الجمعة 20 رمضان 1445 هـ :: 29 مارس 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

سوق الدعوة


عناصر المادة
مقدمة
وجوب الدعوة إلى الله تعالى وعظيم شرفها
الدعوة إلى الله ميراث الأنبياء
المقاصد الشرعية للدعوة إلى الله تعالى
أهمية الأخلاق الحسنة والمواصفات الطيبة للداعية
أثر الكلمة الطيبة في الدعوة إلى الله تعالى
ضرورة الاشفاق واللطف والرفق بالعصاة
الدعوة إلى الله تعالى عن طريق وسائل الإعلام
أثر الدعوة إلى الله عبر رسائل الجوال
أثر العطايا والهدايا في استجلاب قلوب الناس
تأثير العطاء في تحفيز الصبيان على فعل الخيرات
زهد الدعاة في دعوة من عُرف بفسقه وفجوره
تقدير الأشخاص وإنزال الناس منازلهم
 زهد بعض الدعاة بالدعوة في بعض الأماكن
البدء بالأولويات في الدعوة إلى الله تعالى
وضوح الداعية إلى الله وإعلانه بالحق
توفير الداعية البيئة المناسبة للمدعو
حاجتنا لوجود الداعية القدوة
انتشار الإسلام بالدعوة في أقصى الأرض وغربها

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مقدمة

00:00:19

 نحن في سوق الدعوة، إنها سوق فيها بيع وشراء، البائع هذا الداعية، والمشتري هذا المدعو إلى الله، والسلعة: كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، تُعطى من هذا إلى هذا، والأرباح للطرفين، إنها جنة عرضها السموات والأرض وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت: 33].
هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى شريعته، الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب: 39].
هؤلاء هم رواد السوق.

وجوب الدعوة إلى الله تعالى وعظيم شرفها

00:01:02

 إن الأرباح عظيمة فأقبلوا على السوق: من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله [رواه مسلم: 1893]،  من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً [رواه مسلم: 2674].
فضيلة عظيمة للدعوة، شرف عظيم للدعاة، أجر كبير وخير وفير من الرب الكريم سبحانه وتعالى، فيا لها من منزلة، ويا له من فضل، يا من إلى الله تدعو وترتجي منه أجراً دعوتنا لكتاب دعوتنا لكتاب وسنة النبي الكريم.
هذا الأجر والفضل يحثنا جميعاً أن نكون دعاة إلى الله، كلنا دعاة، هذا ديننا ومسئوليتنا، كيف نتركه ونتخلى عنه، لا بد أن نبذل من أجله، إن ثوابك يا أيها الداعية إلى ما بعد الموت، أنت وقف لله تعالى، إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة [رواه النسائي مسلم: 2682]. إنها الصدقة الجارية التي تكون لك بعد موتك.
 نضّر الله امرأ سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلّغه [رواه أحمد: 4157، وأبو داود: 3660، والنسائي في السنن الكبرى: 5816، وابن ماجه: 232، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 90]. إنه يروي للناس الحق، يدعو الناس إلى الدين، ألم تعلم حديث النبي ﷺ وهو يحلف بربه: فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من أن يكون لك حمر النعم [رواه البخاري: 3009، ومسلم: 2406].
الدعوة، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران: 104]. إن حكمها الوجوب، لكن هل هو واجب على العين أم على الكفاية؟ إنها الفرضية إذا قام بها البعض سقط عن الباقين، لكن في هذا الزمان.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: "أما بالنظر إلى عموم البلاد، فالواجب أن يوجد طائفة منتصبة تقوم بالدعوة إلى الله -جل وعلا- في أرجاء المعمورة تبلغ رسالة الله، وتبين أمر الله بالطرق الممكنة، فإن الرسول ﷺ قد بعث الدعاة، وأرسل الكتب إلى الناس، وإلى الملوك والرؤساء ودعاهم إلى الله -عز وجل-.
قال الشيخ في حكم الدعوة في هذا الزمان: "فعند قلة الدعاة وعند كثرة المنكرات وعند غلبة الجهل كحالنا اليوم تكون الدعوة فرض عين على كل واحد بحسب طاقته"، ثم قال الشيخ: "ونظراً إلى انتشار الدعوة إلى المبادئ الهدامة، وإلى الإلحاد وإنكار رب العباد، وإنكار الرسالات، وإنكار الآخرة، وانتشار الدعوة النصرانية في الكثير من البلدان، وغير ذلك من الدعوات المضللة، نظراً إلى هذا فإن الدعوة إلى الله -عز وجل- اليوم أصبحت فرضاً عاماً".
هكذا رآها من خلال الواقع، ذلك العالم الرباني، فرض أن يبلغوا دين الله حسب الطاقة والإمكان بالكتابة والخطابة والإذاعة وبكل وسيلة استطاعوا، وألا يتقاعسوا عن ذلك، أو يتكلوا على زيد أو عمرو، فإن الحاجة، بل الضرورة ماسة اليوم إلى التعاون والاشتراك والتكاتف في هذا الأمر أكثر مما كان من قبل؛ ذلك؛ لأن أعداء الله قد تكاتفوا وتعاونوا بكل وسيلة للصد عن سبيل الله، والتشكيك في دينه، ودعوة الناس إلى ما يخرجهم من دين الله ، فوجب على أهل الإسلام أن يقابلوا هذا النشاط الملحد بنشاط إسلامي، وبدعوة إسلامية على شتى المستويات، وبجميع الوسائل، وبجميع الطرق الممكنة، وهذا من باب أداء ما أوجب الله على عباده من الدعوة إلى سبيله، إذا اشتدت غربة الإسلام لا بد من الدعوة، يقوم الذين يصلحون إذا فسد الناس كما قال ﷺ:  هم الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي [رواه الترمذي: 2630، وقال: "هذا حديث حسن"].


هؤلاء هم الدعاة، عندما تشتد الغربة ينيرون الطريق، أخذ الله عليهم العهد: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَه [آل عمران: 187]. هذا طريق الأنبياء  ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ [النحل: 125] ، وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ [الحج: 67]. قام ﷺ على الصفا يدعو الناس يا بني فلان، يا بني فلان، تنفيذاً لأمر الله:  وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214].  فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [الشورى: 15].

الدعوة إلى الله ميراث الأنبياء

00:05:37

 الدعوة إلى الله ميراث الأنبياء بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، بلغوا عني ولو آية ، هنالك الكثيرون اليوم يحتاجون إلى دعوة، هل نترك إخواننا والمسلمين نهباً للأعداء؟ هل نتركهم اليوم فريسة لأهل الشر؟ لا يمكن، لا نترك العامة، لا الأطفال، ولا الرجال، ولا النساء، لا الشباب، ولا الشيوخ، لا الطلاب، ولا الموظفين، لا بد أن تقوم الدعوة، أن يقوم سوقها، أن يفتح سوق الدعوة، أن تفتح محلاتها في كل مكان، في كل زاوية، لا بد أن يكون هنالك ركن للدعوة، ألم تسمع أنهم يقولون: والدعوة عامة للجميع، فهذا الدين أولى بذلك.

المقاصد الشرعية للدعوة إلى الله تعالى

00:06:31

 والدعوة إلى الله تعالى يا إخواني لها مقصدان أساسيان:
أولاً: عذر الداعي بالقيام بالواجب، وأداء الأمانة وإقامة الحجة والتبليغ، والثاني: دعوة الناس للعودة إلى ربهم وهدايتهم،  وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف: 164]. لنُعذر فيهم، ولعلهم يتقون، فيتركون المعاصي، ويرجعون إلى ما أوجب الله.
إذاً فائدة الدعوة تلخصها هذه الآية  مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ  واحدة للدعاية، والثانية للمدعوين، لنُعْذر نحن الدعاة، ولعل المدعوين يتقون، هذا هو العنوان في مقاصد الدعوة، هذا هو المقصود الأعظم إقامة الحجة، وإقامة الحق، إن الداعي إلى الله ينقذ نفسه من النار، ومن الذي لا يريد أن ينقذ نفسه من النار، وكلنا دعاة، مهما كنا مقصرين، مهما كان علمنا قليلاً، بلّغوا عني ولو آية [رواه البخاري: 3461]. كلنا دعاة.
إن الداعية شفيق حريص على هداية الناس، قال ﷺ إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وهم يقتحمون فيها [رواه البخاري: 6483].
وهكذا الأنبياء: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم [الأعراف: 59]. وقال أيضاً: فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود: 3]. وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ... وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ [هود: 84] ، وقال مؤمن آل فرعون: يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ [غافر: 32] ، وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ  فقال: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأحقاف: 21]. هكذا الداعية يشفق يدعو لإنقاذ الناس من جهنم، إيصال الخير، حب النفع، الحرص على مصلحة الآخرين، ولذلك فهو مستعد أن يذهب إلى جميع الأماكن، سفراً وحضراً، ليلاً ونهاراً، مساجد، محافل، مساكن، مصانع، قرى، مزارع، حضر، بادية، المدارس، الجامعات، هكذا زيارة الناس في أماكنهم.


كان النبي ﷺ يطوف على الناس في مواسم الحج يعرض عليهم الدعوة، يذهب إلى الطائف، يرسل ناساً إلى الحبشة، ورسلاً إلى خارج الجزيرة، وهكذا أصحاباً إلى اليمن، ودعاة، وأمراء، وقضاة، وهذه العلاقة بين الداعية والمدعو لوجه الله  قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ [يوسف: 108]. لا يريد منهم جزاء ولا شكوراً، لا ينتظر منهم أجراً، فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِ [يونس: 72]،  وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [يوسف: 104].  قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا [الفرقان: 57].  وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 109]. أجره على الله، لا يبتغي من الناس شيئاً، يتعجب بعض المدعوين لماذا يضحي فلان بوقته من أجلنا؟ ولماذا يضحي بماله من أجلنا؟ وما هي مصلحته في السهر والحرص علينا؟ لماذا ينفق الأوقات في نفعنا، تدريسنا، نصحنا، وتنبيهنا؟ إنه يخدمنا حتى في مأكلنا ومشربنا، بل حتى في الترويح عن أنفسنا، ويصطحبنا إلى الأماكن المختلفة، ويدلنا ويرشدنا، ماذا يريد هذا؟ هل هناك نية مشبوهة؟ هل هناك غرض سري؟ كلا، إن الداعية الحق لا يريد من وراء كل هذه التضحيات إلا الأجر من الله، وهذا هو الجواب على التساؤل الكبير الذي يقع في نفوس المدعوين، ماذا يريد هذا الداعية من وراء هذا؟ لماذا كل هذه التضحيات؟ يتعجبون ويستغربون؛ لأنهم لم يتعودوا أن تقدم من أجلهم كل هذه التضحيات، لم يكن هنالك من يشفق عليهم فيما مضى من أعمارهم، لم يكن هنالك من يقدم لهم هذه الخدمات، ومن يشرح لهم ويمضي معهم ويشتري لهم الحاجات، ويوصلهم إلى الأماكن التي يحتاجونها ويقدم لهم الخدمات، لماذا؟ إنهم يتعجبون، هل يريد مالاً؟ ماذا يريد من وراء ذلك؟ وبعضهم يرتاب، والجواب واضح:  إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ  [يونس: 72].  مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان: 57].
فالعلاقة إذن، علاقة نفع وهداية  لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ [التوبة: 128]. إذن، من الحرص حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128]. إنه يشفق، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: 74].
ولذلك فهو من حرصه يريد إيصال الخير بكل طريق، ويريد تكامل النفع من جميع الوجوه، فهو يقدم هذا العلم وهذا المنهج، إنه يذكر بالله ، كما كان النبي ﷺ يتخولهم بالموعظة مخافة السآمة، إنه يرتقي بهم شيئاً فشيئاً، إنه يتدرج بهم، يعلمهم دين الله اليوم الآخر، أركان الإيمان ستة، أركان الإسلام خمسة، معنى الشهادتين، التوحيد وأنواعه، عظمة الله، خوفه ورجاءه ومحبته وأعمال القلوب، الهداية، العمل الصالح، اتباع السنة، التفقه في الدين، حب الخير، وصنائع المعروف، هكذا بأسلوب مشوق، وليس بالأوامر الرسمية، وإنما الانقياد الحقيقي بالاقتناع والتذكير، الاتعاظ والتعليم، علم ووعظ رفيقان في درب الداعية في سلوكه  فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران: 20]. ولذلك إذا لم يجد الداعية استجابة فإنه لا ييأس، يعلم أن هذا ابتلاء، ويعلم أن بعض الناس لا يستجيب من أول مرة ولا ثاني مرة، وربما يحتاجون إلى مزيد من التذكير، والمشوار الذي بدأته أنت يا أيها الداعية قد يكمله داعية آخر، فلا تيأس، ليس بالضرورة أن تأتي نتائج بسرعة، والدعوة مهما كانت ليست خسارة، ومهما قلت إن فلاناً ليس فيه فائدة، فإن هناك فائدة من وراء ذلك، إن هنالك أشخاصاً قد أُنفقت من أجلهم جهود دعوية ضخمة على مر خمس سنين من حياتهم الجامعية، لكن لم يظهر عليهم التدين إلا بعد أن تخرجوا من الجامعة، وإن هنالك أشخاصاً سمعوا من الدعاة كلاماً في المرحلة المتوسطة، لكنهم لم يتدينوا إلا في المرحلة الثانوية، وهكذا والناس تتقلب بهم الأحوال وتمضي بهم الأيام، وقد تكون الكلمة موجودة، لكنها كجمرة فوقها رماد يأتي من ينفخ حتى تتوهج، ومهما قلت من أن فلاناً لم ولن يتغير، فإن الدعوة مهمة لإبراء الذمة، وإقامة الحجة، ولتعذر إلى ربك، ولعله ينتهي ولو بعد حين، لا تيأس  عُرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد [رواه البخاري: 5705، ومسلم: 220].


هل قصّروا في الدعوة؟ كلا، قصروا في الأساليب؟ كلا، أدوا الواجب، برأت ذمتهم، حصل لهم الأجر إن شاء الله، هل أجر الداعية لا يحصل إلا إذا استجاب المدعو، أجر الداعية لا يثبت إلا إذا اهتدى المدعو؟ لا، الأجر حاصل له حتى ولو ما استجاب المدعو، عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران: 20].  لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة: 272]. على المرء أن يسعى إلى الخير جهده، وليس عليه أن تتم المقاصد، ولذلك الله -سبحانه وتعالى- هوّن المسألة على نبيه قال: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ  [الشعراء: 3]. فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ  [فاطر: 8]. فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [المائدة: 68]. قمت بالواجب وأديت المطلوب، ولذلك الذين يصادمون، والذين يجابهون ويواجهون، والذين يردون ويطردون، ربما يصابون باليأس، ويدخل عليهم الشيطان، ويقول لهم: هذا الوقت وقت الفضائيات الفاسدة المفسدة، ووقت الشر المنتشر، لا مجال للدعوة، لقد استولى على الساحة الأعداء، ولا مجال لكم، أنتم كنافخ في قربة مقطوعة، وفروا جهودكم، ووفروا كلامكم، لن يتأثر بكم أحد، الناس اليوم سكرانين بالقنوات والأغاني، الناس اليوم سكرانين بالمفاسد والمحرمات، الناس اليوم لاهين مشغولين عنكم بالدنيا وجمع الأموال واللهاث وراء وسائل الترفيه والألعاب، الناس اليوم في غفلة، فلا مجال للعمل، إن هذا تثبيط مذموم، ومن الذي قال إنه لا نتائج، بل تأتي النتائج أحياناً حتى في غمرة الشدائد وشدة الأحوال، إننا نعلم جيداً أن الأرحام اليوم -أرحام البيوت- تقذف إلى المدارس والجامعات والمجتمع عموماً بمواليد مشوهين، بأشخاص مرضى، بنتاج عليه من الغبار وركام الجاهلية ما الله به عليم، إننا نعلم أن هنالك امتلاء من الإعوجاجات والتمردات والشهوات في كثير من النفوس، وقلوب طال عليها الأمد فقست، لكن مع ذلك العمل ممكن، والنتائج موجودة، إنهم ليسوا أحجاراً صلدة ولا ملائكة بررة، إن التأثير فيهم وارد، اصبر عليهم، تعليماً، وصبراً على الأذى، وعلى انحرافاتهم  وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 127] . وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام: 34]. كم عانى محمد بن عبد الله في مكة؟ كم آذوه ﷺ؟ ضربوه، شتموه، سبوه، قالوا: مجنون، ساحر، كاهن، كذاب، معلم، به جنة، علمه أعجمي، ما تركوا شيئاً إلا قالوه من الأذى فيه، ولكن تأتي الآيات لتثبته، هكذا الرسل من قبلك أوذوا، ولكن صبروا على ما أوذوا  فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ [الأحقاف: 35]. ليس كصبر قليلي الصبر، كما صبر أولو العزم، ولذلك فإن الداعية إلى الله -سبحانه وتعالى-، يصبر ويختار الأحسن في التعامل، يحسن ويصر على مواصلة المشوار، وهو في نصيحته ودعوته لا ينسى  ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [النحل: 125]. وما دامت الحكمة تقتضي التدرج فهو يتدرج، وما دامت الحكمة والموعظة الحسنة تقتضي إلانة الكلام فهو يلين، وما دامت تقتضي البشر وطلاقة الوجه فهو كذلك، والتبسم فهو يبتسم، وإذا كان الأسلوب غير المباشر أوقع اتخذه عوضاً عن الأسلوب المباشر، ما بال أقوام يفعلون كذا، وإذا كان الأحسن إعطاؤه فرصة لاكتشاف خطئه فليعطه إياها، وإذا كان الأفضل أن يناقش داعية آخر بحضرة المدعو دون أن يوجه الكلام إليه مباشرة فإنه يفعل ذلك، وإذا كان أعداء الإسلام يعتمدون التوجيه غير المباشر في الوسائل الإعلامية المختلفة لإرسال الرسائل الخفية والإيحاءات، فإن الدعاة أيضاً أولى بذلك، أليسوا يوصلون الحق؟
إذن، بالأسلوب الأمثل الذي يؤثر.


إن طريقة اليهود اليوم في العالم: أن يجعلوا الشعوب تقتنع وتتبنى الفكرة من غير أوامر مباشرة بالإيحاء، فيعرضونها بالأساليب العجيبة التي يخرج الناس بعدها وقد تشبعوا الفكرة، وتبنوا الفكرة من غير أمر مباشر، وهذا يفيد في كثير من الأحيان، وفي أحيان أخرى لا بد من الصراحة والوضوح التام، وقد جاءت الأوامر والنواهي في الكتاب والسنة هكذا.

أهمية الأخلاق الحسنة والمواصفات الطيبة للداعية

00:19:46

 إن الأخلاق في صفات الداعية لها منزلة عظيمة، وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4].
كان ﷺ يسلّم على الصبيان من تواضعه، وتأخذ بيده الأمة الصغيرة البنت الصغيرة فيقضي لها حاجتها، وإنه كذلك لإخوانه الصحابة في غاية التواضع، وقد تعلموا منه حتى ما كانوا يقومون له لما يعلمون من كراهيته لذلك.
إن هذا الجهد الذي يبذله الداعية وإن كان أحياناً يأتي بثمرة قليلة، لكنها مباركة، صحيح أن الناس في غمرة اللهو اليوم، وربما لا يتفرغوا لسماعك يا أيها الداعية، لكن بعض هؤلاء الدعاة إلى الكفر مستعدين أن يصبروا لواحد يعلموه، ويدخلوا في المجاهل والأدغال والغابات لأجل فئة قليلة، ويقف الواحد في الهايدبارك في لندن ومعه واحد أو اثنان وهو يخطب فيهم، وهو على ضلالة، على كفر، على شرك، ولكنه مع ذلك يصبر، وفي غرفة في الإنترنت معه واحد وهو صابر، فنحن أولى بذلك.
قال أبو داود: "كنت يوماً باب شعبة وكان المسجد مليئاً" مليئاً بطلاب العلم والحديث "فخرج شعبة فاتكأ علي، وقال: يا سليمان ترى هؤلاء كلهم يخرجون محدثين؟ المحدّث له صفات، المحدّث له من الأحاديث التي حفظها والطرق والأسانيد والأساليب، والكتابة والخط والرواية، والطرق، والأجزاء، مصنفات ومخطوطات، نباهة وفراسة،" يا سليمان ترى هؤلاء كلهم يخرجون محدثين؟ قلت: لا، قال: صدقت ولا خمسة، لماذا؟ قال شعبة: "يكتب أحدهم في صغره، ثم إذا كبر تركه أو يشتغل بالفساد، إما تلهيه الدنيا، أو ينحرف وينتكس في المعاصي، قال أبو داود: "ثم نظرتُ بعد ذلك فما خرج منهم خمسة" [سير أعلام النبلاء: 7/225].
فعلاً كل المجموعة الذين كانوا معه في المسجد، والمسجد مليء ما خرج منهم محدثون إلا خمسة، أقل من خمسة، ما خرج خمسة، أربعة، ثلاثة، لكن هؤلاء قد يكون كل واحد منهم أمة.

أثر الكلمة الطيبة في الدعوة إلى الله تعالى

00:22:19

 والكلمة البسيطة يمكن أن تنشئ مشروعاً عظيماً، فلا تستقل الكلمة في توجيه ولا نصيحة، صحيح البخاري، صحيح محمد بن إسماعيل قد ألفه وهو أعظم كتاب بعد القرآن الكريم  من أجل كلمة واحدة وقرت في نفسه من كلام شيخه ابن راهويه لما قال في مجلس من المجالس ومحمد بن إسماعيل موجود: "لو أن أحدكم يجمع كتاباً فيما صح من سنة الرسول ﷺ" [سير أعلام النبلاء: 12/401]. جملة واحدة وقرت في نفسه.
الذهبي -رحمه الله- ذلك الكنز والملجأ من المعضلات، إمام الوجود حفظاً، وذهب العصر معنى ولفظاً، شيخ الجرح والتعديل، ورجل الرجال في كل سبيل، لو جمع له الرواة في صعيد واحد لعرفهم واحداً واحداً، هذا الرجل كيف اندفع للحديث وأهله والرواية والأسانيد ومعرفة الرجال والتاريخ والحفظ، والتأليف؟ بكلمة سمعها من شيخه البرزالي جاءه مرة فرأى خطه -البرزالي رأى خط الذهبي- قال: "إن خطك هذا يشبه خط المحدثين، ولم يكن الذهبي محدثاً، لكن هذه الكلمة فيها إيحاء، إنك خطك هذا يشبه خط المحدثين" قال: "فحبب الله لي علم الحديث".
[سير أعلام النبلاء: المقدمة/36]. فانظر ماذا فعلت هذه الجملة في إخراج ذلك الإمام.

ضرورة الاشفاق واللطف والرفق بالعصاة

00:23:45

  إن العلاقة بين الداعية والمدعو قائمة على الرفق واللين، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا [طه: 44].  ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل: 125].  فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: 159].
والنبي ﷺ أخبرنا أن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على غيره، وهو ﷺ رفق بالأعرابي الذي بال في المسجد،  دعوه وهريقوا على بوله سجلاً من ماء [رواه البخاري: 220].
وهو الذي علّم معاوية بن الحكم السلمي لما تكلم في الصلاة تعليماً قال عنه الصحابي: "فما رأيت معلّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه". [رواه مسلم: 537]. وهو الذي رفق بالأعرابي الذي شد البرد النجراني وآذى رقبة النبي ﷺحتى انشق البُرد، ومع ذلك ابتسم في وجهه وأمر له بعطاء". [رواه البخاري: 3149، ومسلم: 1057].
إن هذا الرفق واللين منهج، إنه يأتي بالنتائج العجيبة، نعم، إذا وصلت القضية إلى طريق مسدود، وكان الإعراض والصد، فتكون العبارات على مستوى الإعراض والصد إذا تواصل العناد، والله لقد جئتكم بالذبح [رواه أحمد: 7036، وحسّن إسناده محققه الأرنؤوط]. قالها لقريش، و عندما بدأ موسى بالقول اللين لفرعون، ثم وصلت المسألة إلى النهاية المسدودة، قال: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء: 102]. يعني هالكاً، هذه هي النهاية، النهاية في الموعظة، أما البداية فإنها لينة  إن شر الرعاء الحطمة  [رواه مسلم: 1830].
إذا كان الداعية يقود المدعوين فإنه لا يحطمهم ولا يؤذيهم، بل إنه يرفق بهم ويلين، قال حماد بن سلمة: "مر رجل على صلة بن أشيم قد أسبل إزاره، فهم أصحاب صلة به، أن يأخذوا هذا المسبل بشدة، قال: دعوني أنا أكفيكم، قال: يا ابن أخي، إن لي إليك حاجة، قال: وما حاجتك يا عمي؟ قال: أحب أن ترفع إزارك، قال: نعم وكرامة، فرفع إزاره، فقال صلة لأصحابه: لو أخذتموه بشدة قال: لا ولا كرامة وشتمكم" [إحياء علوم الدين: 2/ 335].
خرج عبد الله بن محمد بن عائشة ليلة من المسجد بعد المغرب يريد منزله، هذا محدّث كبير، وإذا في طريقه غلام من قريش سكران وقد قبض على امرأة يجذبها، والمرأة تستغيث وقد اجتمع الناس على الشاب يضربونه، سكران يجذب امرأة في الطريق، فنظر إليه ابن عائشة فعرفه، هذا من عائلة معروفة، فقال للناس: "تنحوا عن ابن أخي"، ثم قال: "إلي يا ابن أخي، فاستحيا الغلام فجاء إليه، فضمه إلى نفسه، فقال: امض معي" فمضى معه حتى صار إلى منزله، فأدخله الدار، ثم قال لبعض غلمانه: "بيّته عندك، فإذا أفاق من سكره، فأعلمه ماذا فعل، أعلمه بما كان منه، ولا تدعه ينصرف حتى تأتيني به، فلما أفاق من سُكره، ذكر له الغلام ما جرى منه، فاستحيا وبكى وهمّ بالانصراف، فقال الغلام: "قد أمرني أن آتيك أن آتي بك إليه، فلما دخل عليه، قال عبد الله بن محمد بن عائشة له: "أما استحييت لنفسك، أما استحييتَ لشرفك"، يعني أنت صاحب نسب وقبيلة وعائلة معروفة، "أما استحييتَ لشرفك، فاتق الله وانزع عما أنت فيه" فبكى الغلام منكساً رأسه، ثم رفع رأسه وقال: عاهدتُ الله عهداً يسألني عنه يوم القيامة أني لا أعود لشرب النبيذ، ولا لشيء مما كنت فيه، وأنا تائب، فقال: ادن مني، فقبّل رأسه -الشيخ يقبّل رأس الشاب على التوبة التي حصلت- قال: "أحسنتَ يا بني" فكان الشاب بعد ذلك يلزمه ويكتب عنه الحديث، تحول الفاسق إلى محدث ببركة الرفق. [إحياء علوم الدين: 2/335].


إن الإشفاق والرحمة لها أثر عظيم في النفوس، والإنسان الداعية يتذكر ماذا كان قبل ذلك  كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [النساء: 94]. والقدوة الحسنة الطريقة المثلى في التأثير  يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ  [الصف: 2]. والقدوة الحسنة أشد في النفوس من اللسان والكلام والمحاضرات والخطب، القدوة الحسنة التي جعلت الصحابة بعد ما أصيبوا بالصدمة من جراء الرجوع من مكة بدون عمرة، ولا يريدون حلق الرؤوس، يريدون تجريد السيوف، والنبي ﷺ أمر بالرجوع وعدم دخول مكة بالقوة، فخرج ببركة رأي زوجته أم سلمة ومشورتها، فحلق رأسه أمامهم دعا بالحلاق، كلهم حلقوا، العمل أبلغ من القول في التأثير.
كان عمر إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شيء جمع أهله فقال: "إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسم بالله لا أجد أحداً منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة" [الكامل في التاريخ: 2/435].
الدعوة تحتاج إلى تضحيات، الدعوة تحتاج إلى صبر، الدعوة مكلفة؛ وقتاً ومالاً وجهداً، الداعية يضحي براحته للآخرين، وبماله للآخرين، يصد ويرد ويصبر، وهذا المدعو لا يتعامل معه أصلاً بفتح الباب، إنما يقول ماذا تريد من الشباك، لو طرق الباب لا يفتح من الشباك، والناس إذا قوبلت إساءاتهم بالإحسان يتأثرون، لا بد أن يكون لهذا تأثير، وهذه لا بد ليست ادعاء، لأن الله أخبر بذلك، لا بد ولو بعد حين، المسيء إليك كلما أساء وقابلته بالإحسان لازم يتأثر، قال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ  [فصلت: 34]. لا بد أن يحدث هذا التأثير، ولذلك الإحسان له أثر على الإنسان
أحسن إلى الناس تستأسر قلوبهم فطالما استأسر الإنسان إحسان


ولا نقول استعبد؛ لأننا لا نريد أن نستعبد البشر، لكن استمالة قلوب البشر إلى الحق، هذا هو المطلوب.
إن الدعوة تحتاج إلى شجاعة، إن الشجاعة أن تقول كلمة الحق في المواقف المختلفة، إن الشجاعة لا تعني التهور، وأن يعمل عملاً ينقطع خيره بعد ذلك، إن الشجاعة تماسك في مواجهة الأخطار، ومقاومة الظروف الأليمة، إنها ثبات في مواقف الردّة والتولي، أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب [رواه البخاري: 2864، ومسلم: 1776].
قالها لما ولّى الناس، إنها مواجهة الظلم، إنها نهي عن المنكر، إنها عدم الخوف من سطوة البشر، إنها التغلب على الصعوبات والإحراجات، وترك المجاملات.
إن النبي ﷺ أوذي وحوصر في شعب بني هاشم، فهل ترك الدعوة؟ كلا، إنها احتمال الآلام، إنها تغلب على الظروف النفسية، نحن عندنا مشكلات، وقد يتأزم الإنسان من موقف أبيه وأمه، بل الداعية ممكن يبتلى بولده، فتراه مسكيناً حزيناً، يدعو أولاد الغير وولده غير قادر عليه، ولده متمرّد ينظر إليه نظرات التحدي، فربما انكسرت نفسه لا يخرج للآخرين، لكن هذا نوح لم يمنعه عقوق ولده من الدعوة، وهذا إبراهيم لم يمنعه كفر أبيه وإصراره من الدعوة، ولذلك لو كان هناك داعية أخوه فاجر، أخته فاسقة، أهله في معاصي، فإن ذلك لا يوقفه عن الدعوة، صحيح إن الجبهة الداخلية هذه مهمة جداً، لكن الإنسان إذا ابتُلي بها، ماذا يفعل؟ يترك الدعوة، هو حاول فيهم، ولم تجد الوسائل، فماذا يفعل؟ هل يقول: إذا لم يهتد أهلي فأنا تارك للآخرين؟ كلا، بل ربما تجد الفرج في أولاد الآخرين، والمدعوين الآخرين، وإذا أُغلقت من جهة انفتحت من جهات، إن بعد العسر يسراً، إن النصر مع الصبر، والفرج آتٍ، وبما أنك متجرّد عن المنافع الدنيوية فلا يضرك دخول غمار الدعوة، فإنك واثق بالله، لا تسأل الناس أجراً، ولا تكلّفهم شيئاً، أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ [الطور: 40].
إن مؤمن آل ياسين قد رغّب قومه في الرسل بأنهم، قال: اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ  [يس: 21].
لما كان الكهنة والسحرة والعرافون يأخذون المال، الدعاة لا يأخذون المال، هذا فرق مهم جداً، السحرة لما جاءوا لفرعون، قالوا: أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين، لكن الدعاة إذا جاءوا لفرعون أو غير فرعون لا يسألونه شيئاً، وهذا من الفروق بين دعاة الباطل ودعاة الحق، ولو أن دعاة الباطل أحياناً من تجبرهم يحتسبون، ولا ندري ماذا يحتسبون في صبرهم، وطالما كان الداعية زاهداً في الدنيا أحبه الناس، ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما أيدي الناس يحبك الناس [رواه ابن ماجة: 4102، وصححه الألباني في السلسلة: 944].  
هذا الزهد في الدنيا الذي يكتب لصاحبه القبول في الناس، قيل لشيخ الإسلام ابن تيمية: أنت تريد الملك، كل هذه الأفعال أنت تريد الملك، قال: أنا أريد الملك، "والله إن ملك التتر لا يساوي عندي درهماً". مع أن دولة التتر في ذلك الوقت كانت قوية ممتدة، وأحد الدعاة إلى الله في الهند نفع الله به خلقاً كثيراً، ملك دهلي التي يسمونها اليوم دلهي، ملك دهلي ويُنسب إليها دهلوي، قال له بعد ما استدعاه: هذا المال الطائل لك، قال: "لا شأن لي به"، قال: لا بد أن تقبل شيئاً مما أعطاني الله، قال: "إن الله -سبحانه وتعالى- يقول: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ [النساء: 77]. فإذا كانت الدنيا كلها قليلة، فقارة آسيا قليلة، وإذا كانت قارة آسيا قليلة، فإن الهند أقل، وإذا كانت الهند قليلة، فإن دهلي أقل، وإذا كان مال دهلي قليل فإن المال الذي ستعطيني منه ما هو؟ الله قال: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ [النساء: 77].


أتى أحد الأشخاص بحقيبة فيها مال لأحد علمائنا الذين توفوا -رحمهم الله-، حقيبة مليئة بالملايين، طرق الباب ودخل قال: إن فلاناً يسلم عليك، وسمع أن زواج ابنك قريب، وهذه منه صلة وهدية، وأرجوك لا تردني تحرجني مع الذي أرسلني، فقال الشيخ: حسناً، وجلس معه وتكلم معه وأجاب عن أسئلته، وأخذ الشنطة، ولما قام لينصرف ذلك الرسول خرج معه الشيخ وهو حامل الشنطة، يقول لي: فاستغربتُ لماذا حمل الشيخ الشنطة؟ فقلت: لعله خشي عليها ما دام فيها ملايين أن يتركها في البيت فيأخذها أحد الأشخاص، فخرج معي من الباب، ونزل معي الدرَج، وفتح لي باب السيارة، وودعني ووضع الشنطة، وأغلق الباب، قلت: يا شيخ؟، قال: قل له: إنها وصلت ولا حاجة لي إليها، وبالرغم من المحاولات لم يأخذ الشيخ هذه الشنطة، إن هذا الموقف العظيم له في نفس المرسَل والمرسِل والسامع الوقع الكبير، إن الناس اليوم قد ذلّوا للدرهم والدينار، شريت ذمم، وباع ناس دينهم، بل باعوا الفتاوى الرخيصة بالدرهم والدينار، واسترضوا الخلق بالدرهم والدينار، وتركوا المبادئ بالدرهم والدينار، وعدلوا عن الحق بالدرهم والدينار، وتركوا الدعوة بالدرهم والدينار، أين فلان من طلاب الشيخ فلان؟ قال: والله انشغل بالعقار، سبحان الله هكذا صارت الأموال فتنة تترك لأجلها المبادئ، ويترك لأجلها طريق الرسل، وتترك الدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى-.

الدعوة إلى الله تعالى عن طريق وسائل الإعلام

00:36:44

 اليوم نحن في عصر الإعلام والإعلان بالنون والميم، تحتاج الدعوة إلى إعلان وإلى إعلام، تحتاج إلى وسائل كثيرة، إلى وسائل فنية، إلى وسائل متنوعة؛ صوتاً صورة لوناً إخراجاً ابتكاراً جذباً شكلاً، الناس الآن يهتمون بالمظاهر والأشكال وإن الدخول على الناس من الأبواب التي يتأثرون بها ويهتمون بها ويلتفتون إليها مهم لتسويق سلعتنا العظيمة وهي هذا الكتاب، وهذه السنة النبوية، ولذلك فإن الوسائل يجب أن تتعدد مسموعة مرئية مقروءة أشرطة صحفاً كتباً إذاعات قنوات رحلات مخيمات برامج مجلات أشياء مصممة ومخرجة، وإذا كانت الأماكن مختلفة فينبغي غزوها، وهذه تجمعات للحجاج، وأخرى لأهل القرى والهجر، وهذه أماكن تعليمية ومنشآت، وأخرى إصلاحيات وسجون، وهذه غرف ومواقع إلكترونية، وهذه سيارات، إن صالات الفنادق وصالات الحلاقة والأماكن العامة، وأماكن الانتظار، وعيادات المرضى، والمستشفيات، المواقع المختلفة اليوم تحتاج إلى دخول الدعوة فيها بكل طريقة، إن هذا التنوع والجذب لا ينسينا المضمون، لا زلنا في المضمون؛ كتاب وسنة، لا زلنا نتكلم عن التقوى والجنة والنار، والخوف من عذاب الله، والطمع في ثوابه، والقبر، ومشاهد القيامة، لا زلنا نتكلم عن الحلال والحرام والفقه والأحكام، لا زلنا نعرض المضمون الحقيقي، إن الوسائل والأشكال ليست تشغلنا عن الاهتمام بالمضمون والرسالة، إن الهدية لها أشكال مختلفة، لكن باطن الهدية وفحوى الهدية وماهية الهدية لا زالت هي هي، الهدية القيمة التي فيها التذكير بأيام الله، ذكرهم بأيام الله وأحكام الله، ذكرهم بأيام الله، وأحكام الله، ذكرهم بأحكام الله.

أثر الدعوة إلى الله عبر رسائل الجوال

00:39:04

 إن رسائل الجوال على سبيل المثال أيها الإخوة فيها فوائد عظيمة وآثار ضخمة ولو اعتني بها لأصلح الله بها أقواماً وهداهم، وصلّى من لم يكن مصلياً، وزكى من لم يكن مزكياً، وصام من لم يكن يصوم، وترك الفاحشة من كان يفعلها، والشرب من كان يدمنه، والمخدرات ومن كان واقعاً فيها، وهكذا ستجد صلاحاً عظيماً، بل إن اندفاعاً إلى الطاعات من الصدقات وقيام الليل ومرافقة الأخيار وحضور المحاضرات، والذكر ستجده قائماً برسالة صغيرة سطر ونصف في شاشة الجوال، إن سطراً ونصفاً لا يكلفك في كتابته شيئاً كثيراً، لكن له نتائج كبيرة.

أثر العطايا والهدايا في استجلاب قلوب الناس

00:39:50

 إن النفوس مجبولة على الدنيا، ولذلك الهدية لها أثر، وإذا كانت قيمة استجلبت القلوب، الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف: 46].  زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [آل عمران: 14].
ولذلك النبي ﷺ يعطي عطاء ما يخاف الفقر ﷺ، يقول أنس -رضي الله عنه- "أن رجلاً سأل النبي ﷺ غنماً بين جبلين فأعطاه إياه"، فأتى قومه فقال:  أي قوم أسلموا  أسلموا، يعني هذا رجل غير طبيعي ما هذا، سألته غنماً بين جبلين أعطاني إياه، يعني الدنيا عنده لا تساوي شيئاً، لو كان يريد أن يحجز أمراً لنفسه لحجز هذا المال الكثير، أنا سألته أعطاني إياه، "فو الله إن محمداً ليعطي عطاء ما يخاف الفقر"، قال أنس -رضي الله عنه- هذه نتائج العطايا: "إن الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم -يعني ما يمضي عليه بداية الإسلام المدة اليسيرة- "حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها" [رواه مسلم: 2312].
وفي رواية: "فما يمسي عليه المدة اليسيرة حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها".
[رواه أحمد: 12050، وقال محققه الأرنؤوط: إسناده صحيح].
 قال ﷺ: إني أعطي قريشاً أتألفهم؛ لأنهم حديث عهد بجاهلية [رواه البخاري: 3146].
وقال أبو سعيد: "بعث علي -رضي الله عنهما- إلى النبي ﷺ بذهيبة -قطعة ذهب- فقسمها بين الأربعة، الأقرع بن حابس الحنظلي، ثم المشاجعي، وعيينة بن بدر الفزاري، وزيد الطائي، ثم أحد بني نبهان، وعلقمة بن علافة العامري، ثم أحد بني كلاب، فغضب بعض الناس من المسلمين، قالوا: يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا؟
قال: إنما أتألفهم  وجد بعض الأنصار في أنفسهم، فأخبرهم لماذا أعطي أولئك، وتركهم يكلهم إلى ما في أنفسهم من حب الله ورسوله، كان صفوان مشركاً يبغض النبي ﷺ، قال: "أتيتُ النبي ﷺ فأعطاني، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي".
[رواه الترمذي: 666، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي: 666]. 
وهكذا لما فتح حنيناً قسم الغنائم فأعطى المؤلفة قلوبهم، فبلغه أن الأنصار يحبون أن يصيبوا شيئاً مما أصاب الناس، فكلمهم كلاماً أحب إليهم مما أعطى الآخرين، ولذلك ما التفتوا إلى شيء بعدها.

تأثير العطاء في تحفيز الصبيان على فعل الخيرات

00:42:31

 هذا العطاء يؤثر ويؤثر في الصبيان وتؤثر فيهم الحوافز والصغار، كان زُبَيد مؤذن مسجده، يقول الذهبي: يقول للصبيان: تعالوا فصلوا، تعالوا أقسم عليكم جوزاً، والصبيان يحبون الجوز، كان يصلون ثم يحيطون به يقسم عليهم الجوز، فقلت له في ذلك قال: وما علي أن أشتري لهم جوزاً بخمسة دراهم ويتعودن الصلاة. [سير أعلام النبلاء 5/298].ونحن طبعاً نذكر أيضاً بأن الإنسان إذا دعا الأطفال فإنه يذكرهم بثواب الله قبل ثم يكافئهم بعد العمل، فهذا أولى وأنسب، إن التحفيز مطلوب، إنه مما تساق به النفوس، وإذا كانت القيادة فن وذوق وأخلاق، فالدعوة قيادة الناس إلى الحق فن وذوق وأخلاق، إن ترك التوبيخ وتقديم المساعدة والمشاركة في الأفراح والأحزان، إن التعرف وحفظ الاسم، إن الثناء على عائلة المدعو وعلى سمعتها، إن أموراً كثيرة تؤثر بالناس، وبعض الناس يؤثر فيه الثناء أكثر من المال، وبعضهم يؤثر فيه المال أكثر من الكلام، وبعضهم يحتاج إلى الأمرين، وطوبى لشخص عنده مال يبذله في سبيل الحق والدعوة إليه، وكم دخل من قبائل في الإسلام بسبب بعض الأموال البسيطة التي أُعطيها بعض زعمائهم، دخلت قبائل في الإسلام، أشياء غير مكلفة، دخلوا في الإسلام، عندهم فقر وحاجة، وقبل أن يسبق إليهم النصارى بالعطايا التافهة أيضاً أحياناً، فنحن أولى بأن نسبق هؤلاء الضلال إلى أولئك لهدايتهم.

زهد الدعاة في دعوة من عُرف بفسقه وفجوره

00:44:16

 من الدعاة من إذا عرف بعض ماضي المدعوين زهد فيه، وقال: هذا كان فاجراً فاسقاً، كان يعمل ويعمل!
نقول يا أخي إن الماضي يجب ألا يؤثر علينا في موقفنا من الناس فنحن ندعوهم  والتائب من الذنب كمن لا ذنب له [رواه ابن ماجه: 4250، وحسّنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 3008]. 
وأحياناً بعض الناس يتصرف تصرفاً ليس بحكيم، اتصل بي شخص سألني سؤالاً يقول برسالة بالجوال: عرفت أن شاباً له صلة بفتاة بالحرام، ثم علمت أنه تقدم الآن إلى أهلها لخطبتها، فهل أذهب وأخبرهم وأحذرهم من هذا الشخص؟ هذا الشخص الآن إذا كان بدأ ينتقل من طريق الحرام إلى طريق الحلال، إذا ترك العلاقة المحرمة وجاء البيوت من أبوابها، لماذا نحذر منه الآن ونريد صرفة؟ أين الحكمة؟

تقدير الأشخاص وإنزال الناس منازلهم

00:45:10

 إن تقدير الأشخاص وإنزال الناس منازلهم فيه تأثير كبير، والنبي ﷺ كان ينزل الناس منازلهم، كان يراعي مراتبهم، مناصبهم، كان يراعي أحوالهم، كان ﷺ إذا أتاه شخص أكرمه، كان إذا كتب الكتاب قال: إلى هرقل عظيم الروم[رواه البخاري: 7، ومسلم: 1773]. مع أنه كافر يقول عظيم الروم، هو ما قال كذباً، ولا داهن، ولا تنازل عن شيء من الحق، هو فعلاً عظيم الروم، الروم يعظمونه، إن الحض على مراعاة مقادير الناس ومراتبهم ومناصبهم، وإن جعلهم في المجالس على حسب منازلهم وتقريب هذا والبدء بهذا والاهتمام بهذا، إنه مهم في استجلاب القلوب، والناس يهتمون بالمظاهر، ومهما قلتَ عن الزهد في الدنيا فإن الكثيرين لا يعترفون بهذا، ولا زالوا ينظرون إليك كيف ستتعامل معهم، وماذا ستفعل معهم؟ ولا شك أن أصحاب المراكز والمناصب والأنساب والمتبوعين، لا شك أن النبي ﷺ كان يحرص على التعامل معهم بما يطيب قلوبهم، ائذنوا له، مع أنه بئس أخو العشيرة، لكن ليس معنى ذلك أن نطرد الأخيار الفقراء وطلاب العلم المتواضعين والمساكين، عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى [عبس: 1- 2]. لقد كان درساً ثقيلاً، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى [عبس: 3 - 10].
 جاءت قريش بصناديدها إلى النبيﷺ يقولون: نقعد مع هؤلاء الأعبد، أنت معك عمار وصهيب وخباب وبلال، ناس أشكال عجيبة، ما نقعد مع هؤلاء، دعهم يقومون نجلس إليك!.
لقد كان إغراء عظيماً، فهؤلاء الصناديد قد أقبلوا للسماع، لكن ما يتنازلوا عن المبادئ في هذه الحالة، فنزل قوله تعالى:  وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 52].
فإذن، إنزال الناس منازلهم لا يعني طرد الأبرار الأخيار أصحاب السبق والفضل، وكلمة اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا مبدأ جاهلي مرفوض، تجلسون معهم أهلاً وسهلاً، أما أن أطرد المقبلين، وماذا يكون من الذي يأتيني من الله لو طردتهم؟ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ  [هود: 63]. ثم الدعوة تحتاج إلى متابعة، وتحتاج إلى استمرار في الملاحظة، وهكذا الإنسان المدعو لا يتقدم إلا إذا كان معه مواكبة وحرص، وإن البذرة إذا تُركت في أول نبتتها ولم تُسق ويوالى عليها الاهتمام تموت، فلا بد من الرعاية، وإن الانقطاع خسارته كبيرة ولا نفتر ولا نكسل عن الخير، وإنما نستمر فيه ولو كان قليلاً، ونعرف أنواع المدعوين، فهذا يوعظ حتى يعمل، والموعظة الحسنة، وإما ألا يعترف به أصلاً، فهذا يجادل بالتي هي أحسن، وهكذا نزلت هذه المراتب في أمر الدعاة وأمر النبي ﷺ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل: 125]. الناس فيهم أهواء، ولا بد من معالجة هذه الأهواء، الناس فيهم جدل، ولا بد أن يقابل هذا بالتي هي أحسن، فيهم جهل وقسوة وغفلة وجدل بالباطل، وكل ذلك ينبغي أن يُقابل بما فيه استجلاب هؤلاء، وكل واحد يُعطى ما يناسبه، ويحتاج الداعية إلى الله للتعاون كثيراً مع المدعو، ولذلك لا بد أن يقال للمدعو: يا أخي إذا أردتَ أن تنجح الدعوة لمصلحة الدين، وليس لمصلحة فلان ولا علان، يجب أن تتساعد مع الداعية للوصول إلى المطلوب، إن هنالك واجبات يجب أن تُفعل، ومحرمات يجب أن تُترك، وسلوك يجب أن يُغير، ولذلك لا بد أن تضع يدك في يده، وقد تكون العوائق الموجودة في أسرة المدعو مما يصده عن الحق أو يخذّله عن اتباعه، ولذلك لا بد من علاج هذا، وكيف سيُعالج إذا لم يتعاون المدعو، ولذلك فإن على المدعوين الواجب العظيم في التعاون مع الدعاة، وقد يُبتلى الإنسان بمعصية وهو يُدعى إلى الله، وإذا ما تساعد مع الداعية للتخلص منها ستبقى المعصية.


ولذلك يا أخي المدعو لا بد أن تمد يدك إلى الداعية، لا بد أن تتعاون معه أن تفتح له قلبك، وأن تفتح له صدرك، وأن تكون المصارحة والوضوح، ولا بد من عرض المشكلة بأبعادها المختلفة، ثم أخذ العلاج، وتطبيقه، أرأيت لو أنت ذهبت إلى طبيب وأنت مريض واشتكيت، واشتكيت، ثم وصف لك العلاج وكتبه لك، وصلنا إلى اللب، ثم أخذتَ الدواء فرميته في سلة المهملات، فماذا يقال عنك؟ وأي فائدة فيما حصل؟ ولذلك يا أخي المدعو أنت إذا كنت واقعاً في أمور من ترك واجبات وفعل محرمات، وواقع في أوساط سيئة، وبيئات فيها عفونة، وفيها سخط وغضب من الله تعالى، وفيها أنواع من المصائب في الدين، فإنه يجب عليك أن تتعاون للخروج من هذه الأوساط، والنجاة بنفسك، بل إلى تصحيحها وتنقيحها وتنظيفها وتطهيرها وتطييبها، وتغيير منكراتها، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا بتعاون.
إنك تحتاج إلى حكمة مع الداعية لانتشال نفسك مما أنت فيه، ومن الأمثلة على ذلك: أن المدعو في كثير من الأحيان يحتاج إلى إقناع أهله بالدعوة والداعية والطريق الذي يسلكه مع الداعية، وإذا لم يقنع أهله بذلك يزعمون الخوف عليه فيأخذونه يحجزونه يمنعونه، يقولون: نخاف عليك، فعلى المدعو أن يبين ماذا يفعل مع الداعية؟ وما هو الغرض؟ وما هو الهدف من هذا كله؟ لأن الناس أعداء ما جهلوا، فإذا لم يعرف الأهل ما الذي تفعله من الخير، فإنهم سيبقون في حذر وغموض وخوف، ولذلك فإن بيان نتائج الدعوة مهم، ولذلك قام بعض الدعاة جزاهم الله خيراً في بعض الأنشطة والمكتبات الخيرية بدعوة أولياء أمور المدعوين إليها ليروا بأنفسهم هذا النشاط والبرنامج ما هو، وزار المكتبة في ذلك الوقت بعض من تخرّج منها من المدعوين الذين صاروا دعاة، وإذا فيهم الطبيب والمهندس، ورجل الأعمال فكانت تلك الزيارة والتعريف تعاوناً في النهاية من الجميع للوصول إلى المطلوب، ومن المطلوب من الداعية إلى الله ألا يتخوف ما دام على الحق، فلماذا يخاف؟ ليس في الإسلام أسرار، ولا أشياء نخشى منها أو نخبئها عن الآخرين ونخجل مثلاً من إظهارها وليس عندنا أسرار كالباطنية والنصارى وغيرهم، الذين يخشون لو صارحوا أتباعهم من أول الأمر بحقيقة ما هم عليه لرفضوهم، وما دخلت عقولهم هذه الأباطيل، ولذلك يقول بعضهم: لا نعلّم ديننا إلا بعد الأربعين، لكن هذا الإسلام واضح يتعلمه الصبيان منذ نعومة أظفارهم.

 زهد بعض الدعاة بالدعوة في بعض الأماكن

00:53:31

 وبعض الدعاة إلى الله يتهيبون من بعض أماكن المدعوين، فربما إذا رأوا مقهى قالوا هذا البيئة لا تصلح أبداً للدعوة، ما أدراك ربما تدخل هذه البيئة فيكون في دخولك خير عظيم في الدعوة، وليس في الفرجة، في الدعوة وليس في إقرار المنكرات، في الدعوة وليس المشاركة في النظر إلى الشاشات، في الدعوة وليس في سماع الباطل، إنك تدخل لتؤثر لا لتتأثر، لقد قام بعض الدعاة بزيارة مقهى من هذه المقاهي التي فيها تلك الشيش، ووزعوا الأشرطة ونصحوا من كان موجوداً فكان الخير عظيماً، حتى أن أحد هؤلاء الجالسين أصر عليهم أن يجلسوا بجانبه على كرسيه وطاولته ليقولوا له، يا إخوان الناس الآن ملوا من آثار المعاصي، الحياة الموجودة الآن كرّهت الناس فيها، ولذلك فإن بعضهم ينتحر وبعضهم يصاب بالانهيارات والإحباطات والاكتئاب، وأنواع الأمراض النفسية والعصبية، الناس يريدون إنقاذاً الآن، الناس تتمنى ثقة تتكلم معه، ثقة تفضي إليه، ثقة تخبره بما في الصدر من المشكلات، الأوساط مليئة الآن بالمصائب من نتيجة المعاصي، والانغماس في الدنيا، ولذلك الناس يبحثون عن حل، الناس يبحثون عن منقذين، وأنت لا تتهيب يا أيها الداعية، فربما يكون الإنقاذ على يديك، ويجب أن يكون الشخص القائم بالحق ليس مظهراً فقط، وإنما متمسكاً حق التمسك بدينه، فإن بعض الناس ربما يكون عليه مظهر أهل الدين، لكنه في المخبر إنسان آخر، فهو غليظ، جاف، يفعل المحرمات مع أهله وأولاده، شدة وبطشاً، وسوء خُلق، بل ربما يكون  بعض المدعوين أحسن حالاً منه إذا كان هو في الشدة، أو أنه يتظاهر، يتمسح بالقضية، ولكنه في الحقيقة عنده من الطامات ما عنده، ولذلك يقول بعض الناس: هذا أصلي، وهذا تايوان؛ لأنهم فعلاً يرون الفرق بين أشخاص وأشخاص، ودعاة ودعاة، ولما دخل داعية إلى مطعم وجد فيه داعية آخر مع مدعو، والمدعو يدخّن، والداعية ينظر إليه ولا يحرّك ساكناً، فاتجه إليه وقال: يا أخي هذا التدخين ضار، اتق الله في نفسك، وانته عنه، ولك الأجر من الله، فحصلت الاستجابة، فخجل ذلك الآخر الذي كان ساكتاً عن القضية، ولذلك لا بد أن يصارح الإنسان بالحق ويتكلم به مع الأدب، وأن يحدّث الناس بما يعرفون لا بما يُستغلق عليهم، كره الحسن تحديث الحجاج بحديث العرنيين؛ لأنه يسهل له سفك الدماء، قال الشافعي: "لو أن محمد بن الحسن كان يكلمنا على قدر عقله ما فهمنا عنه، ولكنه كان يكلمنا على قدر عقولنا فنفهمه".
ولذلك عندما سئل بعض الأئمة سؤالاً سكت فسكت حتى قال السائل: هل تراه بهذه الصعوبة؟ قال: الجواب أعرفه، لكن أفكر كيف أفهمه لك حتى أتوصل للطريقة التي تفهم بها فخجل.

البدء بالأولويات في الدعوة إلى الله تعالى

00:57:19

 وأيضاً فإن البدء بالأولويات أمر مطلوب ومهم للغاية، فإن المسلم يحتاج في دعوته إلى الله -سبحانه وتعالى- أن يكون عالماً بالمصالح والمفاسد وأنه يدعو إلى الله -سبحانه وتعالى- وهو يراعي حديث معاذ: تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعوهم إلى شهادة ألا إله إلا الله وإني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم [رواه أحمد: 2071، وأبو داود: 1584، والنسائي في الكبرى: 2313، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 1412].
وهكذا فإن هذا التدرج يعين المدعو كثيراً على تقبل الحق وعلى العمل به بالتدريج، وأيضاً فإن هذا التدريج لا يعني عدم الكلام في المنكر، ولا يمكن أن يعني الإقرار على المنكر، أو أن يقال: لا للمنكر، هذا جائز، وقد ابتلينا اليوم بأناس يسمون أنفسهم دعاة، يريدون إفتاء الناس بالمرجوح، وهم يعلمون أنه مرجوح، مصيبة عظيمة والله، يقولون: لازم نسهّل على الناس، يعني قالوا: إذا أفتى واحد إن الغناء مباح نقول الغناء مباح، وأفتى بعضهم أن نكاح المتعة مباح، نقول مباح، وأفتى ... سبحان الله، وما من مسألة إلا تجد فيها زلّة لعالم، يوجد أقوال في كثير من الأشياء مخالفة للدليل، أقوال باطلة؛ لأن فلان قال تفتي بها، لماذا؟ قال: حتى لا يسحب أعداء الدين الناس منا، انظروا يا إخوان إلى الباطل العظيم!، والله مصيبة أن بعض الناس اليوم الذين يلبسون المسوح يقولون عن أنفسهم دعاة، يريدون اليوم التخفيف عن الناس بزعمهم بإعطائهم فتاوى رخيصة، لماذا؟ قال: الناس ما يتحملون اليوم الدين القوي الأصلي المتين، طيب ماذا تريد أن تقدم لهم أنت؟ أقوالاً مرجوحة، لقد أجمع العلماء على عدم جواز الإفتاء بالمرجوح، وأجمع العلماء على أن المفتي يجب عليه أن يفكر في إنقاذ نفسه قبل أن يفكر في إنقاذ المستفتي، هل علمتم ما معنى هذا الكلام؟ أن يفكر في إنقاذ نفسه قبل أن يفكر في إنقاذ المستفتي.
إن القضية اليوم ليست أن تختار، "ما خيّر رسول الله ﷺبين أمرين إلا اختار أيسرهما"؛ لأنه قال "ما لم يكن إثماً"، [رواه البخاري: 3560، ومسلم: 2327].


إما إذا عرفت بالدليل أنه إثم، فكيف يجوز لك أن تفتيه به، وكيف يجوز لك أن تنقله إليه؟
قال شيخ الإسلام: "اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز تقليد أحد في خلافه" [مجموع الفتاوى: 7/71].
وقال القرافي: "أما الحكم والفتيا بالمرجوح فهو خلاف الإجماع"[الإحكام: 93].
احفظ هذه العبارة: "أما الحكم والفتيا بالمرجوح فهو خلاف الإجماع"، ولابن القيم كلام جميل في إعلام الموقعين فحواه ومعناه وملخصه:" "أن إعطاء الناس ما يوافق هواهم في الأحكام حرام باتفاق الأمة" [إعلام الموقعين: 4/162].
وبعض الناس اليوم يقولون والله الناس إذا قالوا إن هناك يعني رغبة في بعض التعجلات في الحج ولو ما وردت لها دليل، لكن ممكن نرخص لهم بها من أجل أن نجذب الناس للحج، إما أن يحج على السنة وإلا لا يحج، وظيفتنا نحن أن نعرض الحق للناس بأدب وأسلوب حسن، ثم بعد ذلك إذا لم يريدوا اتباعه فهم يتحملون الوزر، أما نحن نحتمل أوزاراً لأجل أن نجذبهم إلى دين نص استوى وسكر خفيف مصيبة والله يا إخوان مصيبة الآن تحدث مصيبة عظيمة الآن في الواقع الآن يقولون نرخص لهم حتى يعني نجذبهم للدين، أي دين الذي تريد أن تجذبهم إليه؟ حتى ندخلهم للدين، ما هو هذه ادخلهم للدين من باب وتخرجهم من باب آخر، هذا ليس إدخالاً إلى الدين، أي يعني إنهم يريدونها فعلاً حقاً مخلوطاً بالباطل، إنهم يريدونها فعلاً مسخاً مشوهاً ليس دين الله الذي أنزله، يريدون شيئاً مشوهاً، دعوة الناس إلى مسخ مشوه آخر، ولذلك لا يجوز الإفتاء في دين الله بالتشهي والتخير وموافقة أهواء الناس، هكذا يقال للناس بصراحة هذا الدين أردتموه خذوه ما أردتموه الوزر عليكم، نحن ندعوكم إليه.
قال الحجاوي -رحمه الله-: "ولا يجوز له ولا لغيره تتبع الحيل المحرمة والمكروهة، ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه، فإن تتبع ذلك فسق وحرم استفتاءه، إذا وجدت أن هذا المجيب يريد أن يسهّل الأمور بالباطل يحرم استفتاءه"
وقال الأوزاعي: "من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام" [سير أعلام النبلاء: 7/125].
وقال سليمان التيمي: "لو أخذتَ برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله" [سير أعلام النبلاء: 6/198].
وقال أحمد كلاماً معناه: "من أخذ بقول بعض الكوفيين في النبيذ، وبعض المدنيين في السماع -يعني في الغناء- وبعض المكيين في المتعة كان فاسقاً" [سير أعلام النبلاء: 8/90].
قال إسماعيل بن إسحاق القاضي: "دخلتُ على المعتضد فرفع إلي كتاباً لأنظر فيه، وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء، واحد منافق متزلف مداهن يريد أن يدخل مع الخليفة في علاقات، فجمع له كتاباً فيه رخص العلماء، أي قول فيه جائز رخصة في مسألة فيها خلاف جمعه له في كتاب يتزلف به للخليفة، فقلت: "مصنّف هذا الكتاب زنديق، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب" [إرشاد الفحول: 2/254].
وأصلاً هذا الذي يرخص يُحتقر في أعين الآخرين ولو في الظاهر أثنوا عليه وشكروه على جهوده، لكنهم في الحقيقة يعرفون أنه طالب صيد ، طالب دنيا.

وضوح الداعية إلى الله وإعلانه بالحق

01:04:28

 إن الوضوح في الحق وإعلان الحق أمر مطلوب، وإذا كان الناس يطالبون اليوم بالشفافية والوضوح فأهل الدين أولى الناس بأن يعرضوا الدين بشفافية ووضوح.
إن البدء بتأسيس عظمة الله في القلوب مطلوب، وبدلاً من أن ينشغل البعض بقضية البدء بالمحرمات، فليبدأ بالكلام في العقيدة وما أوجب الله من الإيمان، ولذلك فإن الله لما دعا الناس في كتابه بدأ بماذا؟
تقول عائشة -رضي الله عنها-: "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبداً، لقد نزل بمكة على محمد ﷺ وإني لجارية ألعب: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ  [القمر: 46]. وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده" [رواه البخاري: 4993].
إن كلام عائشة هذا مهم جداً اليوم في منهج الدعوة، وتقديم الأهم فالمهم، لا بد أن نبدأ بموعظة الناس، لا بد تليين القلوب، لا بد من قضية الإيمان، وعظمة الله، واليوم الآخر، قبل أن تبدأ بقضية الحلال والحرام، لكن هل تقول عن الحرام حلالاً إذا سُئِلت؟ أبداً، تبين لكن أنت تبدأ بما بدأ الله به، وبما بدأ به رسوله ﷺ ورسل رسول الله ﷺ، والأسس والقضايا الكلية والقواعد قبل الجزئيات، وبعض الدعاة يغرقون في الجزئيات ويضيعون في الأسئلة، بينما كان الذي ينبغي صرف هؤلاء السائلين إلى الأصول، والقضايا الكبار.

توفير الداعية البيئة المناسبة للمدعو

01:06:45

 وإن توفير البيئة الطيبة من مسئولية الدعاة والمدعوين، يجب عليك يا أخي المدعو أن تساهم في تكوين البيئة الطيبة، وأن تكون عضواً فيها، وأن تكون جزءاً منها، وأن تحرص عليها وتحضر فيها وتشارك، إن مشاركتك غاية الأهمية في النجاح، إن ذلك العالم قد نصح قاتل المائة أن يترك أرضه لفساد من فيها، ويذهب إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم" [رواه مسلم: 2766].
ولذلك ينبغي عليك يا أخي المدعو أن تساعد الداعية في الوصول إلى هذه المحاضن، وإلى هذه البيئات الطيبة التي تعينك على معرفة الحق واتباعه.
الالتزام اليوم بالدين صعب بلا شك، اليوم التمسك بالإسلام فيه شيء من القبض على الجمر، غُربة، صعوبة، إغراءات، فتن، شبهات، إرجاف، تخويف، هناك تخويف اليوم من الالتزام بالإسلام، هناك تخويف اليوم، هناك إرهاب يشنّه الأعداء على من يتمسك بالدين بحيث الذي يريد من المدعوين أن يهتدي ويتمسك بالدين يخاف، إنهم يجعلونهم في أجواء فيها إرجاف يرجفون بهم، يخيفونهم، يرهبونهم ليصرفوهم عن الحق، وأنت عليك واجب -يا أيها المدعو- ألا تخاف في الله لومة لائم، وأن تقبل على الحق، وتتمسك به، وإن الذي يؤمنك اليوم لتخاف يوم القيامة لا خير فيه، لكن الذي يخوفك اليوم لتأمن غداً أرجه، وأقبل عليه، وبعض الناس يحب أن يسمع دائماً الأشياء الخفيفة السهلة.
وإن مما نجد أحياناً -مع الأسف- من بعض المدعوين أنهم إذا جيء بهم إلى عالم النكت والتسليات والطرائف والألعاب أقبلوا يهرعون، فإذا جيء بهم إلى عالم الفائدة والحق والموعظة شردوا هربوا، حادوا، نصف حضور أحياناً غياب كثير، لماذا؟ يجب على المدعو أن يكون حصيفاً، وعندما يدعى إلى شيء من هذه المناسبات أن ينظر ما هو الأكثر فائدة لي؟ ما هو الشيء الذي ينجيني يوم القيامة؟ ما هو الشيء الذي فيه أجر أكثر؟ ألسنا نريد لأجر؟ ألسنا نريد النجاة يوم القيامة؟ ألسنا نريد تثقيل الموازين؟ فبعضهم ينصرف إذا خير بين مناسبتين محاضرة وكرة يذهب للكرة للترويح، لكن اجعل له وقتاً لا يتعارض مع الدرس مع المحاضرة مع الكلمة الطيبة مع الاجتماع الطيب، بعضهم يحتج يقول: لا والله أنا مرتبط عندي ارتباط، واحد عنده ارتباط يعني سيحضر مجلس إدارة الآن يعني، فإذا بها مسابقة أتاري أو شغلات تافهة من الأشياء التافهة، يا أخي لا تبخل على نفسك بالحق، لا تبخل على نفسك بالأجر، وبعض الناس يريدها هكذا خفيفة، يقول: عندكم وجبة خفيفة سندوتشات، لو دعي أحدهم إلى عظم سمين لأجاب، وصلاة الجماعة أعظم لو يجد أحدهم عظماً سميناً أو مرماتين في المسجد لأجاب، لكن صلاة الجماعة لا يجيب، لماذا؟ إذن، القضية الآن ليست أن نذهب إلى الأفخم والأكبر، الذي فيه الأُبهة الأكثر والمظهر، المسألة أن نذهب لما يفيدنا أكثر، لما ينعش قلوبنا أكثر، لما يحي قلوبنا أكثر، لما يفيدنا أكثر، نسمع علماً قال الله وقال رسوله، نسمع فائدة ذكراً، ما أذهب إلى مكان يقسّي القلب أو إلى ضياع وقت، العمر أغلى من هذا يا إخوان.


صحيح أن المدعو يحتاج إلى ترفيه وتسلية، لكن المشكلة أن بعض الناس تجده قد يقضي في المدخل هذا سنين ولا يزال يترفه ويتسلى، ممكن واحد مثلاً مجالس العلماء أو مجالس العلم فيها أربعة أخماس من الأشياء العميقة وخمس من الأشعار وقصص العرب ويعني أشياء تروح عن النفس، لكن المشكلة بعض الناس ولا أربعة أخماس تسالي فكاهات، انظر الآن مواقع الإنترنت يا إخوان، مواقع الإنترنت مثلاً فيها أشياء مفيدة وأبحاث علمية وفقهية ومسائل وأسئلة وأجوبة ومقالات ويعني في بعضها مفيد للغاية، تجد هذه المواقع الإقبال عليها ضعيف، وتجد الإقبال على مواقع الدردشة والتسالي والطرائف والنكت، هذا هو السائد، أشرطة الدروس العلمية والمحاضرات المفيدة الإقبال عليها ضعيف، الأناشيد المهرجانات والله العظيم أغاني والله إن بعضها أغاني، والله إن بعضها محرمة، وأقسم بالله العظيم أن بعض الأناشيد التي يقولون عنها إسلامية إنها فسق فسق، وأن بعض المؤثرات والله أرسل لي واحد رسالة بالجوال يقول لي: أنا شاب تبت إلى الله كنت أعزف على سبع أدوات موسيقية، ولما سمعت بعض الأناشيد التي يسمونها إسلامية ومقدمات بعض الأشرطة إنها نفس الذي كنا فيه، إنها نفس الذي كنا نعزف عليه، نفس الآثار، نفس النتائج، هو هو، قضية النشوة والطرب واللذة التي تحدثها الموسيقى والغناء هو نفسه، لا داعي للتلاعب واللف والدوران، العلماء قالوا: إنشاد الأشعار على مثل حداء العرب، فهمنا بعض الأشياء، هو لا بد من أن يكون على لحن معين لكن المؤثرات بعض هذه المؤثرات هي نفسها أدوات نفس نتيجة الأدوات الموسيقية اللي قال مضخمات وديجيه، ديجيه إسلامي، نعم، وهناك دسكو إسلامي!؟ شوربة أصلاً، والله العظيم مهزلة  أو واحد قال: أنا أعطيت أشرطة أناشيد شريط من هذه لواحد، قال لي واحد: يا شيخ خذ انظر هذا يجوز أو ما يجوز، أنا ما أعرف في المؤثرات، واحد أعرفه من قديم طالب في مدرسة ليس متديناً خذ اسمع لي هذا بالله، انظر رأيك في هذا؟ أنت تتذوق هذه الأشياء، فرد عليه قال والله إذا كان هذا التدين تبعك هذا والله هذا أنا مستعد أترك الأغاني كلها لأسمعها؛ لأن المسألة فعلاً وجد بديلاً، وهكذا يُعرض اليوم التدين بأسلوب ساقط، هذا ما هو تدين، يعرض التدين بأسلوب يا ليت المسألة والله مثلاً نعرض الدين بطريقة المسابقات مثلاً ممكن تعرض المسابقات في القرآن والسنة وتعملها مسابقات وأشياء وجوائز ودع الناس تفرح وتأتي، ودعاية وأسلوب جذاب في عرض المسابقات في القرآن والسنة، لكن المسألة ما صارت خرجت الآن عن هذا وصارت المسألة شيئاً آخر، المسألة هي جنة ونار ونجاة، إن هذا الدين قول فصل، وليس بالهزل، خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [البقرة: 63]. ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة: 208]. ولذلك المدعو الذي يعرف هو طريق الدعوة طريق الدين واضح، هو طريق الكتاب والسنة شيء واضح.

حاجتنا لوجود الداعية القدوة

01:15:04

 إنا نحتاج فعلاً للاقتداء بنماذج من الدعاة السابقين من الأنبياء والصديقين  وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت: 14]. وليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً، وصبر مع أنهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً، وأعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً، ودعوتهم جهاراً، كل ذلك من نوح عليه السلام بالرغم من الصد والرد.
وهكذا حرص إبراهيم على هداية أبيه، ويا أبت، يا أبت يا أبت، وترغيب وترهيب ومناقشة عقلية، لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم: 42].  يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ [مريم: 45] إشفاق، بيان الإشفاق عليه، وسلام عليك سأستغفر لك ربي، الترغيب والترهيب، وإبراهيم ويعقوب بالحرص على الذرية، ولما حضر  وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [البقرة: 132].  أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [البقرة: 133]. ويوسف لم يترك الدعوة مع أنه كان في السجن، ويقول: يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ [يوسف: 39]. ما قال: يا أيها المجرم أنت و هذا الآخر، يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ  [يوسف: 39]. صاحبي هو ليس له صداقة مع الكافر ومودة مع الكافر، لكن هو صحبة السجن، وهو يقول:  يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ  [يوسف: 39].
ومؤمن آل ياسين من أقصى المدينة رجل يسعى  اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس: 21، 22]. وهكذا كانت النتيجة يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي  [يس: 26، 27]. والنبي ﷺ يصعد الجبل وينادي قريشاً ومواسم الحج، ويمر عليهم وراءه عمه أبو لهب الأحول يقول، أحول في المعتقد، وأحول في البصر، يعني جمع الحولين جميعاً، فيقول: هذا يأمركم أن تدعوا دين آبائكم لا تصدقوه كذاب، والنبي ﷺ يذهب يدعو اليهودي المريض، والمشرك الذي أراد قتله، ومصعب بن عمير يفتح المدينة مع ابن أم مكتوم بالقرآن وليس بالسيف، وهكذا يدعو زعماء الأوس والخزرج، ومالك بن دينار دخل عليه لص، فما وجد ما يأخذ، البيت لا يوجد فيه مال، لا يوجد شيء يؤخذ، فأحس به مالك فناداه فقال: لم تجد شيئاً من الدنيا، فترغب في شيء من الآخرة؟ قال: نعم، قال: توضأ وصل ركعتين، ففعل اللص، ثم جلس وخرج معه إلى المسجد، فرأى الناس مع مالك بن دينار شخص غريب ما هو من أصحابه، ولا من طلابه وشكل لص، قال: فسألوه من ذا؟ قال: "جاء ليسرق فسرقناه".[سير أعلام النبلاء: 5/363].
وعبد القادر الجيلاني -رحمه الله- كان في أول أمره معتزل الناس وفي البراري لما جرب الدعوة ورأى النتائج، هو تمنى ألا يرى الخلق ولا يروه من جهة أنه لا يريد منهم جزاء ولا شكوراً، قال: "ثم أراد الله مني منفعة الخلق، فيقول لتلميذه خاصة كلاماً خاصاً، فقد أسلم على يده أكثر من خمسمائة، وتاب على يده أكثر من مائة ألف، وهذا خير كثير، ترد علي الأثقال التي لو وضعت على الجبال تفسخت، مواقف شديدة في الدعوة وصد فأضع جنبي على الأرض وأقول: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح: 6]، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح: 6]. ثم أرفع رأسي وقد انفرجت عني. هذا محمد بن عوف الإمام محدّث حمص يقول: "كنت ألعب بالكرة وأنا حدث صغير، فدخلت الكرة فوقعت قرب المعافى بن عمران الحمصي، فدخلتُ لآخذها، و هذا محمد بن عوف قال عنه الذهبي في السير: "الإمام الحافظ المجوّد محدّث حمص، كان عالماً بحديث الشام صحيحاً وضعيفاً" [سير أعلام النبلاء: 12/613].


عن أحمد بن حنبل: "ما كان بالشام منذ أربعين سنة مثل محمد بن عوف، وصفوه بالحفظ والعلم والتبحّر" [سير أعلام النبلاء: 12/615]. كيف صار هكذا؟ قال: "كنت ألعب بالكرة -الكرة هذه رياضة قديمة-، وأنا حدث فدخلت الكرة فوقعت قرب المعافى بن عمران الحمصي محدّث كبير، فدخلتُ لآخذها، فقال: ابن من أنت؟ قلت: ابن عوف بن سفيان، قال: "أما إن أباك كان من إخواننا محدّث، فكان ممن يكتب معنا الحديث والعلم، والذي كان يشبهك أن تتبع ما كان عليه والدك، خليق بك أنك تتبع، فصرتُ إلى أمي فأخبرتها، فقال: صدق، هو صديق لأبيك، فألبستني ثوباً وإزاراً، ثم جئت إلى المعافى ومعي محبرة وورق، فقال لي: "اكتب حدثنا إسماعيل بن عياش عن عبد ربه بن سليمان، قال: كتبت لي أم الدرداء في لوحي أطلبوا العلم صغاراً تعملوا به كباراً، فإن لكل حاصد ما زرع. [تاريخ دمشق لابن عساكر: 55/49].
إذا كان أهل الباطل يعتنون بأصحاب الطاقات ليدعونهم للباطل، فكيف بأهل الحق في الدعوة.
يقول الذهبي: ابن المعلم الباطني الخبيث، يقول: "كان من أحرص الناس على التعليم، يدور على المكاتب"، انظر ابن المعلم، هذا الباطني الخبيث يدور على المكاتب، مكاتب كانت مثل مدارس الناس اليوم بالابتدائي، وحوانيت الحاكة، فيتلمح الصبي الفطن، فيستأجره من أبويه فيضله، وبذلك كثرت تلامذته" [سير أعلام النبلاء: 17/344].
انظر كيف البحث؟ أهل الباطل يدور على الصبي الفطن فيستأجره من أبويه يقول له خذ مالاً وهات الولد عندي أنا اعتني به وأنا أنفق عليه، وأنا ...، وكثر تلاميذه بهذا يختارون أهل النجابة ولا يزالون يفعلون ذلك في البعثات الخارجية، ويقتنصون الطلاب والأذكياء وأصحاب المواهب.

انتشار الإسلام بالدعوة في أقصى الأرض وغربها

01:21:41

 إن الإسلام انتشر بالدعوة، ألم تر أن جزر اللكديف والمالديف دخلت في دين الإسلام بالدعوة، وليس بالقتل والسيف، يقول توماس أرنلد: وأغلب الظن أن الإسلام قد عبر عن مليبار إلى جزائر لكديف ومالديف في خليج بنغالة التي كافة أهلها مسلمون، ويدين سكان هذه الجزائر بدخولهم في الإسلام إلى التجار من العرب والفرس المسلمين الذين استوطنوا هذه البلاد وتصاهروا إلى الأهالي ومهدوا بذلك السبيل لنشر تعاليم الدعوة في نشاط وقوة، ويقولون هم باعترافهم الغربيون كما يقول "قستا فلوبون": والمسلم حيث يمر يترك خلفه دينه، يعني لا بد يترك بصمة وأثر، وقد بلغ أشياع النبيﷺ ملايين كثيرة في البلاد التي دخلها العرب بقصد التجارة، لا فاتحين كبعض أجزاء الصين، وإفريقيا الوسطى وروسيا، وتم اعتناق هذه الملايين الإسلام طوعاً لا كرهاً.
لقد كانت الجهود عظيمة في الدعوة في أي مكان، هذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لما سجن بمصر في سنة سبعمائة وسبعة أخذ يعلّم السجناء، ويرشدهم، ويعظهم بالأساليب الحكيمة، فهدى الله على يديه خلقاً كثيراً في السجن، وكانت تأتيه الفتاوى المشكلة فيشرح عليها بما يحير العقول من الكتاب والسنة، وسجن في الإسكندرية سنة سبعمائة وتسعة فاستفاد أهل الإسكندرية كلهم، ويقول توماس أرنولد: حتى الأسير المسلم يغتنم الفرصة في المناسبات بدعوة آسريه أو إخوانه في الأسر إلى دينه، وذكر أمثلة فقال: وقد تسرّب الإسلام إلى أوروبا الشرقية في أول الأمر بفضل ما قام به فقيه مسلم سيق أسيراً جيء به إلى بلاد "بتشنج" في مستهل القرن الحادي عشر، وبسط عليهم تعاليم الإسلام فاعتقدوه، ولم تأت نهاية القرن الحادي عشر حتى كان الشعب بأسره قد اعتقد الإسلام وكان من بينهم مسلمون تعلموا الفقه والتوحيد، وفي عهد الإمبراطور جهن جير كان هنالك عالم سني من علماء التوحيد يدعى الشيخ أحمد مجدد في خلال السنتين اللتين قضاهما في السجن أدخل في الإسلام عدة مئات من عبدة الأوثان الذين كانوا يرافقونه في السجن، ولما نفت الحكومة البريطانية أحد علماء الهند إلى جزر "إندمان" نفياً مؤبداً دخلت الجزيرة في الإسلام، وهكذا يقول بعضهم في إفريقيا حكم البلجيكيون على مسلم بالإعدام داعية، فقضى المسلم ساعاته الأخيرة وهو يحاول إدخال النصراني؛ رجل الدين الذي جاء قبل الإعدام، يعني يؤتي بواحد رجل دين يزجي إليه التعزيات الدينية، يصبّره، فالمسلم حاول قبل حبل المشنقة ساعات في هذا النصراني أن يسلم قبل أن يموت -رحمه الله-، وذهب بعضهم إلى جنوب إفريقيا وشاهدوا أماكن عجيبة جبل مرتفع صعب جداً، قال: لما صعدنا أخذ منا مدة طويلة وانقطعت أنفاسنا حتى وصلنا كالين متعبين في النهاية، قالوا: هذا الجبل كان هنا داعية مسلم يصعده في اليوم عشر مرات للدعوة، وهذا المكان هذا انتشار الإسلام في جنوب إفريقيا من أجل فلان وفلان الداعية الذي كان في هذا المكان، إنها همم، وإذا كان الإنسان الداعية لا يعدم حيلة ولا يعدم طريقة للتأثير، أحد المشايخ شيخ داعية كان معه طلاب في إحدى البلدان العربية في مدينة من المدن، وكان فيها إنسان خبيث فاسق عاصي عاق لحام عنده شواء، فاتح ملحمة وشواية، يشوي لحماً ويبيع، ومن سوئه أنه كان يشغل أمه في ضم اللحم في الأسياخ وإذا هو شال الأسياخ من الشواية وما حصل الأسياخ الثانية جاهزة للشواء، أخذ السيخ المحمي يضرب على أصابع أمه بالسيخ المحمى بالنار، لماذا تباطأت عن ضم اللحم في البلاستيك؟ فهذا الشيخ نوى أنا أو هو، فقال لطلابه: أمكثوا قريباً من الدكان، وذهب هو إلى هذا الشخص سلّم عليه قال: ماذا تريد قال: أريدك أن تدلني إلى المسجد، قال: اذهب من وجهي، قال: أنا أسأل أين طريق المسجد، قال: اذهب أحسن لا أضربك، فلا زال به وهذاك يجيله الزبائن في النهاية خاف على الزبائن، ولكي يتخلص منه، قال: اذهب كذا ولف هناك تجد المسجد، قال: شكراً يا أخي  تعالوا وجاء الطلاب، قال: هذا دلني على المسجد، قالوا: أنت دللتَ الشيخ، وجزاك الله خيراً، وأنت... وأخذوه وحملوه، قال: والله ما تذهب المسجد اليوم إلا على أكتافنا، وحملوه ومشوا به وهو في غمرة الدهشة ودخلوا المواضئ وقالوا: ولا تتوضأ نحن نوضئك، أنت أصلاً علمت شيخنا طريق المسجد أنت صاحب معروف، ووضوؤه وربما غسلوه بعد، ودخلوا به المسجد ومع المسجد وصلى الرجل أول صلاة في حياته وعرف الطريق بعد ذلك، فنحن اليوم نريد من المدعوين حقيقة الانصياع للحق؛ لأن المدعو يعرض عليه الحق، لماذا لا يقبله؟ يعني أحياناً نستغرب يا أخي، واحد يقدم له نصيحة، يعرض عليه الخير، يقدم له الحق، خلاص يتبعه، لماذا يتعب الداعية ويلف ويدور ويتغيب ويعتذر، وأحياناً تكون أعذار واهية، يعني الغلام كان يدور، الغلام في قصة أصحاب الأخدود، كان يدور بين الراهب يقول الساحر، هو يذهب للراهب يتعلم منه الحق والتوحيد، وإذا أهله قالوا ما لك تأخرت؟ قال: حبسني الساحر، وإذا تأخر من الساحر غضب عليه قال: حبسني أهلي [رواه مسلم: 3005].


اليوم بعض الناس يأتي الداعية يدعوه للحق يغيب يعتذر، أين أنت؟ قال: والله أهلي كانوا طالبين مني أشياء وكنت مشغولاً، وهو كذاب لا طلب أهله أشياء ولا شيء أصلاً، وإذا لقي واحد من أهله قال: والله فلان كان يقول إنه عندكم، قال والله نطلب أغراضاً نطلب أشياء ما يجيبها لا يجيبنا ولا يسمع الكلام ، هذا نحن الذي نأتي له أغراضه أصلاً ما يخدمنا ولا يتعرف علينا، فإذن، القضية هكذا؛ أهلي كذا كذا، يا أخي تعال نذهب إلى الدرس نذهب كذا محاضرة نحفظ القرآن نجلس مجلساً، وعندنا دراسة عندنا اليوم، هناك اختبار كان غداً، هناك غداً اختبار مفاجئ، وكيف صار مفاجئاً إذا كنت تعرف أن هناك اختبار؟، وبعضهم تعذر بمواعيد، مشغول عندي ارتباط مهم، ارتباطات مهمة، ما أدري ما هذه الارتباطات، الله -عز وجل- قال هناك ارتباطات مهمة، نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ [الإنسان: 28]. يعني شددنا أسرهم، النظام العصبي الموجود في الإنسان، الارتباطات هناك ارتباطات مهمة، وهناك ارتباطات تشعبية، وكل المصطلحات الرياضية، لكن هذه قضية التهرب التي يعمد إليها بعض المدعوين، مسألة التعذر السخيف، أو أنهم يعبدون الدنيا أو ربما يعبدون الدراسة، وخطأ أنك أنت يتردى مستواك الدراسي، يتردى مستواك الدراسي بالإقبال على كل المناسبات والأشياء، في وقت الامتحانات لا يقال لك والله الآن لا بد تحفظ صحيح البخاري، والجمع بين الصحيحين، لكل حادث حديث، ولكل شيء ما يناسبه، والآن أول السنة الدراسية، الوقت فيه سعة مثلاً، والاختبارات ليس يتحمل الوضع أن تزيد أكثر مثلاً في تعلم الهداية، تعلم الدين، الاقتداء، مصاحبة الصالحين، حضور المناسبات الخيرة، طلب العلم، هناك مجال، إذا اقتربت الاختبارات أنت تزيد في المذاكرة، وعند الاختبار يمكن تعتكف، قد لا تخرج إلا لصلاة الجماعة، وأنت معذور، وما أحد يطلب منك أكثر من هذا، وخطأ أصلاً أنك وقت الاختبارات تنشغل بأشياء أخرى من الطاعات؛ لأن هذا قد يكلفك أشياء تقضي على بعض الطاعات في المستقبل؛ لأن المسألة إذا انعكست صارت ثمارها سيئة، فإذاً أنت تنتقي الأوقات المناسبة فتزيد النشاط في الأمور الخيرية وأوقات أخرى يكون النشاط محصوراً في الدراسة والموازنة بين الأمور والواجبات هذه مفروغ منها، واجبات دراسية لا بد أن تحل وخطأ الانشغال عن الواجبات الدراسية، صحيح الدراسة أحياناً صعبة  وتحتاج إلى مجهود، لكن في أوقات كثيرة مهدرة في الحقيقة، عندنا أوقات كثيرة في أعمارنا تذهب هدراً هذه أولى أن تستثمر في الدعوة إلى الله، الاستهزاء والمعاندة سلوك سيء من المدعو أن يصد، وربما يجي واحد يدعوه إلى الله يقول فقط ابتعد أنت متطرف، أنت إرهابي، يا أخي أنا جئتك بالكتاب والسنة، ما جئتك بتفجير ولا تدمير ولا تخريب، أنا جئتك بالسِّلم، جئتك بالأخلاق، جئتك بالرفق، ولكن بعض الناس -سبحان الله العظيم- من سوئهم تراه يرد، يرد الداعية، أقل شيء المدعو يكون عنده ذوق، لو الداعية جاء وهو لا يثني عليه، طيب يا أخي جزاك الله خيراً، والله جئت أنت تنصحنا والله نحن مقصرين واحنا، هذا أقل ما يقال، لكن نحن نريد خطوات أكثر من هذا، نريد أن المدعو يتقبل ويعمل  ويتفاعل ويستجيب ويكون يعني على مستوى المسئولية، ثم يا إخوان الآن الدين والله في خطر، نحن الآن نعاني، وكلنا لازم نكون دعاة، خطأ يقول هذا مدعو وهذا ما يدعو وهذا الداعية يدعو والمدعو ما يدعو، كلنا دعاة، لا تقسيم، كلنا دعاة، هذه الحقيقة، يجب علينا جميعاً اليوم أن نكون دعاة جميعاً، أن نكون دعاة جميعاً، وأن نتنافس في الخير، وقد يأتي إنسان يشتكي أحياناً يقول وقد تنافس علي الدعاة وأنا ضعت وأنا كذا، نقول أرادوا الخير، لا بد أن تعتقد أنهم أرادوا الخير، ما تنافسوا معك أو عليك إلا في الخير، وأرادوا الخير، ولذلك أنت تعذرهم، كل يريد الأجر، وكل يريد الخير، والإنسان المسلم يتبصر ويتخير الأنفع له والأكثر فائدة له، ويكون علاقته حسنة مع الجميع، ولذلك إذا جاءك واحد يحذرك من داعية إلى الله فهو مجرم، يجب علينا جميعاً كل الدعاة إلى الحق ما دمنا من أهل السنة والجماعة أن تكون علاقتنا ببعضنا حسنة أخوة إسلامية، لقيته سلم عليه، مرض عده، استنصحك انصحه، دعاك أجبه، عباد الله كونوا عباد الله إخواناً.
وأيضاً فإننا نذكر بأن المسلم يقبل الحق ويتبع الحق أين ما كان، وهذا شيء جرّد نفسه له، ونلتقي كلنا على الحق دعاة ومدعوين، ونكون في سبيل الله إخواناً متحابين.
اللهم اجعلنا إلى سبيلك دعاة يا رب العالمين، وفي سبيلك متجالسين ومتحابين، اللهم اجمع قلوبنا على الحق.