الخميس 17 شوّال 1445 هـ :: 25 أبريل 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

كيف الطريق إلى القدس؟


عناصر المادة
نبذة عن أول فتح لباب المقدس
بداية الحملات الصليبية على بلاد المسلمين
شهادات الصليبيين على ذبح المسلمين في القدس
تحويل الصليبيين المسجد الأقصى مكانًا للقذارات
دور عماد الدين زنكي في تكوين جبهة إسلامية
تقدُّم عماد الدين إلى بيت القدس
فتح مدينة الرها وأهمية ذلك بالنسبة للمسلمين
حكمة عماد الدين زنكي رحمه الله
جمع الكلمة وتوحيد الصف ضد الصليبيين
خطر الباطنية على وحدة صف المسلمين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فأحييكم في هذه الليلة وأقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإن هذه الأحداث تفرض نفسها علينا، ولا شك أننا نتأثر بها، وحتى في كلامنا وموضوعاتنا لها تأثير، وما يعانيه مسجد بيت المقدس اليوم من الويلات العظيمة والشرور اليهودية الخطيرة سيجعل لذلك أثرًا ولا شك على كلامنا وموضوعاتنا، ولا غرابة أن أعداء الله اليهود يخططون لإزالة هذا المسجد وبناء هيكلهم بدلًا منه، وقد نشروا الصور التي تدل على ذلك وتبين مكان المسجد المزال هيكلًا ونجمة سداسية بدلًا منه، ونحن لا ندري عن القدر المخبأ، فالقدر سر الله تعالى، وماذا سيكون في مستقبل الأمر؟

لكننا نريد في هذا الدرس أن نعرّج على المحن التي تعرض لها مسجد بيت المقدس ونرى ما حصل من خلال التاريخ الإسلامي بشأن هذا الموضوع.

نبذة عن أول فتح لباب المقدس

00:02:23

لقد فُتح بيت المقدس في العام السادس عشر من الهجرة؛ لما قاد عمرو بن العاص جيوش المسلمين ونزلوا في نواحي فلسطين ووقعت معركة أجنادين بين عمرو بن العاص والمسلمين، وجنود الروم بقيادة أرطبون، وهي معركة قوية انتصر فيها المسلمون واستولى عمرو بعدها على مدن فلسطين الشمالية، ثم تحول إلى بيت المقدس، حيث كانت أولى القبلتين وثالث المسجدين ومسرى رسول الله ﷺ فحاصره عمرو والمسلمون ودافع عنه الروم بقيادة أرطبون دفاعًا مستميتًا واستعملوا المنجنيق لضرب المسلمين، فكتب عمرو يطلب المدد من عمر، فأمدّه بأبي عُبيدة بن الجراح لحصار بيت المقدس، فخرج أبو عبيدة متوجهًا إلى بيت المقدس، فساعد وصوله في تقوية عزائم المسلمين والفتّ في عضُد الروم، الذين بدأوا يفكرون في الاستسلام، وهكذا كان بطريارك القدس بنفسه يدخل المفاوضات مع المسلمين في الصلح، مما أغضب الأرطبون فخرج إلى مصر، واستمرت المفاوضات بين المسلمين والبطارقة والقساوسة حتى وافق أهلها على التسليم والمصالحة، لكنهم اشترطوا أن يتولى عمر من طرف المسلمين بنفسه هذا الصلح، ويسلّم له المدينة شخصيًا، فكتب بذلك أبو عبيدة إلى عمر الذي سار من المدينة والتقى مع أجناد المسلمين في الجابية، ثم بعد ذلك أخذ طريقه إلى بيت المقدس، وهنالك كتب لهم عهدًا أمّنهم فيه على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، وأنهم لا يُجبرون على ترك دينهم وأنهم بالخيار، من شاء منهم البقاء في ذمة المسلمين ومن شاء اللحاق بالروم، ومن خرج فهو آمن على نفسه وماله، وقد اشترط أهل بيت المقدس أن لا يسكن معهم أحد من اليهود، هذا من الأشياء التي كانت منصوص عليها وكانت في الاتفاق، وتوجه عمر إلى بيت المقدس واستقبله أهلها ودخل المسجد وأقام في تلك المدينة بضعة أيام ثم غادرها إلى الجابية، وبفتح بيت المقدس صار المسلمون قد فتحوا معظم بلاد الشام وأصبحت لهم السيطرة عليها بلا منازع، وهكذا استمر الأمر من العام السادس عشر الهجري وحتى صار احتلال بيت المقدس من قبل الصليبيين بعدها بمئات السنين.

بداية الحملات الصليبية على بلاد المسلمين

00:05:25

لقد كانت تلك الحملات الصليبية التي تحرك فيها الصليبيون لأول مرة من أوروبا بعد الدعوة التي وجهها البابا أُربان الثاني، وحملها إلى مختلف أنحاء أوروبا بطرس الناسك فصارت وراءه جموع الأوروبيين الدفعة الأولى خمسة عشر ألفًا ثم تزايد العدد إلى أن وصل إلى خمسة وعشرين شقوا طريقهم عبر الأراضي الأوروبية من الشرق إلى الغرب ووصلوا إلى القسطنطينية في عام أربعمائة وتسعين للهجرة، فأحسن نصارى القسطنطينية، وكانت بلدًا نصرانيًا استقبالهم وقدموا لهم المساعدات ونصحوهم، وخرجوا منها بعد ذلك سائرين إلى جهة المشرق، وآذوا المسلمين بل وحتى بعض النصارى في طريقهم واقتربوا من مناطق السلاجقة المسلمين، وحاولوا الهجوم على قونيا وهي بلدة إسلامية ولكن السلاجقة كانوا لهم بالمرصاد، حيث هاجموا تلك الجموع الغوغائية وأبادوهم، وفشلت بذلك الحملة الصليبية الأولى ولم يبق إلا ثلاثة آلاف فقط، وفر بطرس الناسك تاركًا أرض المعركة، وبذلك منّ الله على المسلمين في كسر هذه الحملة، أما الموجة الثانية في الحملة الصليبية الأولى التي عُرفت بحملة الأمراء فكانت أكثر تنظيمًا واستعدادًا من سابقتها، وقدموا من أماكن متفرقة من أوروبا مع أعداد كبيرة من الفرسان والجنود المدربين، وكانوا ذوي خبرة، واستطاع أولئك الأمراء عبور البسفور متجهين إلى الأناضول وخاضوا عدة معارك مع الأمراء السلاجقة، وقدر الله تعالى أن يكون لهم فيها انتصارات، واستطاعوا احتلال عدة مدن من الأناضول، ثم انقسموا إلى قسمين رئيسيين: اتجه أحدهما شرقًا ويقوده بلدوين وكان هدفه مدينة الرها، وكان للأرمن الكفار النصارى وجود كبير فيها، ولذلك كان ولاؤهم لإخوانهم، فتمكن النصارى من الاستيلاء على الرها وتأسيس أول إمارة صليبية في بلاد المسلمين في بلاد الشام في عام أربعمائة وتسعين للهجرة، ثم أخذت تتوسع فكان أول موطئ قدم لهم في ذلك المكان، وأما القسم الآخر فقد اتجه غربًا يقوده بوهمند إلى أنطاكية، وكانت تحت حكم الأمير المسلم "ياغي السلجوقي" الذي استمات في الدفاع عن المدينة، لكن الصليبيين قد حاصروه تسعة أشهر وهو صامد، وعبثًا حاول الاستنجاد بالمسلمين في دمشق وحلب وبغداد وغيرها، ولكن الأوضاع الإسلامية كانت ضعيفة والخلافات قوية، وكان الباطنية الفاطميون في مصر لا يمكن أن ينجدوا بطبيعة الحال، بل كانوا يريدون سقوط بلاد أهل السنة في أيدي النصارى، وهكذا حدث استيلاء هؤلاء الصليبيون على أنطاكية بعد حصار شديد وكان ذلك بخيانة أحد الأرمن النصارى بطبيعة الحال الذي فتح باب أنطاكيا لهم، فدخلوها وأعملوا القتل والسلب ولم ينجُ من المسلمين إلا القلة، ودفع هذا الكثير منهم إلى الرحيل مما جعل الصليبيين يتحركون إلى الجنوب أكثر من ذي قبل وتأسست الإمارة الصليبية الثانية في أنطاكية بقيادة بوهمند وبذلك صار لهم قاعدتان رئيسيتان في الشمال الشرقي والشمال الغربي من بلاد الشام.

إذن، الدرس المهم الذي يؤخذ من هذا: أثر هؤلاء النصارى الموجودين في بلاد المسلمين في مناصرة إخوانهم وخيانة المسلمين، وأن الخطر العظيم يأتي منهم؛ لأن سقوط البلد كان أساسًا بخيانة من أحد النصارى الأرمن الموجودين داخلها، فمنهم إذن الخطر العظيم إذا كانوا يقيمون بين المسلمين، ثبّت الصليبيون أقدامهم فيها وجاءت المزيد من الإمدادات واتجهوا نحو هدفهم المنشود بيت المقدس، واستولوا في الطريق على عدة مناطق منها معرّة النعمان وأعملوا في أهلها مذبحة همجية، ثم واصلوا طريقهم عبر طرابلس وبيروت وصُور وغيرها، وكان نصارى الشام وخصوصًا نصارى لبنان يستقبلون الصليبيين مرحبين بهم ومهنئين لهم ومثنين عليهم، بل كانوا هم أدلاءهم ومرشديهم في طريقهم إلى بيت المقدس، وكان الصليبيون يسمونهم نصارى الشام، يسمونهم المؤمنين من أهل المنطقة، حتى أوصلوهم إلى القدس، والقدس كانت ضائعة بين العباسيين الضعفاء جدًا في ذلك الوقت، وبين الفاطميين الباطنيين الذين انتزعوها من العباسيين السنة، ولذلك قد كان وضع المدينة هشًا ضعيفًا جدًا، وسهُل للنصارى والصليبيين بعد أن عملوا أبراج خشبية وتمكنوا من اقتحام الأسوار واحتلوا المدينة وقتلوا في ساحة المسجد الأقصى أكثر من سبعين ألفًا.

شهادات الصليبيين على ذبح المسلمين في القدس

00:11:20

ونحن سننقل الآن بعض الكلام من مؤرخي النصارى أنفسهم، ومع أنهم ما عرضوا كل الحقيقة، وكتب المسلمين فيها معلومات أدق وأوفى وأشمل، ولكن شهادة من الأعداء؛ يقول أحد المؤرخين الصليبيين: اندفعوا هنا وهناك خلال شوارع ومساحات المدينة مستلين سيوفهم وبحماية دروعهم وخوذهم وقتلوا جميع من صادفوا من الأعداء، والمقصود المسلمين، بصرف النظر عن العمر أو الحالة دون تمييز، وانتشرت المذابح بشكل مخيف، وتكدست الرؤوس المقطوعة في كل ناحية بحيث تعذر الانتقال على الفور من مكان إلى آخر إلا على جثث المقتولين، وكان القادة قد شقوا في وقت سابق طريقًا لهم بمسالك متنوعة إلى وسط المدينة وأحدثوا فيها قتلًا لا يوصف، وتبع موكبهم حشد من الناس متعطش لدماء الأعداء - يعني نحن - ومصمم تصميمًا كاملًا على إبادتهم، وكانت المجزرة التي ارتكبت في كل مكان في المدينة مخيفة جدًا لدرجة عانى فيها حتى المنتصرون من أحاسيس الرعب والاشمئزاز، وكان القسم الأكبر من الناس - يعني المسلمين - قد التجئوا إلى ساحة الهيكل؛ لأنها واقعة في قسم منعزل من المدينة ومحمية حماية قوية، إلا أن هروبهم لم ينقذهم؛ لأن تانكر النصراني على الفور قد تبعهم بالجزء الأكبر من الجيش وشق طريقه وعمل مذبحة مخيفة هناك، وقضى على من التجأ إلى تلك المنطقة، وهكذا تبع النصارى الصليبيون المسلمين في كل مكان في بيت المقدس وفي أروقته يقتلونهم ولم تظهر أي شفقة لأي واحد منهم وغمر الدم المكان وبات من المحال النظر إلى الأعداد الكبيرة للمقتولين فقد انتشرت أشلاء الجثث في كل مكان وكانت الأرض مغطاة بدم القتلى وكذلك الجثث التي فصلت الرؤوس عنها وأضلاعًا مبتورة منتشرة في كل مكان مما أثار الرعب في كل ناظر، وكان الأرهب من ذلك هو النظر إلى هؤلاء المنتصرين أنفسهم وهم ملطخون بالدماء من رءوسهم إلى أقدامهم، ويروى أنه هلك داخل الحرم فقط قرابة عشرة آلاف من الكفرة، - المقصود المسلمين - بالإضافة إلى المطروحين في كل مكان من المدينة والشوارع والساحات حيث قُدّر عددهم بمثل ذلك، وطاف بقية الجنود بحثًا عن التعساء الباقين على قيد الحياة، الذين يمكن أن يكونوا مختبئين في مداخل ضيقة أو طرق فرعية للنجاة، وسُحب هؤلاء وذبحوا في الشوارع مثل الأغنام، وتم اقتحام المنازل بعد ذلك منزلًا منزلًا، وقبضوا على أرباب الأسر وزوجاتهم وأطفالهم، وجميع هؤلاء الأسر قتلت قتلًا أو قُذفت من مكان مرتفع حيث هلكت بشكل مأساوي، وادعى كل واحد من المغيرين النصارى ملكية دائمة للمنزل الذي اقتحمه، بالإضافة إلى تملّك ما كان موجودًا فيه، وكانوا قد اتفقوا - يعني النصارى قبل اقتحام المدينة - على أن كل رجل يحصل على شيء بعد الاستيلاء على المدينة بالقوة، يكون حقًا له وملكًا إلى الأبد، ونتيجة لهذا فتّشوا المدينة بدقة تامة وقتلوا سكانها بجرأة وتوغلوا فيها واقتحموا الغرف الخاصة، وعلّق كل منتصر درعه وأسلحته عند مدخل البيت الذي استولى عليه،

إشارة لكل من يقترب منه حتى لا يتوقف عنده، بل يتجاوز إلى بيت آخر ومكان آخر ليتملكه، وهكذا عاثوا في الدماء في اليومين والثلاثة الأخيرة، حتى صار هناك شعور مفرط هستيري لم يشكوا لحظة في أن المسلمين المدافعين عن القدس استحقوا هذا لعداوتهم للمسيح وللرب كما يقولون، وأن هذه هي إرادة الرب كما قالوا، ودامت هذه المذابح حتى أن قُبّة الصخرة كانت مليئة بجثث المذبوحين الذين وصلت دماءهم لمستوى الركب، وتم الاستيلاء على الأموال الموجودة في تلك الأماكن الإسلامية، ولما لم يبق أحد يقتلونه ساروا خلال الشوارع التي لا تزال مفروشة بالجثث إلى كنيسة القيامة لتقديم الشكر للرب لهذا الانتصار العظيم والصليب الذي فازوا باسمه، هذه بعض التفاصيل التي وردت في كتب النصارى عن ذلك الاستيلاء الشنيع، وكان السقوط في عام أربعمائة واثنين وتسعين للهجرة.

تحويل الصليبيين المسجد الأقصى مكانًا للقذارات

00:16:28

أما المسجد الأقصى نفسه فقد اقتطعوا محرابه وجعلوه مكانًا للقمامة والخنازير وهدموا في مبنى المسجد وجعلوا بعضها مساكن لهم وبنوا في أبنية أخرى مبانٍ تخدم القساوسة والرهبان، ومنعوا المسلمين من الصلاة فيه، هذا إذا كان قد بقي مسلمون، وباستيلاء الصليبيين على بيت المقدس أسسوا المملكة الصليبية اللاتينية الثالثة فيها وبدأ إخوانهم من أوروبا يمدونهم فاستولوا على نابلس وعكا وقنسرين مما ساعد على تثبيت أقدامهم ثم وصلوا إلى بيروت وبانياس وصيدا ولم يأت عام خمسمائة وأربعة للهجرة إلا وكان الصليبيون قد استولوا على معظم الساحل الشامي، وحاول بعض المسلمين الاستنجاد بالفاطميين الباطنيين الخونة ولكن أولئك كانوا يتمنون الشر لأهل السنة ولذلك لم ينجدوهم إطلاقًا، بل لم يقدموا أية مساعدة تذكر لأنهم قرت أعينهم باستيلاء الصليبيين على تلك الأماكن وإن كانوا ربما يتمنونها لأنفسهم لكن لم يحصل لهم ذلك.

فإن قال قائل: أين كان المسلمون بجموعهم الكثيرة؟ وأين روح الجهاد؟ المطلع على حال الأمة الإسلامية في ذلك الوقت لا يستغرب الضعف الناشئ فيهم في هذه المملكة الباطنية التي كانت في مصر وامتدت، وما حصل من القرامطة الذين كانت جهودهم موجهة لضرب أهل السنة المسلمين، والاستيلاء على مواقعهم العسكرية، ولذلك فإن هذه الأماكن التي قامت لهؤلاء الباطنيين كانت من أشد ما عانى منه المسلمون فكيف يستطيعون مقاومة الصليبيين وهم بهذا التسلُّط الباطني، وكانت الفُرقة بين القادة المسلمين والأمراء المسلمين المسيطرين على مناطق متفرقة من أعظم عوامل الهزيمة، ومر معنا أنه لما حاول الأمير المسلم الذي كان متحصنًا بأنطاكية استنجاد المسلمين، لم ينجده أحدٌ يُذكر، ولذلك فإن الهزيمة قد حلّت.

لكن هذا الحدث العظيم - سبحان الله - كعادة المسلمين في الأحداث التي تقع فيهم إذا صار فيهم مذبحة أو هزيمة كبيرة تثور روح الجهاد بعد ذلك، ولا شك أن المسلمين قد تأثروا باحتلال بيت المقدس تأثرًا عظيمًا وقيام الممالك الصليبية في بلاد الشام، وبعض أمراء المسلمين قد صانعهم وقدّم الجزية لهم وصاروا يسيطرون على الطرق، ولم يأمن الناس على التنقلات، وكانت بداية إثارة ثوران روح الجهاد في المسلمين على يد "كمشتكين التركماني" المسلم الذي كان أبوه أحد الأمراء الموالين للسلاجقة أو السلطان السلجوقي "ألب أرسلان" والذي كان يتخذ من بلاد الأناضول مقرًا له، فتوسعت دولته ووصل بها إلى البحر الأسود، وكان النصارى لما استقروا في بلاد الشام طامعين في أن يتوسعوا إلى بلاد الأناضول، وحاولوا عدة مرات الاستيلاء على حلب، ولكنهم لم ينجحوا، وقد اضطر أمراؤها في كثير من الأحيان إلى مسالمة الصليبيين، وحاولوا أيضًا أن يستولوا على ملطية، وقام "كمشتكين" رحمه الله ابن "دانشمند" بالاتصال بإمارة أنطاكية وعرض على أميرها بوهمند النورمندي استسلام المدينة؛ لأنه سيغزوها، وفعلًا قد تحقق لذلك النصراني أن القوة الإسلامية التي جاءت لا يمكن مقاومتها، وبالتالي فإنه وافق فعلًا على الاستسلام بشروط معينة، وحاول أن يستمدّ من مطلية التي كان يحكمها رجل أرمني نصراني، ولكن الأمير "كمشتكين" راقب الموقف وتتبع الأخبار، ولما حانت غفلة من بوهمند تمكن "كمشتكين" من مباغتته، وكان يحاول أن يأخذ مدداً قبل أن يستسلم، فقضى عليه في عام أربعمائة وثلاثة وتسعين، وكانت هذه أول ضربة موجعة للصليبيين؛ لأن بوهمند هذا كان قائدًا رئيسيًا فيهم وهو مؤسس أمارة أنطاكية، ولذلك تحرك بلدوين القائد النصراني الآخر حاكم إمارة الرها لمطاردة كمشتكين الذي حاصر ملطية بجنوده وكان أمير مطلية كما قلنا أرمنيًا نصرانيًا.

رغم أن حركة "كمشتكين" رحمه الله لم تتمكن من احتلال ملطية، لكنها كانت بداية المحاولات الجهادية الإسلامية الجادة الحقيقية ردة الفعل الآن أو الكرة على النصارى، وكانت هذه الحركة شجعت الأمراء المسلمين على الكر على النصارى، وهذا درس مهم جدًا؛ وهو أن رفع الراية - راية الغزو - مرة أخرى وإعادة تنظيم الجيوش وتحقيق بعض الانتصارات، هذا العمل هو الذي سيقود الأمة مرة أخرى إلى أن تلملم صفوفها وتغزو من جديد، فمن الذين تشجعوا وتهيأت الظروف لبعض المسلمين: أمير الموصل "مودود" حيث أخذ دعمًا معنويًا من قبل العباسيين والسلاجقة، ونظّم جيشًا وخاض مع الصليبيين معارك عديدة في نواحي الرها وأنطاكية، من خمسمائة واثنين للهجرة إلى خمسمائة وسبعة للهجرة حيث قُتل - رحمه الله -، ولكنه في هذه الفترة كان محل احترام المسلمين الشديد لما يقوم به من جهاد الصليبيين، بل حتى النصارى احترموه من بأسه وقوته، لكن كيف كان مقتله؟ وهذا درس آخر؛ قُتل على يد الباطنية الإسماعيلية وهو صائم في يوم الجمعة، وكتب أحد ملوك الفرنج إلى حاكم دمشق شامتًا في مقتل مودود؛ لأن مودودًا هذا قد أنكى في النصارى في الحقيقة وفي الصليبيين في هذه الخمس سنوات التي قام فيها بحركته بعد حركة كمشتكين، ونأخذ من هذا: أن قيام المسلمين ربما لا يكون دفعة واحدة وأنهم يقومون على مراحل ويبدأ واحد يرفع الراية ثم يقوم الثاني، وبعد ذلك تتفاعل الأمور وتتعاظم وتشتد وتتجمع وتكون القومة الكبرى، فإذن المسألة بدأت بداية ممكن نقول بسيطة بعد هزائم متوالية عظيمة شنيعة على المسلمين ومذابح، بدأت بداية ثم قام الثاني وراءه وهكذا، مودود هذا - رحمه الله - لما قتله أحد الباطنيين، وأمام النصارى الباطنيين يعتبرون محسوبين على المسلمين، ولذلك هذا ملك الإفرنج أرسل إلى حاكم دمشق المسلم يقول: إن أمة قتلت عميدها في يوم عيدها في بيت معبودها حقيق على الله أن يبيدها، لاحظ الخبث النصراني؛ لأن مودود هذا المسلم قُتل صائماً يوم الجمعة، قُتل في المسجد، فهذا النصراني ما وفرّ الفرصة لكي يشمت فأرسل الرسالة إلى حاكم دمشق المسلم، وكانوا ينوون على دمشق، يقول: إن أمة قتلت عميدها في يوم عيدها في بيت معبودها حقيق على الله أن يبيدها.

قام بعد ذلك أمير الموصل "سيف الدين آق سنقر" وتمكن من فك الحصار الذي ضربه الصليبيون على حلب سنة خمسمائة وثماني عشر، وبذلك تشكل محور بين حلب والموصل في مقاومة الصليبيين، وهذا الذي جاء بالزنكيين على يد عماد الدين - رحمه الله - لكي يستلم الموقف، فالموصل التي خرج منها القائد الأول وُجد فيها بعده "عماد الدين زنكي" - رحمه الله - أحد قادتها المشهورين أثناء حكم مودود فاشترك عماد الدين مع بقية أمراء الموصل المسلمين في الاستمرار في حركة الردة الكرة على الصليبيين، وكانت إمارة الموصل مهددة من قبل الصليبيين في الرها وتهديدها - يعني تهديد بغداد - عاصمة الخلافة بعدها، ولذلك لما تم تعيين عماد الدين أميرًا على الموصل وأصبح هو المسئول المباشر عن الجهاد ضد الصليبيين القادمين اتجهت همته إلى جهادهم، وتطلب الأمر أن يرتِّب الأوضاع فيها ويعد قواتها ويوحِّد صفوفها قبل المعركة وتفقد القلاع وعيّن لها الأمراء ورتّب الأجناد وعمل في بين عام خمسمائة واحد وعشرين وخمسمائة واثنين وعشرين للهجرة على مد النفوذ إلى المناطق المجاورة؛ وخصوصًا في الغرب، وكان لحسن تعامله - رحمه الله - عماد الدين زنكي وتدبيره للأمور قد وفّق في استقطاب كثير من القوى المجاورة وضمها إلى صفه، إذن، عملية توحيد المسلمين الدرس الكبير عملية توحيد المسلمين، بدأ في عملية التوحيد هي توحيد المسلمين، كانت من أعظم أسباب إعادة الكرة لهم.

دور عماد الدين زنكي في تكوين جبهة إسلامية

00:27:52

نجح عماد الدين - رحمه الله - في تكوين جبهة إسلامية قوية في شمال العراق وبلاد الشام تمتد من الموصل إلى حلب وتشمل معظم بلدان الجزيرة، في وقت ظل يعاني فيه من بعض زعماء الشام وقوادهم الذين تحكمت فيهم المصالح الشخصية؛ وخصوصًا أمراء دمشق الذين رفضوا الانضمام إلى الجبهة الإسلامية الجديدة، وهذا درس مهم جدًا وهو أن طغيان المصالح الشخصية على المصلحة العامة للمسلمين يؤدي إلى صعوبات بالغة جدًا، وهذه قضية حب الرئاسة وحب الإمارة، كل واحد يريد أن يكون الزعيم، كان قد لها أثر كبير في إقامة عوائق شديدة أمام المسلمين في هذا الوضع الخطر والحرج والصعب جدًا، كما أن بلاد نصيبين والجزيرة والمناطق المجاورة للصليبيين، كان فيها ذل وصغار على المسلمين أمام الصليبيين الأقوياء الذين فرضوا الجزية على المناطق الإسلامية المجاورة لهم، وهكذا يكون الانتقام، ولكن عماد الدين - رحمه الله - استمر وتفادى مصادمة الصليبيين مصادمات قوية في البداية؛ لأنه رأى أن القضية الآن ليست احتلال منطقة أو مدينة واحدة، المسألة تحتاج أكثر من ذلك، ولذلك لم يستنفذ قوته في الصدام المباشر وإنما عمد إلى تجميع ما أمكن من المسلمين، وعقد معاهدة مع أمير الرها جوسلين الثاني بحيث لا يتعرض أحدهما للآخر طيلة هذه المعاهدة، لما انتهت فترة المعاهدة بدأ زنكي - رحمه الله - الحركة الجهادية ولا تعتبر طبعًا الآن هذه خيانة؛ لأن المدة قد انتهت وكان قد تدبر أموره ورتب نفسه وكون القوة اللازمة، وكان أول ما اتجه إلى إمارة أنطاكية التي احتلها الصليبيون في الشمال الغربي وهي من أقدم الإمارات الصليبية ومفتاح الشام للقوى القادمة من أوروبا عن طريق البر، واستغل ظروف وقعت في أنطاكية، وهذه فائدة ودرس؛ أن الله يقدر أمورًا تكون هبة وعون للمسلمين من حيث لا يحتسب فقد تكون البلد محصنة والوضع فيها قوي لكن يقدر الله مثلًا أن يموت أميرها فيحدث خلاف وبلبلة ونتيجة لذلك يكون الوضع مهيأ للمسلمين لعملية اقتحام أو هجوم مثلًا، قتل ملكها النصراني وتولت زوجته مكانه وكانت امرأة ضعيفة وحصلت منافسة بين أطراف نصرانية في الموضوع حتى أن هذه المرأة استنجدت بعماد الدين؛ لكي يأتي ويعينها على الطرف الآخر، ولكن إمارة أنطاكية الصليبية التي كانت تسبب الأذى الكثير وتفرض الأتاوات على المسلمين في المناطق الزراعية القريبة من حلب وتشكل تهديدًا لهم أراد "عماد الدين" رحمه الله أن يستولي عليها بالقوة وحاصرها في سنة خمسمائة وأربعة وعشرين، هذا الحصن حصن أنطاكية، فلما سمع الصليبيون في النواحي الأخرى من بلاد الشام بحصاره تجمعوا وعادوا، فجمع المسلمين واستشارهم في شأن هذه الإمدادات، فأشار كثيرون عليه بأن يرجع؛ لأنه لا طاقة له، لكنه لما سمع قال: هذه خطة خسف تجرؤهم علينا وتطمعهم فيما لدينا، لكن الرأي أن نستعين بالله عليهم ونلقاهم، فإما لنا وإما علينا، وما دام لبس لأمته وخرج لا ينبغي أن يرجع، ولذلك سار فعلًا ومن معه بالجيوش إلى الفرنجة الذين جاءوا لإنقاذ هذا - حصن أنطاكية - ونشبت معركة عظيمة، فعلًا صدق المسلمون الله فنصرهم في هذه المعركة وقتلوا وأسروا عددًا كبيرًا من النصارى، ولما احتل الحصن خرّبه؛ لأنه لم يكن يستطيع البقاء فيه ولا يريد أن يعود النصارى لأخذه مرة أخرى، فاستراح أهل حلب ومن جاورهم من شره، فاتجه بعد ذلك إلى حصن آخر وحاصرهم فطلبوا الصلح وتنازلوا عن نصف الخراج، ثم رتّب نوابًا له في بلاد الشام، وكان من هؤلاء الأمير "أسوار" نائبه على حلب الذي تمكن في خمسمائة وسبعة وعشرين من صد هجومين كبيرين، وقتل جموعًا للصليبيين، وعُدّ هذا تقدمًا كبيرًا في جهاد المسلمين للصليبيين حيث أصبح الأمراء النواب يباشرون عمليات عسكرية ناجحة ويغيرون على الصليبيين ويهاجمونهم في حصونهم ومواقعهم، وجرت معركة بينهم وبين الفرنجة أخرى انتصر فيها المسلمون وقتل فيها قريبًا من ألف نصراني ما بين فارس وراجل، وهكذا قامت قوات زنكي - رحمه الله- بقيادة نائبه بهجوم على اللاذقية سنة خمسمائة وثلاثين للهجرة، فأربكوا الفرنج وأسروا سبعة آلاف شخص منهم وبلغت الغنائم للمسلمين مائة ألف رأس من الماشية، وفرح المسلمون بذلك ولم يقدر الفرنجة على شيء يفعلونه في مقابل هذه الحادثة.

تقدُّم عماد الدين إلى بيت القدس

00:33:45

ثم استمر المسلمون في الانتشار وتوحيد البلدان وحدث توجه جيوش صليبية بزعامة ملكهم فول كورمنت كن طرابلس من بيت المقدس لصد عماد الدين عن حصن أراد حصاره، ولكن عماد الدين - رحمه الله - تمكن من قطع الطريق بين الحصن وبين هؤلاء النصارى الذين جاءوا من بيت المقدس لنصرته، تمكن من قطع طرق الرسائل التي تعدهم بالمجيء فاستسلم الحصن قبل أن يصلوا إليه بيوم أو يومين وبذلك ندموا على التسليم ولكن بعد فوات الأوان، وهكذا استمر - رحمه الله تعالى - في انتصاراته، ولكن لم يخل ذلك من نكبات حصلت للمسلمين في هذا الوقت، فقد تمكن الروم يقودهم امبراطورهم من الاستيلاء على بزاعة؛ وهي من أقرب الحصون إلى حلب وقتلوا الآلاف من أهلها وجرحوا ما يزيد على خمسة آلاف وأجبروا بعض أهلها على التنصُّر، وحاول عماد الدين إنقاذهم ولكن كان أمر الله قد حصل، لكنه أمر بزيادة التحصينات الدفاعية في حلب وأمدّ أهلها بالفرسان الشجعان، ووصل الروم ومن حالفهم إلى الشام وفرضوا الحصار على حلب، فأخذ شجعان أهل حلب من الشباب والشيوخ الأحداث يقومون بهجمات مباغتة على الصليبيين، فيقتلون من ينفرد منهم ويغيرون عليهم ويفرون دون أن يصاب منهم أحد، وكانوا يتسللون داخل معسكراتهم في الليل؛ مما أوقع الرعب في قلوبهم، وكانت التحصينات قوية، فيئس هؤلاء النصارى من الاستيلاء على حلب ورفعوا الحصار عنها بعد ثلاثة أيام، إذن، كان هناك تكتيك عسكري إسلامي وهو عدم البقاء داخل البلد وفي الليل، وفي الأماكن المناسبة يخرج شجعان المسلمين فيدخلون في معسكرات الصليبيين ومن انفرد منهم وجدوه على جنب أو مبتعد عن الجيش مثلًا النصراني قاموا بالإغارة عليه وقتله، وهذا كان من أسباب فك الحصار، فيؤخذ إذن من الفوائد: أن المحاصرين إذا كان فيهم أهل بأس وقوة وشكيمة فاستطاعوا إجراء عمليات في الليل أو في غيره داخل معسكرات القوات المحاصرة فإن ذلك من الأسباب التي تفتُّ في عضُدهم، وحصل بعد ذلك عدة مناوشات بين عماد الدين والمسلمين والنصارى من جهة أخرى، وقامت قوات عماد الدين بعدة غارات ناجحة على أنطاكية، وتمكنوا من الإيقاع بالصليبيين في المواقع القريبة منها، وقُتل في أحد المرات ما يزيد على سبعمائة صليبي وعاد المسلمون محملون بالغنائم والأسلاب.

فتح مدينة الرها وأهمية ذلك بالنسبة للمسلمين

00:37:23

في جمادى عام خمسمائة وتسعة وثلاثين للهجرة كان فتح الرها الذي عُدّ بحق من أعظم الانتصارات إن لم يكن أعظمها في ذلك الوقت، لأن هذه من أخطر المراكز المعادية للمسلمين وكانت غارات فرسان الصليبيين تنطلق منها وتوقع بالمسلمين، ولذلك فإن رفع الأذى عن المسلمين كان من ضمن الأهداف، هؤلاء الممتحنون أو هؤلاء الذين يغير عليهم الصليبيون، لابد من عمل شيء لإنقاذهم، وهذه المراكز الأماكن القوية التي كان فيها تجمعات لجيوش الصليبيين التي تأتي باستمرار، كان لابد من القضاء عليها، فأدرك عماد الدين - رحمه الله - أنه لابد من استعداد قوي ولذلك ركز استخباراته على متابعة أحوالها ورفع التقارير عنها باستمرار، عن مدينة الرها، ليرى الوقت المناسب للهجوم عليها، فوصل أحد تقاريره في جمادى الآخرة سنة خمسمائة وتسعة وثلاثين للهجرة تفيد بأن جوسلين الثاني حاكم الرها قد غادرها إلى بعض المواقع الصليبية، فأعلن عماد الدين بالتعبئة العامة وانتهز فرصة خروج قائدهم وزحف بأجناد المسلمين إلى الرها واستطاع بمن معه محاصرتها حصارًا شديدًا ومنعت الإمدادات تمامًا عنها وأخذت منجنيقات المسلمين ترميها من كل ناحية فدكت أسوارها وحصونها وأوقعت آلات المسلمين الضخمة الرعب في قلوب الصليبيين، إذن الدرس: كان هناك للمسلمين أسلحة، كانوا يستخدمون المنجنيقات، وكانوا يستخدمون المقذوفات النارية، وكان بعض شبان المسلمين تفتقت عقولهم عن تصميم أبراج استعملها صلاح الدين فيما بعد، أبراج متنقلة تنتقل وفيها مبادئ القذف، تقوم على قوانين المقذوفات، وهذا من مبادئ علوم العلوم في الفيزياء، قضية المقذوفات في قوانين الحركة، فاستعملها المسلمون، استعملوا قوانين المقذوفات وبنوا الأبراج المتنقلة التي يمكن دفعها بعجلات أو بغيرها إلى أماكن الحصار، وكان هذا الأخذ بأسباب القوة من الأمور التي مكنتهم من الانتصارات التي حصلت، فلما صار هناك جمع أخبار، ثم صار هناك هجوم وحصار وقطع جيد للإمدادات مع استخدام هذه الأبراج التي ترمي دون توقف، تمكن المسلمون بعد ذلك مع قبائل التركمان المتحمسين للجهاد والتركمان غير الأرمن، الأرمن نصارى والتركمان مسلمون، بدأ النقابون عملهم في أبراج في أسوار الرها، بدأ النقابون عملهم، هذه فرقة إسلامية خاصة، فرقة النقابين فرقة عسكرية وظيفتها فتح الثغرات داخل الأسوار ينظرون إلى الأماكن الضعيفة فعندهم وسائل لفتح ثغرات فيها في التحصينات، في الوقت نفسه الذي كان النقابون المسلمون يعملون في أسوار الرها كان عماد الدين من الجهة الأخرى يفاوض النصارى داخلها على قضية الاستسلام ويكاتبهم طمعًا فيها  الحرب خدعة [رواه البخاري: 3611، ومسلم: 1066]، ولكن أهلها رفضوا الاستسلام واشتد التضييق على المدينة فكانت جيوش المسلمين في الأطراف تمنع أي تغذية صليبية قادمة، واستطاع المسلمون التصدي للنجدات التي قادها ملك الرها وهو خارجها لما علم بالحصار ورجع بمدد، ولكن المسلمون منعوه من الوصول إليها وبعد حصار دام ثمانية وعشرين يومًا تمكن المسلمون من تحطيم الأسوار والنقب تحتها وإشعال النار، وكان عماد الدين - رحمه الله - يشرف بنفسه على أعمال النقابين ويشاركهم العمل.

الدرس إذن أن مشاركة القائد لجنوده وعدم بقائه بعيدًا عن ميدان المعركة من أعظم الأسباب التي تذكي في نفوسهم القوة والاستمرارية في العمل، لأن مشاركة القائد عن قرب فيها من جوانب التأثير في معنويات الجنود أمور كثيرة جدًا، خمسمائة وتسعة وثلاثون للهجرة تمكن إذًا في وضح النهار تمكن المسلمون من اقتحام الرها وقتلت جموع كبيرة من الصليبيين الذين حاولوا الاستماتة كما استشهدت جموع من المسلمين وصمدت قلعتها يومين آخرين لكنهم اضطروا بعد ذلك للاستسلام، فأمر عماد الدين بالكف عن القتل والإحسان إلى الأسرى ووعد أهلها بالعدل وشرع المسلمون في بناء التحصينات من جديد، عملية هدم وعملية بناء كما تتطلبه المصلحة الشرعية في الحركة الجهادية.

حكمة عماد الدين زنكي رحمه الله

00:43:05

عمل عماد الدين في قضية مهمة جدًا؛ وهي إثارة النعرات والعداء بين النصارى الشرقيين والنصارى الفرنجة للتفريق بينهم، وهذه من الاستراتيجيات المهم عملها في أثناء التعامل مع العدو؛ لأن الآن حتى لو أخذت اليهود أو النصارى، يوجد منهم بروتستانت وكاثوليك وأرثوذكس وغيرهم، ومنهم أيضًا اليهود شرقيون وغربيون ومنهم حاسادون ومنهم فرق، وبينهم من البغضاء أشياء كبيرة، الله قال عن اليهود: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر: 14]، فلذلك من الاستراتيجيات المهمة في المعركة، إذن إثارة النعرات بين فرق الكفار فرق النصارى أو فرق اليهود أو غيرهم، بينما يتحد المسلمون على منهج صحيح ودين قويم ولا يمكن التفريق بينهم بعد ذلك، كان فتح الرها بداية مرحلة جديدة في الجهاد ضد الصليبيين؛ لأنه أمام الناس تمكن المسلمون من إسقاط إمارة كبرى ورئيسية فتحولت موازين القوى على الأقل معنويًا لصالح المسلمين وأخذوا يهاجمون المناطق النصرانية الكبرى بشجاعة أكبر حتى صارت هيبتهم عند الصليبيين أكبر وبالتالي هذا سيعطي في المستقبل حافزًا أكبر للانتصار، ولم يتوقف عماد الدين عند فتح الرها وتابع الهجوم، إذن، المبادرة الاستمرار في العمل وأخذ الزمام وعدم التوقف، من العوامل المهمة في تحقيق الانتصار، وفُتح حصن البيرا في أوائل سنة خمسمائة وتسعة وثلاثين للهجرة، لكن عماد الدين - رحمه الله - لم يعش كثيرًا بعد فتح الرها وكان آخر حصن فتحه قلعة جعبر، لكنه أثناء الحصار في الحقيقة تعرض لمحاولة اغتيال ذهب ضحيتها - رحمه الله تعالى - فيما نحسب شهيدًا في عام خمسمائة وواحد وأربعين للهجرة.

جمع الكلمة وتوحيد الصف ضد الصليبيين

00:45:25

بعد أن عمل هذه الجهود العظيمة نسأل الله أن يجزيه عن الإسلام وأهله خير الجزاء، ولكن الذرية الطيبة والبلد الطيب ينبت بإذن ربه، يخرج نباته بإذن ربه، فكان من ذرية عماد الدين نور الدين محمود.

نور الدين محمود ابن عماد الدين زنكي أحد أبناء أبيه الذين اعتمد عليهم في حياته اعتمادًا كبيرًا بعد الله، وكان مرافقًا له في آخر عملية جهادية وهي حصار قلعة جعبر، حين اغتيل أبوه في هذه السنة، فأخذ خاتمه وبعد تجهيز أبيه ودفنه توجه إلى حلب وكانت تابعة لأبيه، وقام أخوه الأكبر سيف الدين زنكي بالذهاب إلى الموصل لإعادة ترتيب الأوضاع؛ لأن بعد وفاة الحاكم المسلم المهم الآن لملمة الإرث حتى لا يتفرق، وهذه من القضايا الكبيرة التي تحصل ولأن انفراط التجمع مصيبة، وهنا فيه مشكلة حصلت أن عماد الدين لما مات كان له ولدان نور الدين محمود وسيف الدين وحصل شيء الآن من الذي سيتولى؟ ونور الدين أشجع، لكن سيف الدين أكبر، هناك أيضًا صارت القضية تحتاج إلى مداراة، وأدرك الأخوان أن هذا الخطر الصليبي العظيم لا يمكن التفكك أمامه، فتواضع نور الدين لأخيه الأكبر سيف الدين والتقيا في الشام أثناء زيارة وقال له: إنما غرضي أن تعلم الملوك الفرنج والفرنج اتفاقنا، فمن يريد السوء بنا يكف عنا. [مفرج الكروب في أخبار بني أيوب: 2/57]. وكان - رحمه الله - يتمثل قول الله تعالى: ولا وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ  [الأنفال : 46]

وقدر الله أيضًا كما قلنا سابقًا يساعد المسلمين في أشياء كثيرة، فالآن هذا الوضع الحرج، قال: الآن نحن نريد أن نتفق على الأقل في الظاهر أمام النصارى، لكن قدر الله بعدها بثلاث سنوات بعد وفاة عماد الدين في عام خمسمائة وأربع وأربعين أن يموت الابن الأكبر وهو سيف الدين، لما مات الابن الأكبر ما عاد هناك أي نوع لمنافسة والشيطان يدخل في الوسط، فاستقرت الأمور لنور الدين محمود - رحمه الله - صاحب الكلمة العليا، وكان قد تربى منذ صغره على القرآن الكريم والفروسية أمران مهمان، كان المسلمون في وقت الجهاد ومنذ القديم ينشئون الأولاد على القرآن والفروسية، وكان أبوه قد أوكله إلى أحد العلماء ليتولى تربيته فلما شب كان مرافقًا لأبيه في الجهاد مما أكسبه خبرة واسعة، وكان رجلًا صالحًا مجاهدًا، ومنذ أن تولى على حلب وضع قضية الإصلاح الداخلي نصب عينيه، وجهاد أعداء الإسلام من الصليبيين وأعوانهم فاشتغل على الخطين: إصلاح داخلي، وجهاد خارجي، وكان من أوائل أعماله أنه صد هجومًا للصليبيين على الرها عام خمسمائة وواحد وأربعين حين حاولوا إعادتها، وبعد أن علموا بوفاة عماد الدين ظنوا أنه يمكن الاقتحام، ولكن نور الدين كان لهم بالمرصاد فهربوا وأدّب الأرمن الذين مالئوا الصليبيين، إذن، جيوب النفاق هذه الموالين للأعداء، لابد من تأديبهم وعدم السكوت عليهم؛ لأن هؤلاء طابور خامس هؤلاء الأدلاء والمرشدين والخونة والذين ينشرون الإشاعات، هؤلاء الطابور الخامس يفعلون أفعال شنيعة جدًا، وقطع بذلك السبيل على الصليبيين في إعادة احتلال الرها، أكمل طريق أبيه في تقوية المراكز الإسلامية وركز جهوده على الغرب من حلب وأخذ يهاجم المواقع العسكرية التابعة لإمارة أنطاكية وفتح بعض القلاع.

خطر الباطنية على وحدة صف المسلمين

00:50:17

وكان لاستعادة الرها أصلًا إلى يد المسلمين دور رئيسي في تحريك حملة صليبية أخرى من أوروبا؛ حيث أن ذلك السقوط قد أشعلهم لكي يمدوا إخوانهم بأعداد جديدة، هناك التفت نور الدين إلى قضية مهمة جدًا جدًا؛ لأنه يعلم أن الاستيلاء على بيت المقدس يحتاج إلى قوات كبيرة ووجد أن القوات الشامية لا تكفي، ودرس الوضع ورأى أنه لابد من عمل شيء ما في الجبهة المصرية، وكان بمصر الباطنيون الفاطميون الكفرة يحكمونها بعدما أذلوا أهل السنة فيها، وعملوا القبور والأضرحة ونسخوا شريعة أهل السنة وجعلوا بدلًا منها شريعتهم المحرفة ودينهم المكذوب، وطبعًا كان ذل عظيم على أهل السنة يتمنون متى الخلاص منه، في هذا الوقت مرت الدولة الفاطمية في مصر بمرحلة ضعف وصار وزراؤها في صراع على الملك فيها وسفكت دماء كثيرة وكان كل واحد منهم مستعداً أن يتعاون مع الصليبيين ليحصل هو على المنصب، واللي كان يسمى خليفة في مصر الفاطمي العاضد لدين الله كان كما يقولون طرطورًا في ذلك الحال، يتفرج على الأوضاع ويرضى بتوزير من يغلب، فمن يأتيه برأس منافسه يقول له: عينّتك وزيرًا هذا عمله، فتمكن واحد من هؤلاء من الاستيلاء على الوزارة وقتل شاور شخصًا آخر، قتل بعض أبناء شاور منافسه فحضر شاور إلى دمشق يستنجد بنور الدين ضد منافسه الآخر، ويقول: أرسل جندًا معي، تردد نور الدين في البداية؛ لأن عنده جبهة مع الصليبيين، والصليبيون سيتدخلون في مصر إذا تدخل هو ولا شك، وهل يناسب أن يفتح جبهة أخرى في مصر ويرسل جيشًا إلى مصر وسيذهب إليه الصليبيون أيضًا، لكن كان يتمنى ولا شك أن مصر تنضم معه، وبعد تردد حزم أمره استخار الله وأرسل "أسد الدين شيركوه" وهو أحد أقوى قواده وأشهرهم مع ألفي مقاتل في خمسمائة وتسعة وخمسين هجرية إلى مصر، وفي ذات الوقت قام نور الدين بمناورات عسكرية في بلاد الشام حتى يشغل الصليبيين عن تتبّع "أسد الدين شيركوه"، لأنه لابد أن يمر بطريقهم، لابد أن يمر قريبًا منهم حتى يذهب إلى مصر، وفعلًا نتيجة هذه الخطة تمكن "أسد الدين شيركوه" من النفاذ إلى مصر بمن معه من الجيش وقاتل ضرغام منافس شاور وانتهت المعركة بانتصار "شيركوه" والخليفة الفاطمي عين الوزير الآخر الذي هو شاور، ولكن هذا شاور باطني أيضًا، فلما استتب له الأمر نقض العهد مع "نور الدين" وقال لشيركوه: ارحل عن مصر وإذا لم تذهب سآتي بالفرنجة بالصليبيين، حصلت أحداث رجع "شيركوه" ثم صارت قضية ثانية ورجع استنجد مرة أخرى وهكذا حتى في النهاية في المحاولة الثالثة سافر شيركوه ومعه صلاح الدين الأيوبي - واحد من جنوده - إلى مصر واستتبّ الأمر هناك لشيركوه، قتل شاور وصار هو المسيطر في مصر دون منازع، في عام: خمسمائة وأربعة وستين للهجرة قد قبض "شيركوه" على الوزير الفاطمي شاور وقتلوه، فاضطر هذا الخليفة الفاطمي الاسمي الآن أن يعين وزيرًا لمصر "أسد الدين شيركوه" قال: أنت الوزير، فصارت هنا الآن حالة غريبة الخليفة فاطمي باطني لكن ليس له من الأمر شيء، وصارت الوزارة التي هي السلطة الفعلية بيد رجل من أهل السنة لأول مرة في مصر في هذه الفترة الحالكة التي مرت عليها تحت إمرة الفاطميين، والله له مقادير فإذا أراد الله أن يبرز قائدًا هيأ الأسباب،

بعد فترة قصيرة شهرين وخمسة أيام توفي "أسد الدين شيركوه"، هذا الرجل قائد مسلم كان يأكل خوانيق اللحوم الغليظة، له فيها ولع، فمرة أكل هذه في وليمة فوقفت في حلقه فاختنق فمات، قدّر الله أن يموت في وجبة طعام، من أبرز شخص بعده، وذهاب صف يبرز الصف الذي يليه، هذه قوانين ولذلك يهتمون في إدارة القيادات بإعداد الصف الثاني والثالث وهكذا، حتى يكون معروف من الذي سيتولى بعد هذا، وهذه القضية مهمة لحسم كثير من البلبلات فإعداد الصف الثاني من القيادة؛ هذه عملية يجب أن تكون في المسلمين ولها فوائد كثيرة، وكان المجتمع الإسلامي من علامات الصحة الموجودة فيه أن الأوضاع تسير بطريقة أن صاحب الكفاءة يبرز ويتاح المجال له، فعُين "صلاح الدين" بعده وزيرًا في مصر، ولعل صلاح الدين بهذه الحال تذكر يوسف ، هنا بدأت مرحلة جديدة، ودانت مصر أيضًا لنور الدين عبر قائده الموالي له صلاح الدين، وكانت مصر طول الفترة الماضية تقف موقف المتفرج من الصليبيين، بل إن وزراءها الفاطميين كما قلنا كانوا يستنجدون بالصليبيين في عدد من المواضع، الآن أنقذ الله أهل السنة في مصر بصلاح الدين وبدأ الآن يستولي على الأمور، وحاول الصليبيون إرسال حملات إلى مصر بعد هذا التغيير؛ لأنه ليس في صالحهم أبدًا؛ لأنه يعتبر الآن نور الدين امتد سلطانه إلى مصر، ولكن كل الحملات التي أرسلوها باءت بالفشل وبدأ نجم صلاح الدين يصعد كقائد عسكري مظفر هزم الصليبيين واستولى على الوزارة في مصر، وحاول الصليبيون في عام خمسمائة وخمسة وستين الإغارة على مصر من البحر وتمكنوا من الوصول إلى دمياط وحاصروها، فأمدّ نور الدين صلاح الدين بمدد، وبدأ هجوم معاكس للمسلمين على الصليبيين، وكان نور الدين في ذلك الوقت يعيش قلقاً شديداً على وضع مصر من الصليبيين، وحصل في مجلس ما يدل على أن نور الدين كان يتحمل المسئولية، فذكر أحد العلماء أنه كان يقرأ بحضرته حديثًا عن التبسُّم، فطلب بعض الحاضرين من نور الدين أن يتبسم، فرد عليهم بعبارته المشهورة: إني لأستحي من الله تعالى أن يراني مبتسمًا والمسلمون محاصرون بالفرنج، المسلمون في مصر محاصرون بالفرنج، إني لأستحي من الله تعالى أن يراني مبتسمًا والمسلمون محاصرون بالفرنج، أرسل الإمدادات إلى أن استطاع المسلمون في مصر فك الحصار ورجع النصارى خائبين وانسحبوا بعد خمسين يومًا، وبدأ صلاح الدين في ترتيب أمور مصر أو ترتيب البيت الداخلي في مصر، وإذا أراد الله شيئًا هيأ أسبابه، فتوفي نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله في شوال سنة خمسمائة وتسعة وستين للهجرة بعد أن روى غرسة الجهاد التي غرسها والده بدماء الشهداء وعرق المجاهدين وجراحهم، فصار من أبرز شخصية الآن؟ صلاح الدين، لكن أين موقعه؟ في مصر، فصار الآن الموقف حرجاً، وقد كان صلاح الدين شابًا، كان قد أبلى بلاء حسنًا أثناء حصار الفرنج للإسكندرية في عام خمسمائة واثنين وستين لما كان مرافقًا لعمه أسد الدين شيركوه،

ولذلك قلنا: إن نجمه قد بزغ أثناء وجود عمه معه، ولما استتب له الأمر بمصر أراد أن يعمل خطوة وهي إلغاء الخلافة الفاطمية في مصر، هذا المذهب الخبيث الباطني، طبعًا بدأ أتباع المذهب يقلون، بدأت هيمنة المذهب تقل، بدأ قضاة أهل السنة في مصر يرفعون رءوسهم، المذهب الفاطمي صار ينحى من الساحة، الآن بقي قضية الإنهاء الرسمي للعملية وإعلان عودة الحكم في مصر إلى أهل السنة مرة أخرى بعد تلك المحنة الشديدة التي قتل فيها ظلمًا أعداد هائلة من الناس في مصر وحكموا من قبل هؤلاء الباطنيين، فأراد صلاح الدين أن يدعو للخليفة العباسي على المنبر بدلًا من الخليفة الفاطمي، الخليفة العباسي الإمام المستضيء بنور الله كان يلقب بذلك الوقت، بدأت العملية بخطبة، صلاح الدين كان لا يعرف ماذا سينتج عن الموضوع فكان يريد أن يعرف ما هي ردة فعل الشارع إذا أقدم على هذه الخطوة، فبدأ واحد من الخطباء في أحد المساجد وفعلها يوم الجمعة في المحرم سنة خمسمائة وسبعة وستين للهجرة صعد الخطيب ودعا للخليفة العباسي السني بدلًا من ذاك فلم ينكر عليه أحد، فأمر صلاح الدين بقية المساجد بأن يفعلوا ذلك وقطعوا الخطبة للفاطمي وأعادوها مرة أخرى إلى رمز المسلمين الخليفة العباسي، هذا الفاطمي آخر واحد كان مريضًا في ذلك الوقت اشتد مرضه فلم يعلمه أهله بالتغيير الذي حصل، وقالوا: إن سلم فهو يعلم، فلا ينبغي أن ننغص عليه هذه الأيام التي بقيت في أجله، ثم تُوفي وما درى أنه خلع أصلًا ولم تعد له سيرة، وبذلك عمّت الفرحة جميع أنحاء العالم الإسلامي بانتهاء هذه الدولة الفاطمية الباطنية التي فرضت نفسها على المسلمين هذا الوقت الطويل، والعملية هذه سببت أن بعض الفاطميين أرادوا العودة لأخذ مجدهم المفقود، لكن خرج إليهم صلاح الدين واكتشف مؤامرتهم وقبض على رسالة وجهوها إلى الصليبيين، وكان هذا دليل خيانة؛ وبذلك قضى على زعماء هذه المؤامرة، وحتى الجيوب التي بقيت لهم تم القضاء عليها، فلما عادت مصر إلى الصف الإسلامي وسار صلاح الدين فيهم سيرة حسنة وتملك قلوب الناس بعطاياه وعدله في مصر، وأعاد أول مدرسة سنية تدرِّس فقه الشافعية عام خمسمائة وست وستين للهجرة بعد أن كان التدريس مقصوراً على مذهب هؤلاء الباطنية، وقرّب العلماء وجالسهم، وكان يتردد عليه في المجلس ثلاث أيام في الأسبوع مجالس حديث، يأتي بأولاده ليسمعوا معه، وكان بعض المسلمين بدأوا يحرضوا صلاح الدين، الآن الفرصة مهيأة على قضية استرداد بيت المقدس، وجاءه عماد الدين الكاتب أنشده قصيده في ذلك المجلس يقول:

فسِر وافتح القدس واسفك به دمًا متى تجرها تنظف

إذا أجريت هذه الدماء ستنظف بيت المقدس

وأهد إلى السبتار البتار وهدّ السيوف على الأسقفِ
وخلّص من الكفر تلك البلاد يخلّصك ربك في الموقفِ

فصار إذن الآن عند المسلمين قوة كافية لأجل فتح بيت المقدس، وبدأ صلاح الدين يتجه إلى تلك الوجهة، فكان من أعماله العسكرية الهجوم على قاعدة بحرية في جزيرة على بحر أيلة خليج العقبة، أقامها الصليبيون يعتدون فيها على سفن المسلمين في البحر الأحمر ويهددون سفن الحجاج ويقومون بإغراقها، فعمل صلاح الدين سفناً مفككة في القاهرة ونقلها إلى ناحية البحر على الجمال ورُكبت في البحر، وهجم على القلعة في تلك الجزيرة، وتمكن من أخذها وقتل من فيها من الصليبيين سنة خمسمائة وستة وستين للهجرة، كان ذلك من إنجازاته العظيمة.

ولما توحدت جبهتا مصر والشام أعدّ العُدّة - كما قلنا - للذهاب إلى بيت المقدس، وكان من الأشياء التي اعتنى فيها قمع الأرمن النصارى الذين كانوا يخونون المسلمين، وهذه خطوة مهمة جدًا كان لابد أن تحدث.

من فرق الباطنية فرقة الحشاشين، لما رأوا انهيار دولتهم على يد صلاح الدين عملوا عدة محاولات لاغتياله، وكادوا أن ينجحوا في إحداها، حيث اندس خمسة منهم في جنود صلاح الدين فهجموا عليه واحدًا بعد واحد، ولكن نجاه الله  منهم فقتل الأول والثاني والثالث والرابع والخامس وأصابوه، لكن كانت في بعض الملابس الواقية التي منعت التأثير عنه بإذن الله عز وجل، اتجه صلاح الدين - رحمه الله - إلى تقوية مسألة التسليح والتشجيع على صناعة الأسلحة، فصنعت في هذه الفترة أعداد كبيرة من المنجنيقات والدبابات، والدبابة سلاح كان يستخدم ليس مثل الدبابة الآن بطبيعة الحال ولكنه اسم إسلامي، سلاح إسلامي معروف، ومختلف آلات الحصار، فكانت تتركز على قضية مقذوفات ومقتحمات، آلات اقتحام، آلات فتح ثغرات في الأسوار، وآلات القذف النفاطات؛ أجهزة تقذف أو آلات تقذف نفطًا مشتعلًا، كرات من النفط المشتعل تشعل ثم تُجعل في برج القاذفة وتُقذف  ألا إن القوة الرمي [رواه مسلم: 1917]، فلما تم له ذلك مع قيامه بالجهاد البحري، ووصل الأسطول الإسلامي في عهد صلاح الدين من القوة أنه كان يجوب البحر لقطع الطريق على إمدادات الصليبيين من أوروبا، وهذه أول مرة يتمكن فيها المسلمون من درء الشر من بعيد؛ لأن الحملات الصليبية كانت تأتي محملة من أوروبا بعضها، وبعضها عبر البر من طريق القسطنطينية، فكانت أساطيل صلاح الدين صنعاً، اهتم بالسفن الحربية ليقطع الطريق عن إمداد النصارى فيما بقي لهم في بيت المقدس وغيرها من بلاد الشام وتمكن من القضاء على عدد من سفنهم حتى أنه مرة اعترضوا سفينة للنصارى وأسروا فيها أكثر من ثلاثمائة مقاتل بكامل أسلحتهم وعتادهم، وعندما اكتملت الاستعدادات كان النصارى قد أعدوا عدتهم للالتقاء بصلاح الدين بعد أن تقوى بهذه القوات وتزعمهم ملك بيت المقدس ومعه أرناط صاحب الكرك الذي كان ينوي الإغارة على المدينة النبوية وتوجه إليها من نواحي تيماء، فبادر صلاح الدين بتوجيه قواته للتصدي له ففشلت خطة الإغارة على المدينة النبوية، لكن هذا الرجل مع أن صلاح الدين عقد معه عهدًا أن لا يتعرض لقوافل المسلمين، إلا أنه مرة من المرات أغار على قافلة للمسلمين وقتلهم وقال: هاتوا محمداً يخلصكم أرناط، فلما بلغت هذه العبارة صلاح الدين، والخيانة التي فعلها أرناط نذر أن يقتله بيده، وتمهيدًا لفتح بيت المقدس تم حصار الكرك واقتحامها، وكان فيه موقف لطيف حصل أثناء اقتحام الكرك، أثناء حصار الكرك وكان فيها نصارى كان فيه زواج لأحد أمراء النصارى أثناء الحصار فأرسلت أم العريس إلى صلاح الدين أطباقاً من مائدتها مرفقة مع رسالة تقول: لو علمت أنك ستقدم لأعددت شيئًا خاصًا يليق بضيف نبيل، فهذه الرسالة جعلت صلاح الدين مبتسمًا وسأل عن المكان الذي يسكنه الزوجان في القلعة التي يحاصرها، فأصدر أوامره بعدم قصف هذا المكان بالذات، هذا المكان بالذات لا يُقصف، واستمرت آلات الحصار تقصف الصخور الكبيرة على الأجزاء الأخرى حتى اقتُحمت البلد، لكن سجّل صلاح الدين موقفًا عندهم، فلما حصل الغدر من أرناط وتجمّع النصارى لحرب المسلمين، كان لابد من لقاء بين صلاح الدين وبينهم، الأمور اتجهت إلى مواجهة لابد منها وهذا شيء يحدث كثيرًا في الحروب أو في المواجهات؛

أن يأتي وقت لابد من نشوب حرب، لابد تحصل مواجهة، فمشى المسلمون بقيادة صلاح الدين، ومشى النصارى من بيت المقدس ولا ينتظرون لصلاح الدين ليأتي إلى بيت المقدس لحصارها، ولذلك جمعوا الجيوش بقيادة قاي ملك بيت المقدس وأسقف عكا وحملوا معهم صليب الصلبوت الذي يعتقدون أنه بقايا الخشبة التي صُلب عليها المسيح والله قال: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ  [النساء: 157]، عيسى رفعه الله، تجمّع الصليبيون في صفوريا ومعهم أعظم رمز، أعظم رمز لديهم صليب الصلبوت وفرح المسلمون بتحركهم؛ لأنهم سيلاقون عدوهم، لما غير الصليبيون صفوريا إلى حطين، لما تركوا صفوريا استبشر المسلمون خيرًا، وأعد المسلمون عدتهم وجاءوا بالأحمال وسبقوا إلى سهل حطين وقاموا بردم المياه الموجودة في المناطق التي يتوقعون إن ينزل فيها الأعداء، وهذا التخطيط الجيد للمعركة، المسلمون سبقوا إلى ميدان المعركة، ردموا مصادر المياه في المكان الذي متوقع ينزل فيه النصارى، إذن، هناك دراسات عسكرية عند المسلمين، أين يتوقع أن يأتي جيش الكفار، فردموا تلك الأماكن وتراجعوا، ردموا أماكن المياه ورجعوا إلى الأماكن التي فيها مياه، فما أن ظهرت طلائع جيش الصليبيين في حطين وجاءوا إلى ذلك المكان حتى أسرع المسلمون للاصطدام بهم، فعمدوا للتحصن وباتوا ليلتهم، لما أصبحوا في الصباح اكتشفوا أنهم لا مياه لديهم وأنهم محاصرون بالمسلمين، وكانت الموقعة في يوم الجمعة أربعة وعشرين ربيع الآخر سنة خمسمائة وثلاثة وتسعين للهجرة، فنشب القتال طول النهار وتوقف في المساء، فلما أصبح الفريقان في يوم السبت خمسة وعشرين من الشهر كان الماء قد قل لدى الصليبيين وأصابهم العطش إضافة إلى الجراح فحاولوا بحملات شجاعة أن يصلوا إلى الماء، لكن المسلمين ردوهم وكانوا لهم بالمرصاد، وأسروا منهم وقتلوا، فتجمّع بقيتهم في جبل حطين ليحتموا به وهرب بعض قوادهم وأنزل الله الرعب في قلوبهم، فأشعل المسلمون النار في الحشائش المحيطة بمعسكر الصليبيين وكانت أرضًا مليئة بالأعشاب فارتفعت عليهم ألسنة النيران من كل جانب، واجتمع عليهم حر النيران وحر الهاجرة والعطش وقلة المياه، فحملوا على المسلمين مستميتين ولكن الله ثبت المسلمين فقتلوا جموعًا كبيرة منهم، حاولوا تجميع أنفسهم ولكن لم تكن هناك فائدة، وكان صلاح الدين قد أمر خطباء العالم الإسلامي بالدعاء على المنابر، فدعاء المسلمين مع حسن التخطيط والاستعداد والوحدة التي حصلت للمسلمين في مصر والشام والحجاز بطبيعة الحال والأخذ بالأسباب استطاع المسلمون أن يهزموا النصارى في تلك الموقعة المشهودة، وأسروا ملكهم واستولوا على صليب الصلبوت، ففتّ ذلك في عضُدهم ولم يبق لهم مقاومة وكان الجندي الواحد من المسلمين يسير وقد قرن معه ما يقارب ثلاثين أسيرًا دفعة واحدة، وكان ضمن الأسرى أرناط صاحب الكرك وخائن العهود وملك بيت المقدس قَيلو زنجان وأخوه،

ولم ينج من النصارى إلا آحاد من الناس، من تلك الألوف الذين نجوا آحاد، وكانت أصوات المسلمين عالية بالحمد والتكبير والصلاة شكرًا لله على نصره، وأُحضرت الأسارى بين يدي صلاح الدين فخاف ملك بيت المقدس على نفسه، فطلب له صلاح الدين  مثلجًا ممزوجًا بماء الورد وأسقاه إياه، وكان قد أخذ منه العطش فشرب ثم دفعه إلى أرناط دون إذن من صلاح الدين  فقال له منتهرًا: "لم آذن لك في سقيه وليس هذا أمانًا منا له"، ففهم أنه هو صار مؤمّن على نفسه، لكن أرناط لا، فقام بعد ذلك صلاح الدين يؤنّب أرناط على فعله من الغدر وما فعل في قوافل حجاج المسلمين وعلى تلك العبارة التي قالها - قولوا لمحمدكم يخلّصكم -، ثم قام إليه وقال: ها أنذا أنتصر لمحمد ﷺ، ثم عرض عليه الإسلام فأبى ثم ضربه بالسيف فقتله، وعند ذلك أمر بقتل جميع الاسبتارية والداوية وهي الفرق التي كانت مدربة جاءت من أوروبا خصيصًا لحرب المسلمين قتلوا جميعًا، يقول آنتوني برتج أو برك نصراني: كانت معركة حطين نكبة لا مثيل لها بالنسبة للمسيحيين في الممالك الصليبية فقد هزم جيشهم ولم يترك من الرجال المقاتلين سوى هذه القلة القليلة، ووصل الأمر أن العبيد الذين أُخذوا من الصليبيين يقول: أصبحوا فيضًا في أسواق النخاسة في العالم الإسلامي، وكانت قيمتهم التجارية تهبط إلى مستوى منخفض، حتى أن رجلًا قايض رجلًا منهم بزوج من الأحذية، مسلم اشترى عبداً نصرانياً بزوج من الأحذية، عند ذلك بعد هذه المعركة أصبح الطريق ممهدًا لفتح بيت المقدس، فتوجه إليه صلاح الدين مباشرة، وتم حصار بيت المقدس، وكان الصليبيون قد أقاموا فيه تحصينات عظيمة جدًا، وبعد فتح عسقلان توجه صلاح الدين إلى بيت المقدس وصار الحصار، وبقي صلاح الدين وجنده خمسة أيام يدورون بالمدينة من الخارج يتحسسونها ويتسقطون الأخبار ويتفحصون المواقع العسكرية لاختيار الموقع المناسب للهجوم، ووقع اختيار المختصين العسكريين من المسلمين على الجهة الشمالية من المدينة، فلم يصبح الناس يوم الجمعة عشرين رجب إلا وقد نُصبت المنجنيقات على ذلك الجانب، وتقاتل الفريقان قتالًا شديدًا، وكان شجعان الصليبيين يخرجون كل يوم إلى ظاهر البلد يقاتلون المسلمين، وكانوا يريدون الدفاع عن أنفسهم وعن مدينتهم المقدسة التي زعموها،

فلما أيس الصليبيون من جدوى الدفاع وأحسوا أن القدس مأخوذة منهم وأن المسلمين لن يدعوها شرعوا في التفاوض مع صلاح الدين على تسليم البلد، وخشوا أن يقتلهم كلهم، وأرادوا أمانًا على أنفسهم فاستشار صلاح الدين العلماء والقواد: هل يصر على فتحها عنوة أو يقبل بالتسليم؟ فأشاروا عليه بتأمين الناس على أن يدفع كل واحد منهم مقدارًا محدودًا من المال ويُسمح لهم بالخروج ويعطون أربعين يومًا، وتم تسليم المدينة يوم الجمعة سبعة وعشرين رجب عام خمسمائة وثلاثة وثمانين للهجرة، وكان يومًا مشهودًا علا فيه صوت التكبير والتهليل والتحميد في مختلف أنحاء القدس، وتوجه المسلمون إلى المسجد الأقصى وطهروه من بقايا عبث النصارى، وكانوا قد أقاموا في محرابه الخنازير، فنظفوه وأزيلت الأبنية التي بناها القساوسة لأنفسهم داخل المسجد؛ لأن هذا مسجد وقف إلى قيام الساعة، مكان الصلاة لا يجوز أخذ قطعة منه لأجل أن يسكن فيها هؤلاء النصارى إطلاقًا، وكان على رأس قُبّة الصخرة صليب كبير من الذهب، فلما دخل المسلمون البلد يوم الجمعة تسلّق جماعة منهم أعلى القبة ليقتلعوا الصليب، فنظر المسلمون إليهم ونظر الصليبيون الفرنج إليهم في المدينة، لينظروا ماذا يحصل، ولعل الصليبيين أو من بقي من الفرنجة كانوا يظنون أن الصليب سينتقم لهم أو يقع شيء، فلما قلعه المسلمون وقذفوه من الأعلى وسقط صاح الناس كلهم صوتًا واحدًا، أما المسلمون فكان صياحهم تكبيرًا، وأما الفرنجة فكان صياحهم توجعًا وأسفًا وألماً على ما حصل لهذا الشعار - شعارهم - وجُهّز المسجد لصلاة الجمعة، بعد قرابة أسبوع من استسلام المدينة، وكان يومًا مشهودًا، أول جمعة في الأقصى بعد تطهيره من شرك الصليبيين وذرف المسلمون الدموع وهم يشهدون ذلك التجمُّع المهيب ويهللون، ويكبرون، وصعد خطيب المسلمين منبر الأقصى الذي كان قد أعد مسبقًا منذ أيام نور الدين؛ تفاؤلًا، وبحضور صلاح الدين بدأ الخطيب خطبته بقول الله تعالى:  فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ  [الأنعام: 45]، وكان مما قاله: "الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذلِّ الشرك بقهره، ومديم النعم بشكره، الذي أقر الأيام دولًا بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاض على عباده من ظله، وأظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يُمانع ،إلى قال الخطيب: "الله أكبر، فتح الله ونصر، وغلب الله وقهر، وأذل من كفر، واستمر في الخطبة التي كُتبت في كتب التاريخ لأهميتها" [البداية والنهاية: 12/325]، وكان ذلك شيء ما حصل في هذا اليوم العظيم، وقال الشعراء القصائد العظيمة:

أترى منامًا ما بعيني أبصر القدس يفتح والفرنجة تكسر
وقمامة قُمّت من الرجس الذي بزواله وزوالها يتطهر
ومليكهم في القيد مصفود ولم ير قبل ذاك لهم مليك يؤسر
قد جاء نصر الله والفتح الذي وعد الرسول فسبحوا واستغفروا

وهكذا قال غيره في القصائد العظيمة:

هذا الذي كانت الآمال تنتظر فليوفِ لله أقوام بما نذروا

لأنه كان ناس من المسلمين نذروا إذا فتح الله بيت المقدس أن يفعلوا أشياء، فنتوقف عند هذا المشهد العظيم الذي حصل في ذلك اليوم الكبير، ونقف في فتح بيت المقدس لنشاهد نحن الآن ما يحل فيه من كيد اليهود وأذى اليهود وشرور اليهود، لنقول بعد ذلك: إن الذي ليس له تاريخ إنسان مقطوع لا قيمة له، ونحن إذا لم نستفد من التاريخ ولم نأخذ العبرة، فإن فوائد عظيمة جمة ستفوتنا، ونحن نتطلع من خلال الوقفة عند هذا الفتح إلى بيت القدس الآن، ونسأل الله أن يوقظ في قلوب المسلمين الحمية للجهاد، وأن يجمع كلمتهم على قتال اليهود والكفار، وأن يخلّص هذا المسجد من أيدي اليهود وأن يطهر بيت المقدس من أولئك المغضوب عليهم، ونسأل الله أن يعجّل بالفرج وأن يوحد المسلمين على الحق وأن يأتي بالنصر من عنده فإنه لا ينصر إلا هو والنصر منه ، إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُم [آل عمران: 160]، وهذا التاريخ دروس وفوائد وعبر لابد أن تتمعن فيها الأجيال، ولابد أن يكون هناك تربية عليها، وإذا لم يترب شباب المسلمين وأفراد المسلمين على هذا التاريخ ويفكروا في الأسباب كيف قام المسلمون بعد ذلك الانكسار؟ هذا لب الموضوع، كيف قام المسلمون بعد الانكسار؟ ما هي السبل التي سلكوها حتى صار الفتح المبين؟ كيف تحقق؟ وأن ينسجوا على ذلك المنوال ويسيروا على الطريق، وهذه الأحداث التي سردنا الآن مجملًا لها فيها مشابهة كثيرة بالواقع، ولذلك المسألة تحتاج إلى تأمل، استخلاص العبر، التربية عليها، وبعد ذلك التحرك لأجل نصرة دين الله سبحانه وتعالى، وما دام أن بأيدينا كتاب الله، وأن محمدًا ﷺ هو قدوتنا فلابد أن يأتي النصر في يوم من الأيام، والله ما أنزل هذا الدين ليهزم ولا أنزل كتابه لينحى عن الحكم في الواقع ولا بعث محمدًا ﷺ لتطمس سنته، الله أنزل الدين ليحكم، وأنزل الكتاب ليهيمن، وفترة الاستضعاف هذه مؤقتة، لكن نحن إذا أردنا أن يكون لنا شرف العودة فيجب أن نقدم،  وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم  [ محمد : 38] وهناك أقوال لليهود قالوها في الأسبوع الماضي عن نظرتهم للمسلمين والمسلمين والقرآن، وما هو المتوقع بالنسبة لعلاقتهم معهم؟ نظرًا لضيق الوقت سنرجئها لعلنا نبسطها أو نأتي عليها في خطبة الجمعة القادمة بمشيئة الله، فنتوقف عند هذا الحد، ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن نصر بهم دينه وأن يهيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز به أهل طاعته ويذل به أهل معصيته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.