل- للحجاب، فتتحجب ولما يدخل بها زوجها بعد، فعندما يعلم الزوج الفاسق أن المرأة تحجبت يقول: إما أن تتحجبي وإما أن تتركي الحجاب، أو أفسخ الخطوبة، فهناك إذن ضغوط كثيرة تمارس، وهذه قد تؤدي وأدت في أحيان إلى السقوط وإلى ترك الاستقامة وترك التدين نتيجة هذا الإيذاء النفسي والجسدي، وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند، والزوجة قد تكون فتنة لزوجها، فقد تشغله عن طاعة الله وعن ذكر الله، وعن العمل لدين الله، وتشغله بالشراء شراء الحاجات والاستغراق في لذات الدنيا، والرسول ﷺ يقول: تعِس عبد الدينار وعبد الدرهم [رواه البخاري: 2886].
وبعض الأولاد يكونون نكبة على آبائهم وأمهاتهم ويشغلونهم عن طاعة الله.
هذه طائفة من الأسباب التي تؤدي إلى الانحراف وإلى الانتكاس وإلى السقوط، وهي تقريباً أسباب داخلية في النفس، وكذلك استجابات داخلية لأشياء خارجية تقع، وهناك أسباب أخرى مع طريقة العلاج، ووصف الحالة النفسية التي يعيش بها المنتكس أو الساقط، وكيف يكون وضعه؟ وكيف يمكن أن يعود؟ هذا ما سنحاول أن نجيب عنه في الدرس القادم إن شاء الله في الجزء الثاني من هذه المحاضرة.
ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يثبتنا وإياكم.
اللهم يا مقلّب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك.
اللهم يا مقلّب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك.
اللهم يا مقلّب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك.
اللهم إنا نسألك العصمة.
اللهم إنا نعوذ بك من الزيغ والزلل والفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم واجعل باطننا صالحاً، وأصلح ظواهرنا.
اللهم طهّر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأصلحنا ظاهراً وباطناً، واجعلنا من المستقيمين على شرعك.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.