الثلاثاء 8 شوّال 1445 هـ :: 16 أبريل 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

الوضوح في نهج الداعية


عناصر المادة
منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في التوضيح والبيان
أهمية بيان حال أهل البدع والرد عليهم
بيان الحق ورد الباطل لا يعني القسوة وإساءة الأدب
بيان الخطوط الفاصلة بين الإيمان والكفر
منابع الوضوح في حياة الداعية
الداعية مطالب بإقامة حجة الله
وضوح هدف الداعية ومراعاته للأولويات
الوضوح في الفتوى
الوضوح في جرح وتعديل الرواة
جمع العلماء بين قول الحق ومراعاة المصلحة
أضرار عدم الوضوح في الدعوة
لا التقاء للحق مع الباطل
الفرق بين التهور والوضوح
الفرق بين المداراة والمداهنة

منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في التوضيح والبيان

00:00:06

موضوع مهم من موضوعات التربية الإسلامية التي ينبغي على الشخصية الإسلامية أن تتبين فيها، وأن تسير على قواعد وضوابط محددة في هذه القضية خصوصاً في العصر الذي نعيش فيه.

ومن تأمل خطب النبي ﷺ في المناسبات المختلفة كيوم عرفة ويوم النحر، ونحو ذلك، عرف منهجه ﷺ وطريقته في التوضيح والتبيين، لم يكن في دعوته غموض، ولذلك عارضوه من فجر الدعوة، مع أنه ﷺ كان يمكن أن يسلك سبلاً أخرى بعيدة عن مواطن الاحتكاك، وأن يبدو كمصلح اجتماعي أو اقتصادي ينادي بتوزيع الثروة بشكل عادل، أو معالجة بعض الظواهر الخطيرة في المجتمع، ولكنه كان يريدها دعوة شاملة، إلى "لا إله إلا الله"، ولذلك فإن كفار قريش أزعجهم ذلك غاية الإزعاج؛ فروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "ما رأيت قريشاً أصابت من رسول الله ﷺ فيما كانت تظهر من عداوته"، لما سئل هذا السؤال عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: "حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحجر، فذكروا رسول الله ﷺ، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله ﷺ، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فلما أن مر بهم غمزوه ببعض ما يقول، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى فلما مر بهم طائفاً بالبيت، فلما أن مر بهم غمزوه ببعض ما يقول، قال: فعرفت ذلك في وجهه، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فقال: تسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتم بالذبح ، فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه وصاة من قبل- يعني بالأذى- لَيَرْفَؤُهُ بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول انصرف يا أبا القاسم انصرف راشداً، فوالله ما كنت جهولاً" [رواه ابن إسحاق في السيرة بإسناد حسن، ص: 229].

لقد كان ﷺ واضحاً عندما يرد على المشرك الذي يقول له وهو يفت العظم البالي: أيبعث ربك أو يحيي ربك هذا؟ فيجيبه بالإيجاب بوضوح، ويناظر نصارى نجران، ويقول: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [آل عمران: 59] بل دعا للمباهلة: فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران: 61].

كان واضحاً غاية الوضوح في تبليغ الشريعة، وبين التعريفات للأمور التي قد تخفى، وقال: أتدرون ما الغيبة؟  قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:  ذكرك أخاك بما يكره  [رواه مسلم: 2589].

ويجيب على الإشكالات، أفرأيت إن كان في أخي ما أقول، قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته  [رواه مسلم: 2589].

 ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب [رواه البخاري: 6114، ومسلم: 2609].

ويورد لهم التقسيمات: اثنان، وثلاثة، وأربعة، وخمسة، وستة، وسبعة، وهكذا من الأعداد، وهؤلاء  سبعة يظلهم الله  [رواه البخاري: 660، ومسلم: 1031]، وهؤلاء  ثلاثة يحبهم الله ، وهؤلاء أربعة كذا، ويقسم ويورد التفصيل.

ويستفصل من المستفتي، ويأتي إليه الشخص يقول: يا رسول الله ذلك الأعمى يسأل ليس لي قائد يقودني إلى المسجد؟ رخص لي في الصلاة في البيت؟ فرخص له، فلما ولى دعاه، قال: هل تسمع النداء للصلاة؟ ، قال: نعم، قال: ((فأجب)) [رواه مسلم: 653].

وهكذا لما جاءه رجل، فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة؟ اسم موضع، فقال النبي ﷺ: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟  قالوا: لا، قال رسول الله ﷺ: أوف بنذرك [رواه أبو داود: 3313، وهو حديث صحيح، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 3437].

ولأجل التوضيح يضرب الأمثال، ويقول: مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كمثل صاحب المسك وكير الحداد، لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه، أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بدنك، أو ثوبك، أو تجد منه ريحاً خبيثة  [رواه البخاري: 2101].

وإذا دعت الحاجة إلى إعادة الكلام يعيد الكلام للتوضيح والتبيين، كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تفهم عنه، إما لصعوبة معناها، أو لغرابته عند السامعين، أو لكثرتهم، يكرر الكلام للحاجة.

وإذا سلم سلم ثلاثاً، يعني مثل أن يكون المجلس كبيراً لا يسمع أهله كلهم السلام، فيسلم على أوله، ثم إذا مشى إلى وسطه سلم، ثم إلى آخره سلم.

وكان ﷺ لأجل الإيضاح والتبيين يستنصت الناس لأجل سماع الكلام في المجامع العظيمة، ويقول للصحابي: استنصت الناس ثم يعلنها لما صمتوا ليسمعوا كلامه: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض  [رواه البخاري: 121، ومسلم: 65].

وكانت تلك الخطبة العظيمة التي بين لهم فيها مناسكهم، وكان يوجز، ولا يسرع في سرد الكلام، لئلا ينسي آخره أوله، وقالت عائشة: "كان النبي ﷺ يحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه" [رواه البخاري: 3567].

ولم يكن يسرد الحديث كسردكم، كما قالت رضي الله عنها، ولكنه كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه [رواه الترمذي: 3639، وهو حديث حسن] فلم يكن يتابع الحديث استعجالاً بعضه إثر بعض لئلا يلتبس على المستمع.

وكان ﷺ يعطي الحلول للمشكلات، ويجيب على الأسئلة بكل وضوح "قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك؟ يقول: قل آمنت بالله فاستقم  [رواه مسلم: 38].

"إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به؟ قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله  [رواه الترمذي: 3375، وابن ماجه: 3793، وقال الألباني: "صحيح" كما في صحيح الترغيب والترهيب: 1491].

وكان ينهى عن التشدق في الكلام، وعن اختيار الألفاظ المبهمة، ولم يكن يعجبه الإلغاز، ويكره الأغلوطات، ويكره المسائل الغامضة، ويكره التفاصح؛ لأنه دليل التكبر، كما قال: إن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون ، قالوا: فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون  [رواه الترمذي: 2018، وحسنه  الألباني في السلسلة الصحيحة: 791].

الثرثارون يكثرون الكلام تكلفاً وخروجاً عن الحق، والمتشدقون المتكلمون بملء الشدق تفاصحاً.

وهكذا فإنه عليه الصلاة والسلام لأجل وضوح التبيين يرفع صوته عند الحاجة، ولما رهقتهم الصلاة وهم يتوضؤون ويسمحون على أرجلهم، وخشي أن لا يصيب الماء الأعقاب نادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار  مرتين أو ثلاثاً [رواه البخاري: 60، ومسلم: 241].

وعندما تكون الموعظة يرفع صوته ويعلو، ذلك الصوت فوق المنبر، يذكر الساعة ويشتد ويحمر وجهه ﷺ.

كان يوضح بالفعل كما يوضح بالقول، ويصعد المنبر ويصلي عليه، يصلي فوق المنبر ويكبر ويركع، وينزل القهقرى، ويسجد في أصل المنبر ثم يعود ويقول لهم بعدها: إنما صنعت هذا لتأتموا ولتعلموا صلاتي  [رواه البخاري: 917، ومسلم: 544].

يتوضأ أمامهم، ويقول: من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه [رواه البخاري: 159، ومسلم: 226].

التعليم بالفعل، كذلك يكون بالقول أيضاً.

وربما فعل الفعل أمامهم لئلا يجدوا حرجاً، فمر عليه الصلاة والسلام بغلام مرة وهو يسلخ شاة، فأراد أن يعلمه حتى في أمور الدنيا، وكيف يكسب عيشه، فقال له رسول الله ﷺ: تنح حتى أريك  كيف تسلخ الشاة، فأدخل يده بين الجلد واللحم فدحس بها حتى توارت إلى الإبط، ثم مضى فصلى للناس ولم يتوضأ [رواه أبو داود: ، وعنون عليه: "باب الوضوء من مس اللحم النيء وغسله" [رواه أبو داود: 185، وابن ماجه: 3179، وقال الألباني: "إسناده صحيح"؛ كما في صحيح أبي داود: 179] يعني هل يجب الوضوء من مس اللحم النيء أم لا؟

فيتبين من الحديث أنه لا يجب.

وعند الحاجة إلى الاستفصال يستفصل ولو بالكلمة التي لا تقال في غير هذا الموضع، كما سأل ماعزاً: لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟ ، قال: لا يا رسول الله، فقرره باللفظ الصريح للوطء [رواه البخاري: 6824، ومسلم: 4969] لا يكني فيه؛ لأن المسألة تتعلق الآن بإزهاق روح  شخص.

ويستخدم الوسائل للإيضاح، ويخط خطوطاً على الرمل، خط مرة خطوطاً، وقال: «هذا الأمل وهذا أجله، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب)) [رواه البخاري: 6418].

خط مربعاً، وخط خطاً في الوسط خارجاً من المربع منه، وخط خططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض  مرض، حادث، قتل في معركة، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا  [رواه البخاري: 6417].

وخط مرة ﷺ خطاً بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيماً ، ثم خط عن يمينه وشماله، ثم قال: ((هذه السبل، وليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153]. [رواه أبو داود: 241، وأحمد: 4437، وقال محققو المسند: "إسناده حسن"].

وكان ﷺ يرد على المخطئ، وينفد المزاعم غير الصحيحة من باب التبيان والتوضيح، ف "رد على عثمان بن مظعون التبتل" [رواه مسلم: 1402] ترك النكاح، ورفض ﷺ هذا المنهج. ورد على من حرم بعض المطاعم والمناكح، وعلى المنبر وذكر الناس، وقال: والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي  أي قال: لا آكل اللحم، لا أفطر، لا أنام، لا أتزوج  فمن رغب عن سنتي، فليس مني  [رواه البخاري: 5063، ومسلم: 1401].

ولما يسمع رجلاً يقول له: ما شاء الله وشئت، يغضب، ويقول: أجعلتني لله نداً، بل ما شاء الله وحده [رواه البخاري في الأدب المفرد: 783، والطبراني في الكبير: 13005، وقال الألباني: "صحيح" كما في السلسلة الصحيحة: 138]، فيخطئ الخطأ، ويقرر الصواب، ويرد الباطل حتى ولو في حق حيوان بهيم لا يفهم، قالوا: "خلأت القصواء"، يعني حرنت جلست عاندت، قال: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق  أعرف دابتي لا تتمرد علي، فيه سبب خارجي، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل [رواه البخاري: 2731] من هو حابس الفيل؟ الله .

أهمية بيان حال أهل البدع والرد عليهم

00:17:15

وكان أصحابه يمتثلون هذا الخط، ويقومون بالصدع بالحق وسط الكفار، ويردون على أهل البدع ويقاومونهم، ويقول عبد الله بن عمر لمن بلغه أنه يكذب بالقدر ويتكلم فيه، قل لهم: إني بريء منهم، وأنهم براء مني، لموقفهم من القدر عندما ينفون علم الله السابق، ويبتدعون في دين الله.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "من حق الله على عباده رد الطاعنين على كتابه ورسوله ودينه، ومجاهدتهم بالحجة والبيان والسيف والسنان، والقلب والجنان، وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان"[هداية الحيارى: 1/232].

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مبيناً أهمية البيان ورد الباطل، وكشف حال أهل المبتدعة، وتبيين أحوال الرواة في أسانيد الحديث نصحاً للأمة، وبياناً للأمر، يقول: "وإذا كان النصح واجباً في المصالح الدينية الخاصة والعامة مثل نقلة الحديث الذين يغلطون أو يكذبون كما قال يحي بن سعيد: سألت مالكاً والثوري والليث بن سعد عن الرجل يتهم في الحديث أو لا يحفظ، فقالوا: بين أمره، وقال بعضهم لأحمد بن حنبل: إنه يثقل علي أن أقول فلان كذا، وفلان كذا"، هؤلاء عباد زهاد أصحاب سوابق في الخير يثقل علي أن أبين أمرهم أو خطأهم، فقال: "إذا سكت أنت، وسكت أنا، فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم"، قال: "ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة، فإن بيان حالهم، وتحذير الأمة منهم، واجب باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل" [مجموع الفتاوى: 28/231].

-طبعاً- ليس المقصود التبديع بالباطل كما هي حرفة بعضهم اليوم، يبدعون بالباطل، ويكيلون التهمة بالبدع للدعاة جزافاً، ويطلقون التهم الباطلة بالبدعة عليهم، فهؤلاء أولى بالتبديع ممن يتهمونهم، لكن عندما يكون التبديع بحق، وبيان حال المبتدعة بحق، فإن الكلام فيهم نصح لله ورسوله ودينه وللمسلمين، قال شيخ الإسلام عن كلام أحمد -رحمهم الله-: "فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب" [مجموع الفتاوى: 28/231- 232].

إذا قام المبتدعة تسلطوا على الدين فسادهم أعظم من تسلط الكفار على البلاد والمدن، قال: "فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب"؛ لأن المسلمين السكان يكرهون المحتلين "لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداءً" [مجموع الفتاوى: 28/232] أي أهل البدعة.

ثم ذكر أن أعداء الدين نوعان: الكفار والمنافقون، وأن الله أمر بجهاد الطائفتين، وأن من المنافقين من يقولون البدع، ومن المسلمين سماعون لهؤلاء المنافقين الذين  يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ  [التوبة: 47].

ثم ذكر وجوب تبيين حالهم، قال: "فلا بد أيضاً من بيان حال هؤلاء، بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم، فإن فيهم إيماناً يوجب موالاتهم" يعني هؤلاء منافقون أو متأثرون بكلام المنافقين، لاحظ شيخ الإسلام فصل تفصيلاً عجيباً، قال عن هؤلاء المنافقين والذين يسمعون كلامهم معلقاً على الآية: لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ  [التوبة: 47]، قال: "فلا بد أيضاً من بيان حال هؤلاء، بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم، فإن فيهم إيماناً يوجب موالاتهم، وقد دخلوا في بدع من بدع المنافقين التي تفسد الدين، فلا بد من التحذير من تلك البدع وإن اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم، بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدع عن منافق، لكن قالوها ظانين أنها هدى، وأنها خير، وأنها دين، ولم تكن كذلك لوجب بيان حالها" [مجموع الفتاوى: 28/233] يعني فيه ناس من المسلمين يقولون بكلام خاطئ ويظنونه صحيحاً، مقصدهم طيب، ونيتهم حسنة، هل نيتهم الحسنة تبرر السكوت عن خطأهم؟

لا؛ لأن بيان الدين، يعني بيان الحق أهم من مجاملة الأشخاص.

بيان الحق ورد الباطل لا يعني القسوة وإساءة الأدب

00:25:02

لكن المشكلة أن بعض الناس إذا أراد أن يبين الحق، ويرد الباطل أساء واعتدى، وقل الأدب، واشتد على هذا النوع من المخطئين، لاحظ ابن تيمية الآن تدرج، قال: فيه كفرة واضحين، مبتدعة واضحين، فيه منافقين، هنالك منافقون، هنالك ناس سماعون للمنافقين، هنالك ناس مقاصدهم طيبة يقولون البدعة، وربما ما سمعوها من منافق، ما تلقوها من منافق، لكن تأثروا بها بطريقة أو بأخرى وقالوها، وقصدهم حسن، ونيتهم طيبة، مع ذلك لا يسكت عنهم، ويبين حالهم لأجل مصلحة الدين؛ لأن مصلحة الدين أهم من مصلحة الأشخاص. لكن المشكلة -يا إخوان- المصيبة أن طريق التبيين الخطأ في حق هؤلاء الناس الذين قصدهم حسن، ونيتهم طيبة، ولم يتتلمذوا على أهل البدعة وقعوا في أخطاء هم ظنوها صواباً، المشكلة أنك تجد بعض الناس يسوون بينهم في الرد وبين المبتدعة الخلص، يسوون بينهم في الرد وبين المنافقين، يسوون بينهم في الرد وبين الكفار، كيف؟!

ليس هذا مثل هذا.

فإذاً، بين الخطأ بأدب، هذه الخلاصة، بين الخطأ بأدب، تسكت عن البيان خطأ، تسيء الأدب خطأ، ما هو الموقف الصحيح؟

بين الخطأ بأدب مع هذا القسم الذي نيته حسنة، وقصده طيب، ما هو منافق ولا مبتدع أصلاً، ولا كافر، ولا من أعوان الكفار والمنافقين، لكن مع هذا لا يسكت عنه، يبين خطؤه لكن بأدب.

وإذا كثرت الأخطاء من الشخص وتوالت أوجب ذلك تبيناً لحاله، ومزيداً من التوقف في كلامه ليحكم عليه، يعني ممكن واحد يخطئ مرة، طيب ثانية.. ثالثة..، لكن إذا توالت أخطاؤه ما الذي يحدثه ذلك في نفسك؟ أنك تتوقف أكثر في كلامه، كلما قال كلاماً، صرح بشيء تدقق فيه، تتوقف فيه.

من الناس من يندر خطؤه، ولذلك أن شبه المقلد له في بعض الأحيان، توافقه إذا قال الكلام، تثق به، لكن إذا توالت الأخطاء هذا يوجب توقفاً ودراسة لمواقف الرجل وكلامه؛ لأن توالي الأخطاء يجعل عندك حساً من الخطر والحذر من هذا الشخص.

يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: "ولهذا وجب بيان حال من يغلط في الحديث والرواية، ومن يغلط في الرأي والفتيا، ومن يغلط في الزهد والعبادة" [مجموع الفتاوى: 28/233].

بين ثلاث جوانب مهمة تقع فيها أخطاء المتدينين:

الأول: الخطأ في الحديث والرواية، ولذلك اشتغل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني وشعبة، وغيرهم، في تبيان أحوال الرواة.

ومن يغلط في الرأي والفتيا، الذي يفتي غلط، يخالف النصوص، كذلك اشتغل الأئمة ببيان حاله حتى لا ينخدع الناس به، ويأخذون فتاواه.

ومن يغلط في الزهد والعبادة فربما أتى ببدع، يعني جانب الزهد والعبادة إذا حصل خطأ فيه تنتج بدع، قال: "وإن كان المخطئ المجتهد مغفوراً له خطؤه" يعني أنت لما تبين خطأ هؤلاء ليس معناه أن تحكم عليهم بالنار أو بالإثم إطلاقاً، أنت لا تؤثمهم، ولا يجوز لك ذلك؛ لأنه قد يكون مجتهداً والله يغفر له، وأنت تحكم له بالإثم تقول: هذا آثم، وما يدريك أن الله غفر له، ولذلك ردك يقتصر على بيان الخطأ وليس على مصير الشخص "وإن كان المخطئ المجتهد مغفوراً له خطؤه، وهو مأجور على اجتهاده، فبيان القول والعمل الذي دل عليه الكتاب والسنة واجب"، وهذا خالفه، فبيان الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة واجب، "وإن كان في ذلك مخالفة لقوله وعمله" هذا المخطئ "ومن عُلم منه الاجتهاد السائغ" كلام شيخ الإسلام درر "ومن علم منه الاجتهاد السائغ" لو واحد على قدر من الإمكانات والقدرات أنه يجتهد، واجتهاداته سائغة، فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم له.

شيخ الإسلام يقول: فيه ناس اجتهاداتهم سائغة، معنى ذلك إنه فيه ناس اجتهاداتهم غير سائغة، وهناك أناس يتراوحون، فهناك أناس تكثر اجتهاداتهم السائغة، وهناك تكثر اجتهاداتهم غير السائغة، قال: "من علم منه الاجتهاد السائغ عنده قدرة وإمكانات للاجتهاد السائغ، فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم له، فإن الله غفر له خطأه"؛ لأنه أخبرنا على لسان رسوله أن المجتهد المخطئ مغفور له "بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته، والقيام بما أوجب الله من حقوقه من ثناء ودعاء، وغير ذلك"، يقال: شكر الله له، جزاه خيراً، غفر الله له، أثابه الله على ما قدم، لكن هذا خطأ، قوله هذا خالف الصواب، "وإن علم منه النفاق كما عرف نفاق جماعة على عهد رسول الله ﷺ مثل عبد الله بن أبي وذويه، وكما علم المسلمون نفاق سائر الرافضة، عبد الله بن سبأ وأمثالهن مثل عبد القدوس بن الحجاج، ومحمد ين سعيد المصلوب، فهذا يذكر بالنفاق، وإن أعلن بالبدعة ولم يعلم هل كان منافقاً أو مؤمناً مخطئاً ذكر بما يعلم منه، فلا يحل للرجل أن يقفو ما ليس له به علم، ولا يحل له أن يتكلم في هذا الباب" يعني باب الحكم على الأشخاص "إلا قاصداً بذلك وجه الله -تعالى-، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، فمن تكلم في ذلك بغير علم أو بما يعلم خلافه كان آثماً. وكذلك القاضي والشاهد والمفتي كما قال النبي ﷺ: لقضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، رجل قضى بغير الحق فعلم ذاك فذاك في النار، وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار  [رواه الترمذي: 1322، وقال الألباني : "صحيح لغيره" كما في صحيح الترغيب والترهيب: 2195]" [مجموع الفتاوى: 28/234].

ثم قال رحمه الله: "وليس هذا الباب" يعني تبيان أخطاء هؤلاء المسلمين، أن هذا خالف الكتاب والسنة، هذا الكلام خطأ، هذا الكلام باطل، هذا الكلام بدعة، هذا الكلام موافق لكلام أهل البدعة، هذا الكلام جار على كلام وأصول أهل البدع، ليس هذا الباب مخالفاً لقوله صلى الله عليه وسلمن ليس تبيان الأخطاء مخالفاً لقول النبي ﷺ: الغيبة ذكرك أخاك بما يكره  [رواه مسلم: 2589] "فإن الأخ هو المؤمن، والأخ المؤمن إن كان صادقاً في إيمانه" هذا المردود عليه "إذا كان صادقاً في إيمانه لم يكره ما قلته من هذا الحق الذي يحبه الله ورسوله، وإن كان فيه شهادة عليه وعلى ذويه، بل عليه أن يقوم بالقسط ويكون شاهداً لله ولو على نفسه أو والديه أو أقربيه" [مجموع الفتاوى: 28/235].

إذاً، تبيان الأخطاء ليس غيبة؛ لأن الغيبة ذكرك أخاك بما يكره، وإذا كان هذا المخطئ أخونا مؤمناً فعلاً فإنه لن يكره بياننا لأخطائه، وإذا كره ماذا يكون؟ قال: "ومتى كره هذا الحق كان ناقصاً في إيمانه ينقص من أخوته بقدر ما نقص من إيمانه: وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ  [التوبة: 62]" [مجموع الفتاوى: 28/235].

كلام نفيس جداً لشيخ الإسلام.

وقال بعض الفضلاء من المعاصرين: فإذا كان من الواجب كشف الوهم والسهو والخطأ، ونحو ذلك، مع أن صاحبه معذور وغير آثم، فكيف إذا تعلق الأمر بكشف مخالفة لإنقاذ الناس من ضلالة أو هوى.

الآن إذا الإمام أخطأ في الصلاة، سها في الصلاة تسبح، إذا حصل سهو معروف أن الإمام ما تعمد، ومع ذلك تُنبه، فكيف إذا كانت المسألة ستؤدي إلى انحراف أو ضياع في الدين؟ قال: "وبعض الناس يزعم أن ذلك مما يفرق المسلمين" يعني الرد وبيان الأخطاء تفرق المسلمين، "ويأمر بالسكوت عن ذلك، والساكت عن الحق شيطان أخرس، قال أبو علي الدقاق: الساكت عن الحق شيطان أخرس، والمتكلم بالباطل شيطان ناطق، وما حجتهم إلا المقولات الباطلة، لا تصدعوا الصف من الداخل، لا تحركوا الخلاف بين المسلمين، نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه" إلخ..

قال الشيخ بكر أبو زيد في كتابه: "الردود" هذا الكلام وفيه نعم توحيد كلمة المسلمين من المقاصد الشرعية التي يجب السعي إليها، ولكن لا يكون ذلك على حساب الحق، وإلا لانتهى الأمر بهذه الأمة أن تكون كاليهود الذين قال الله فيهم: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر: 14] بل توضيح الحق للمخطئ ولو اجتهاداً، يعني لا يلزم أن يكون المخطئ عن عمد حتى نبين ونرد عليه، حتى لو أخطأ اجتهاداً يرد عليه، وتوضيح الحق للمخطئ ولو اجتهاداً من حق المسلم على أخيه المسلم، ولذلك لو أخطأ ولم ينشر خطأه ما تفضحه تنصحه سراً، ولو أخطأ ونشر خطأه يلزم البيان على علناً، كما نشر الخطأ علناً، قال: "بل توضيح الحق للمخطئ ولو اجتهاداً من حق المسلم على أخيه المسلم، ولو احتاج ذلك في بعض الأحيان على شيء من الخشونة، فإن عاقبة ذلك محمودة، ورضي الله عن عمر القائل: "رحم الله من أهدى إلي عيوبي" [سنن الدارمي: 1/ 506].

ليس المقصود بالخشونة قلة الأدب، لكن أن بيان الحق والرد فيه صعوبة على نفس الآخر، فيه صعوبة، فلعله يقصد بهذه الخشونة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى. وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة" [مجموع الفتاوي: 28/53 -  54]، يريد له فرك وحك حتى ينقلع، لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة، يعني يؤدي إلى نظافة ونعومة ما نحمد معه ذلك التخشين.

إذاً، الغاية المحمودة التي ستترتب على بيان الحق أعظم من الصعوبة النفسية التي تنشأ عن الرد، لكن لأن العاقبة حميدة صاغ هذا.

بيان الخطوط الفاصلة بين الإيمان والكفر

00:39:40

لقد كان النبي ﷺ واضحاً كل الوضوح -كما قلنا- في الدعوة والجهاد، وكان يرسل الرسل ويبين وكان يبعث رسله إلى الأقوام، ويخير بين ثلاث، وكان أصحابه يفعلون ذلك، الإنذار ثلاثاً، ودعاء الكفار إلى أحدى ثلاث: الإسلام أو الجزية أو القتال بكل وضوح.

والولاء والبراء، الولاء للمسلمين والبراء من المشركين مما يقتضي طبيعة هذا التوضيح في أمور الدين.

إن بيان الخطوط الفاصلة بين الإيمان والكفر، بيان الحدود أن يقال هذا إسلام، وهذا كفر، وهذه سنة، وهذه بدعة، وهذا شرك، وهذا توحيد، وهذا حق، وهذا باطل.

إن قضية التمييز والتوضيح في غاية الأهمية.

ومسألة تكفير الكافر، بيان أن هذا كفر وهذا إسلام؛ هذه مهمة، وقد قال الله: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ  [البقرة: 256] فأوجب الكفر بالطاغوت، ولذلك فإننا نأسى ونأسف لبعض أبناء المسلمين الذين يريدون تعمية القضية وإزالة الحدود الفاصلة والتغبيش، تغبيش الصورة على الموجودين، كما ذكر صاحب كتاب: "ذم العنف، أو مذهب ابن آدم الأول، وهو من رؤوس العقلانيين، إذا كانت لهم عقول صحيحة، يقول: "لسنا في حاجة أن نطلق لفظ العدو عليهم، يعني أن أعداءنا من الكفار لا يحتاج أن نطلق لفظ العدو عليهم، فيريد حذف كلمة العدو، أين أنت من قول الله -تعالى-: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة: 4]، إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ  يعني الكفار، قالوا بالكلام الواضح البين، أعلنوها، ولذلك فإن هؤلاء يريدون اليوم أن يقولوا اليهود والنصارى أصحاب ديانات سماوية، ونحن نشترك معهم في الملة الإبراهيمية، وهناك قواسم مشتركة بيننا وبينهم، ولا حاجة لنعتهم بالأعداء، ولا لنقول عنهم: كفار، لا يرضون أن يقال عنهم: كفار، والنبي ﷺ كان يوضح على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي حقيقة الأشخاص والأمم، وروى مسلم عنه ﷺ، والحديث يرويه عمرو بن العاص سمعت رسول الله ﷺ جهاراً غير سر، يقول: ألا إن آل أبي  يعني فلان ما سماه  ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين [رواه البخاري: 5990، ومسلم: 215]، فالنبي ﷺ نصب الاسم عليه، لكن الراوي خشي أن يسميه فتترتب على ذلك مفسدة وفتنة في حق نفسه أو في حق غيره، فكنى عنه والغرض قوله: إنما وليي الله وصالح المؤمنين .

قال النووي: ففيه التبرؤ من المخالفين، وموالاة الصالحين، والإعلان بذلك ما لم يخف ترتب فتنة عليه [المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج: 3/88].

والمشكلة أن بعض الناس يزعم لك أن الفتنة مترتبة بأدنى سبب، وكل شيء عنده لا تذكر في فتنة، لا توضح في فتنة، لا تصرح في فتنة، لا تبين في فتنة، لا تعلن في فتنة، لا تنص في فتنة، هؤلاء طرف.

وآخرون لا يعتبرون الحكمة ولا المصلحة ولا ينظرون في المآلات أبداً، فعندهم تهور وعدم النظر في العواقب، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، وسنأتي إلى بيان مزيد من ذلك حول هذه النقطة.

منابع الوضوح في حياة الداعية

00:45:31

إن مسألة الشهادة -أيها الإخوة- بالعلم مسألة مهمة: إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف: 86]، والشهادة تقتضي تصريحاً وكلاماً وإلا ما تسمى شهادة إذا كانت حبيسة في النفس.

منابع الوضوح في حياة الداعية متعددة، ومنها: العزة: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ  [المنافقون: 8] العزة الإسلامية في النفس توجب التوضيح والبيان.

وكذلك قوة الحق: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء: 18]، وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا  [الإسراء: 81]، قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ  [سبأ: 49].

إن على الداعية أن يكون مؤسساً علمياً على الأدلة النقلية والعقلية الواضحة، ولا يكون سالكاً مسالك أهل البدع ولا الفلسفة أو علم الكلام أو آخذاً بالمصطلحات الغامضة المشتبه المجملة، وإنما يكون عنده وضوح في الجانب العلمي.

إن استعمال الألفاظ المجملة الغامضة التي تحتمل حقاً وباطلاً من أسباب تفرق الأمة، ويسميها بعضهم: سياسة، ويقول: أطلق كلاماً يفهمه هذا فهماً يرضيه ويفهمه هذا فهماً يرضيه، لكن هناك مشاهدون ونضارة وملأ، لا يعرفون ما هو المقصود.

يجب أن تكون الدعوة واضحة والشخصية واضحة وتبيان الموافق واضح، وإزالة اللبس قائماً، والنبي ﷺ لما خرج مع صفية ليقلبها إلى بيتها، ومر اثنان من الصحابة به، قال: على رسلكما إنها صفية  [رواه البخاري: 2035، ومسلم: 2175]، وبين من هي المرأة التي معه، مع أنه النبي ﷺ الذي لا يمكن الشك فيه من هذه الجهة إطلاقاً.

وكان الأئمة إذا صار عليهم كلام من الناس، ورمي بأمور باطلة بينوا مواقفهم.

لا يسكت الإنسان على تهمة اتهم بها وهو بريء، لماذا يجعل عرضه هدفاً؟ ولماذا يجعل ألسنة الناس تلوكه؟ يدافع، ويتكلم ويوضح.

أحضر شيخ الإسلام بين يدي السلطان محمد بن قلاوون الذي أشاع المشيعون عنده أن ابن تيمية يريد ملكه، والانقلاب عليه، وأنه الآن يكسب شعبية بين الناس للإطاحة به، فأحضر شيخ الإسلام بين يدي السلطان، فقال له السلطان: "إنني أُخبرت" إذًا فيه وشاة في الموضوع، إنني أخبرت أنك قد أطاعك الناس، وأن في نفسك أخذ الملك، فهل اكترث بذلك شيخ الإسلام -رحمه الله-؟

أبداً، بل قال بنفس مطمئنة وصوت عال: أنا أفعل ذلك؟ والله إن ملكك وملك المغل (المغول) لا يساوي عندي فلسين"، فتبسم السلطان وأوقع الله في قلبه هيبة شيخ الإسلام، وقال: "إنك والله لصادق، وإن الذي وشى بك إلي لكاذب" [النبوات: 1/53].

الداعية مطالب بإقامة حجة الله

00:49:37

أيها الإخوة: إن الداعية مطالب بإقامة الحجة لله، لماذا بعث الله الرسل؟ أليس لينذروا؟ أليس ليبشروا؟ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ  [النساء: 165] أليس أرسل رسله حتى لا يأتي الناس يوم القيامة يقولون: ما جاءنا من رسول، ما بينت لنا، لا نعلم الحق.

ولذلك فإن الله قد أرسل رسوله ﷺ على بصيرة: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ  [يوسف: 108].

إن الدعوة أمانة يجب إيصالها للناس.

إن البلاغ أمانة يجب حمله وإيصاله للناس: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ  [آل عمران: 110]، وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران: 104]، من رأى منكم منكراً فليغيره [رواه مسلم: 49].

إن هذه الأمانة لا بد من القيام بها، والتخلي عن المسؤولية مصيبة، وأولئك القوم من بني إسرائيل هلكوا مع أنهم لم يكونوا يعملون المنكر بسكوتهم على المنكر، وعدم التبيين، وعدم التوضيح، وعدم المفاصلة، ولا يمنعه جليسه صاحب المنكر من أن يقعد إليه، أن يكون قعيده وأكيله وشريبه، فضرب الله بعضهم ببعض، ولعنهم.

فالداعية عنده أربعة أهداف إذا بلغ يتحقق اثنان قطعاً، ويبقى اثنان هذه على الله:

الأول: الذي يتحقق بالبيان قطعاً: أن يعذر إلى الله بأداء الأمانة: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف : 164].

ثانياً: أن يقيم الحجة لله على المعاندين من خلقه، بلغ، وأدِ الأمانة، وانصح، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، علم، لماذا؟ تقيم الحجة على العباد، وتعذر أنت لا تنالك العقوبة: أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ [الأعراف: 165].

وأما الهدفان الآخران: هداية الناس أولاً، وإقامة شرع الله في الأرض ثانياً؛ فإنها بيد الله إذا شاء أعطاها لهؤلاء الدعاة:  إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء [القصص: 56]، وإن شاء منعها، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ  [النور: 55]، ولكن قد يؤجل الاستخلاف ويكون بعد حين.

وضوح هدف الداعية ومراعاته للأولويات

00:52:50

إن وضوح الهدف في نفس الداعية يؤدي إلى وضوح كلامه، ولذلك فإن التشويش الحاصل في كلام بعضهم نتيجة التشويش الحاصل في نفوسهم؛ لأن المبادئ عندهم غير واضحة فكلامهم غير واضح.

يا إخوان: ألا ترون إلى الشياطين الذين يسترقون السمع من السماء يركب بعضهم فوق بعض ليصلوا إلى السماء يسترقوا السمع من أصوات الملائكة، ويضحون لأجل إضلال الناس في الأرض، ويرمون بالشهب الثاقبة فتحرقهم، يمكن يكون وصل الكلام أو وصل بعضه أو ما وصل منه ولا كلمة واحترق، لكي تنزل الكلمة إلى من تحته إلى من تحته إلى الكاهن في الأرض ليضل بها الناس، إذا كان الشياطين يقتلون أنفسهم لأجل خطف كلمة ليضلوا الناس، فنحن أولى أن نبذل نفوسنا لأجل البيان والتوضيح، وأن نصبر على الحق.

وإن تحديد الهدف وإعلان كلمة الله الهدف الكبير لا يمنع من أن يكون هناك أهداف مرحلية، وأشياء تأتي على الطريق.

ويجب أن يكون عملية التوضيح هذه مرتبطة بالقواعد الشرعية، والحكم الدينية، فمن ذلك: تقديم الأهم فالأهم، فالنبي ﷺ لما أرسل معاذاً إلى اليمن، بماذا أمره؟ أن يدعوهم إلى كل شيء دفعة واحدة؟

لا، يبين لهم، حتى أشياء الختان من أول محاضرة من أول درس يقول: عليكم الختان أول شيء؟

لا، قال: أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات، فإن هم أطاعوا لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم  [رواه البخاري: 1395، ومسلم: 19].

إذاً، لا ينتقل إلى التالية حتى يسلموا له بالأولى، وليس أن يأتي ويقول كل الكلام دفعة واحدة ويمشي.

الدعوة فيها مرحلية، الدعوة فيها أولويات، الدعوة فيها مهمات: كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ [آل عمران: 79] يعني صغار العلم قبل كباره، يعني الأسس والمبادئ قبل التفصيلات والفروع.

وكذلك نبدأ بالأهم: شهادة أن لا إله إلا الله قبل الصلاة، الصلاة قبل الزكاة، وهكذا..

إذاً، التوضيح والبيان لا ينسف المرحلية، التوضيح والبيان لا يعني أن تؤخر أشياء من الحق وتقدم أخرى لمصلحة المدعوين، فبعض الناس يفهم من التوضيح والبيان أنك لازم تقول كل شيء في أول مجلس، أول ما تعرف المدعو تخبره بكل شيء.

يا أخي: الإسلام كثير، "إن شرائع الإسلام قد كثرت علي؟" الصحابي استشعر هذا، قال: "كثرت علي"، أعطيني شيئا أتمسك به؟

فالآن -يا إخوان- إن التوضيح والبيان لا يعني أنك لا تقدم أشياء وتؤخر أخرى، بل تقدم الأهم وتؤخر الذي يليه، وهكذا..

وكذلك فإنك في هذا المجال تتسلسل مع الناس وتترفق بهم لكي يقبلوا منك، لكن هل يمكن أنك تقول باطلاً؟ أبداً، كلا والله، لا يمكن أن نقول في مصلحة الدعوة نتكلم بالباطل، أنت ممكن تؤجل قول بعض الحق للمصلحة ممكن، "أخبر الناس؟ قال: ((لا))، إذاً يتكلوا" [رواه البخاري: 128، ومسلم: 32].

ممكن مراعاة للمفسدة أن تؤجل إعلان قضية من القضايا ممكن، لكن لا يمكن أن تقول باطلاً، فيه فرق بين تأجيل قول بعض الحق، وبين النطق بالباطل، مشكلتنا أن يكون من بيننا من يتكلم بالباطل، هذه المأساة.

الوضوح في الفتوى

00:57:53

لقد كان الوضوح نهجاً عند العلماء في الفتوى، نهجاً عند العلماء في الوقوف أمام الظلمة، نهجاً عند العلماء في مراسلة الكفار، وهذه أمثلة:

قال مجاهد: "كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثاً، فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه، ثم قال ابن عباس: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس، وإن الله -تعالى- قال: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا  [الطلاق: 2]، وإنك لم تتق الله، فلا أجد لك مخرجاً، عصيت ربك وبانت منك امرأتك، قال الحافظ: "سنده صحيح" [رواه أبو داود: 260، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 1907].

لما صارت الفتنة أراد بعضهم من الإمام أحمد أن يسكت، الرفض، قال: اذهب وافتح النافذة، هؤلاء الناس بأيديهم الأقلام والدفاتر ينتظرون ماذا يقول أحمد ليكتبوا، قال: تريدني أن أضل هؤلاء كلهم؟ لا يمكن، أسكت لا يمكن؛ لأن الإمام أحمد وجب عليه أن يقول الحق، كل الأمة تتطلع إليه، الآن هذا لو سكت المصيبة العظيمة، بعض العلماء اتقوا بالإمام أحمد، يعني قالوا موقف أحمد يغنينا، اتقوا به، لا يسع أحمد السكوت أبداً.

بعضهم أراد منه أن يوري، قلها: مخلوق، قصدك على الأصبع، لكن لا يمكن، يضل الناس لا يمكن، لا بد أن يبين، ولذلك فإنه رحمه الله -تعالى- أعلنها صريحة: "القرآن كلام الله غير مخلوق"، هاتوا شيئاً من الكتاب والسنة، يقول لابن أبي دؤاد يقول للخليفة الذي كان على منهج المعتزلة، ما جاؤوا بشيء.

الإنسان في حالة تهديد بالقتل قد يجد عذراً في السكوت، لأنه أكره، وإذا أريد على قول الباطل بالتعذيب الشديد ممكن ينطق به، والصحابة كانوا يفتنون في مكة لدرجة أن أحدهم لا يستطيع أن يستوي قاعداً من الضر، ويقال له: هذا الجعل إلهك، يعني بالإكراه والقوة والتعذيب، لكن عندما لا يكون هناك إكراه وينطق بالباطل أي عذر يرتجى؟ أنت ممكن تعذر واحداً أكره على قول الباطل بالتهديد بالقتل، بالضرب الشديد، التعذيب الشديد، هددوه بامرأته وبنته، هذا إنسان يعلم الله عذره، لكن عندما لا يكون هناك تهديد غير مقدور على تحمله من شخص قادر على التنفيذ ومعلوم أنه سيفعل؛ لأن الإكراه له شروط، ليس أي ادعاء بالإكراه مقبولاً، لا بد أن يكون الإكراه من شخص قادر على تنفيذ ما يهدد به، ويغلب على الظن أنه سيوقع هذا التهديد، أو يبدأ فعلاً ينفذ الضرب، ثم.. ثم.. ثم.. إلى القتل، فالله يعلم عذر من يتكلم عندئذ بشيء بغير الحق للإكراه تحت التعذيب، لكن عندما لا يكون هناك إكراه، فأي عذر في قول الباطل؟

وقد كان الأئمة يصبرون، ولما جاء هذا الرجل الكافر من بني عبيد بابن النابلسي -رحمه الله- أبي بكر من أهل السنة، أحضره أمامه وقال له: بلغنا أنك قلت إذا كان مع الرجل عشرة أسهم وجب أن يرمي في الروم تسعة ويرمينا بسهم، قال: ما قلت هذا، فظن أنه تراجع، قال: بل قلت إذا كان معه عشرة أسهم وجب أن يرميكم بتسعة، وأن يرمي العاشر فيكم أيضاً كلها، فإنكم غيرتم الملة، وقتلتم الصالحين، وادعيتم الإلهية، فشهره وضربه، ثم أمر يهودياً أن يسلخه، جلده عن العظم، كان الدارقطني -رحمه الله- إذا ذكر أبا بكر يبكي ويقول: كان يقول وهو يسلخ: كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [الإسراء: 58] [سير أعلام النبلاء: 12/220]

الآية التي يثبت بها نفسه حال السلخ، أن هذا بقضاء وقدر، واقع الآن السلخ علي بقضاء الله وقدره، فأنا مستسلم لأمر الله: كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا .

وكان الحاكم الفاطمي الذي ادعى الإلهية، وكتب باسم الحاكم: الرحمن الرحيم، وأراد أن يجمع الناس على الإيمان به، وأعطاهم الأعطيات والنفائس لكي يجمع الشعب على إلهيته، وكان ذلك في فصل الصيف، وعمل الاجتماع الحاشد، جعل الذباب يتراكم على الحاكم، والخدام يحاولون أن يبعدوا الذباب، ولكن الذباب ذباب، كلما ذب آب، فلا يندفع، واحد من قراء القرآن حضر المجلس، فرفع صوته وكان حسن الصوت: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحـج: 73 - 74] فاضطرب الجمع لعظم ما وقع عليهم من هذه الآية الشريفة في حكاية الحال، حتى لكأن الله أنزلها لهذا الموقف، وسقط الحاكم هذا من فوق سريره خوفاً من أن يقتل ودخل وولى هارباً، ثم أخذ في استجلاب الرجل هذا القارئ، إلى أن اطمأن إليه، ثم جهزه رسولاً إلى بعض الجزر وأمر الجنود بإغراقه.

وفعلاً القارئ هذا الذي قرأ الآية أغرق ومات، والغريق شهيد، فرئي بعد ذلك في المنام فقيل له: ما وجدته؟ فقال: ما قصر معي صاحب السفينة أرسى بي على باب الجنة.

ومن القصص المعاصرة: محمد شاكر -رحمه الله- والد المحدث أحمد شاكر العالم من أرض الكنانة كان عند الخديوي لما جاء طه حسين أعمى البصر والبصيرة يطلب إرساله في بعثة تعليمية إلى فرنسا على نفقة الدولة، فوافق الخديوي ، ثم إن خطيب الجامع وهو ينافق للخديوي يوم الجمعة تكلم وقال في ضمن كلام يتملق به الخديوي: ما عبس وما تولى إذ جاءه الأعمى، فلما فرغ الخطيب من خطبته وقف الشيخ محمد شاكر والد أحمد شاكر المحدث، قال: أيها الناس صلاتكم باطلة، وإمامكم كافر، قوموا وأعيدوا الصلاة؛ لأن التعريض بالجناب النبوي واللمز للنبي ﷺ كفر، انتقاص النبي ﷺ كفر، فوقعت بينه وبين هذا الخطيب عداوات، ووقع من ذلك الخطيب سعايات ووشايات ليكيد به والد الشيخ المحدث، ولكن حفظه الله فلم ينله بمكروه، بل إن الأمر آل كما قال الشيخ أنه رآه الخطيب هذا يتلقف نعال المصلين عند باب المسجد ليحافظ عليها، يعني غضب عليه وطرد وصار شغلته بدل ما يصعد على المنبر صار يأخذ النعال هناك يحفظها في صناديق النعال.

الوضوح في جرح وتعديل الرواة

01:08:18

كان الأئمة -رحمهم الله- يبينون حتى على حساب أقاربهم، وهذا كان واضحا جداً، من مآثر علماء الجرح والتعديل التي كانت أن الواحد فيهم إذا سئل عن راوٍ ضعيف يبين ضعفه ولو كان هذا الراوي من أقرب الناس إليه، ولذلك فإن علي بن المديني -رحمه الله- سئل عن أبيه، هو من أئمة الجرح والتعديل فيبين حال الرواة، سئل عن أبيه فأطرق، سئل عن أبيه، يعني من بر الوالد أنه لا يريد أن يتكلم في أبيه، فقال: اسألوا غيري، خشي أن يقول كلاماً فيه شيء من عقوق الوالدين أو..، قال: اسألوا غيري، فقالوا: سألناك، ما نسأل إلا أنت تكلم، سألناك، فأطرق ثم رفع رأسه فقال: هذا هو الدين، أبي ضعيف [المجروحين: 2/15].

وما كان زهد بعض الناس وعبادتهم مانعاً لأئمة الجرح والتعديل من أن يذكروا ضعفهم في الرواية، يقولون: يرجى دعاؤه أن يستجاب، وإذا استسقى أن ينزل المطر علينا، ولكن لا يؤخذ منه الحديث، قال أيوب: إن لي جاراً، وذكر من فضله، قال: لو شهد عندي على تمرتين ما رأيت شهادته جائزة [تاريخ الثقات، ص: 13].

وما كان التوضيح مانعاً من أن يصرحوا بالتخطئة للكلام العظيم المستعظم ولو كان صدر من صاحب له، أو في مناسبة طعام مما يمشى فيه الكلام، لا، قال أبو حاتم: ابن أخي بكار قدم على عمي رجل من البصرة له علم  وزهادة ونسك، فأكرمه وقربه وأدناه، فمضت به الأيام فجاء في شهادة ومعه شاهدان من شهود مصر، فما قبل شهادته، فقلت لعمي: هذا رجل زاهد وأنت تعرفه؟ قال: يا ابن أخي ما رددت شهادته إلا أنه كنا على مائدة عليها أرز وفيه حلوى داخل، فنقبت الأرز بأصبعي، يعني ليصل إلى الحلوى، فقال لي: أخرقتها لتغرق أهلها، فقلت له: أتهزأ بكتاب الله -تعالى- على الطعام؟ ثم أمسكت عن كلامه مدة [وفيات الأعيان : 1/281] يعني تعمد هجره، وما أقدر على قبوله وأنا أذكر ذلك منه، على الموقف.

جمع العلماء بين قول الحق ومراعاة المصلحة

01:12:13

ومن الملاحظات أيضاً في سير العلماء، وهذا موقف عظيم جداً يسجل لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كيف الجمع بين قول الحق ومراعاة المصلحة؟ كيف الجمع من الصدع بالحق وبين مراعاة ما ينشأ من المفاسد؟ كيف التوازن الذي يحدث في رسالة يبعث بها إلى ملك نصراني، ملك قبرص هذه رسالة عظيمة جداً من شيخ الإسلام جديرة بالتأمل والدارسة وخصوصاً في هذا الزمان.

ومن المعلوم: أن لغة الخطاب تختلف باختلاف المخاطب، لكن الداعية وهو يخاطب الكافر يريد أن يستجلب قلبه، لكن لا يقول كلاماً باطلاً، انظر إلى رسالة النبي ﷺ لهرقل، ماذا كتب له؟

 من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم  [رواه البخاري: 7، ومسلم: 1773] الآن كلمة: عظيم الروم  فيها تقدير واعتبار للرجل، لكن ما فيها كلام باطل، ما قال: إلى عظيمنا، "عظيم الروم"، أنت عظيم قومك، قومك يعظمونك، وهذا صحيح، رئيس الروم، "عظيم الروم"، إلخ..، لكن هل قال له: السيد هرقل؟ «لا تقولوا للمنافق سيد، فإنه إن يك سيداً فقد أسخطتم ربكم -عز وجل-  [رواه أبو داود: 4977، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 4780].

فإذاً، طريقة مخاطبة الكافر أيضاً فيها فقه وعلم، فيقول شيخ الإسلام -رحمه الله- رسالة إلى ملك قبرص الذي عنده أسرى مسلمين، ويرى شيخ الإسلام أن عليه مسؤولية في مكاتبة هذا الملك لإطلاق أسرى المسلمين، لأنهم أساؤوا معاملتهم، فجمع بين عدة أشياء في وضوح، وإعلان الحق موجود، تخطئة صريحة لعقيدة النصارى موجود، لين ورفق موجود، تهديد موجود، عزة إيمانية موجود، ثناء على بعض الأخلاق الحسنة لهذا الملك موجود، إلزامه بمعتقداته موجود، جمعت الرسالة أشياء متنوعة، قال: "من أحمد بن تيمية إلى سرجوان عظيم أهل ملته"، لاحظ "عظيم أهل ملته، ومن تحوط به عنايته من رؤساء الدين وعظماء القسيسين والرهبان والأمراء والكتاب وأتباعهم سلام على من اتبع الهدى" [مجموع الفتاوى: 28/601]، ما قال: السلام عليكم ورحمة الله؛ لأن النبي ﷺ قال: لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام  [رواه مسلم: 2167] يعني وإن كنا نريد أن نتلطف معهم، لكن لا يمكن أن نرتكب محظوراً شرعياً في مخاطبتهم، فنقول: السيد فلان، والسلام عليكم، لا يمكن، لكن هناك حكمة وهي قضية التلطف في الخطاب، فقال: "عظيم الروم"، قال: "عظيم أهل ملته"، قال: "سلام على من اتبع الهدى"، "ونحن قوم نحب الخير لكل أحد، ونحب أن يجمع الله لكم خير الدنيا والآخرة" نحب أن يجمع الله لكم، نحن نريد لهم الخير، نريد لهم الهداية، "ونحب أن يجمع الله لكم خير الدنيا والآخرة، فإن أعظم ما عبد الله به نصيحة خلقه، وبذلك بعث الله الأنبياء والمرسلين، ولا نصيحة أعظم من النصيحة فيما بين العبد وبين ربه".

قال: "وأبو العباس حامل هذا الكتاب قد بث محاسن الملك وإخوته عندنا"، قال: عندنا واحد مسلم حدثنا عنكم، حدثنا عن بعض أخلاقكم وصفاتكم واستعطف قلوبنا إليه، "فلذلك كاتبت الملك لما بلغتني رغبته في الخير".

يقول في كتابه موضحاً موقف المسلم من النصارى شيخ الإسلام: "وتفرقوا في التثليث والاتحاد تفرقاً وتشتتوا تشتتاً لا يقر به عاقل.."، "ثم إن الصلاة إلى المشرق لم يأمر بها المسيح ولا الحواريون، وإنما ابتدعها قسطنطين أو غيره، وكذلك الصليب إنما ابتدعه قسطنطين برأيه وبمنام زعم رآه، وأما المسيح والحواريون فلم يأمروا بشيء من ذلك، وكذلك إدخال الألحان في الصلوات لم يأمر بها المسيح ولا الحواريون، وبالجملة فعامة أنواع العبادات والأعياد التي هم عليها لم ينزل الله بها كتاباً، ولا بعث بها رسولاً"، ما قال: دينكم صح ونحن وإياكم أديان سماوية، بين حقيقة هؤلاء.

ثم بحسب حال المسلمين يكون التهديد، يعني ما يهدد بشيء لا يستطيعه، قال: "وكانت سيرة النبي ﷺ أن من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله من النصارى صار من أمته"، وهذا ترغيب، "له ما لهم وعليه ما عليهم، وكان له أجران"، وهذا ترغيب للنصراني أن يسلم، يقول: إن آمنت برسولنا لك أجران "أجر على إيمانه بالمسيح، وأجر على إيمانه بمحمد، ومن لم يؤمن به من الأمم فإن الله أمر بقتاله"، بدأت نبرة التهديد، قبل قليل ترغيب، الآن تغيرت النبرة وصارت تهديداً، كما قال تعالى في كتابه: قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ  [التوبة: 29]، نبرة تهديد أخرى أقوى: "ثم عند المسلمين من الرجال الفداوية" يعني الفدائيين "الذين يغتالون الملوك على فرشها وعلى أفراسها"، قال: أنت تعلم عندنا فدائيون يجيبون خبرك، "ثم عند المسلمين من الرجال الفداوية الذين يغتالون الملوك في فرشها وعلى أفراسها من قد بلغ الملك خبرهم قديماً وحديثاً، وفيهم" يعني في المسلمين "الصالحون الذين لا يرد الله دعواتهم، ولا يخيب طلباتهم، الذين يغضب الرب لغضبهم، ويرضى لرضاهم".

أيضاً ذكر في الخطاب مواقف جيدة له مع النصارى، لكن مواقف بحق، قال: "وقد عرف النصارى كلهم" يعني عندنا في الشام "أني لما خاطبت التتر في إطلاق الأسرى وأطلقهم غازان وقطل شاه، وسمح بإطلاق المسلمين، قال لي: لكن معنا نصارى أخذناهم من القدس فهؤلاء لا يطلقون"؛ لأن التتر هؤلاء أخذوا أسرى مسلمين ونصارى وغيرهم، شيخ الإسلام كلمهم في الأسرى، قال: نطلق لكم أسرى المسلمين، لكن النصارى لماذا تأخذوهم؟ فقلت: "بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا" أنت الآن أسرت ناساً يدفعون الجزية عندنا، من المسؤول عن حمايتهم في حال دفع الجزية؟

المسلمون.

أنت أخذت أسرى مسلمين، وأخذت ناساً من أهل الذمة نحن مسؤولون عنهم ولازم تطلقهم، وهذا موقف لكن بالعدل والحق، ذكره يمن به على سرجوان، يقول: أنا مكلم المغول التتر مكلمهم في أصحابك وأهل ملتك الأسرى الذين عندنا، الأسرى الذين عند التتر أطلقناهم سعينا في إطلاقهم، وأنت ماسك إخواننا الذين عندك من المسلمين؟ فبين ظلم الملك وعدل المسلمين، قال: قلت له -يعني للتتري-: بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا "فإنا نفتكهم ولا ندع أسيراً، لا من أهل الملة ولا من أهل الذمة، وأطلقنا من النصارى من شاء الله، فهذا عملنا وإحساننا، والجزاء على الله، وكذلك السبي الذي بأيدينا من النصارى"، نحن عندنا إماء وعبيد نصارى، أخذناهم بالجهاد حلال علينا، السبي الذي عندنا من النصارى "يعلم كل أحد إحساننا ورحمتنا ورأفتنا بهم، كما أوصانا خاتم المرسلين، حيث قال في آخر حياته:  الصلاة وما ملكت أيمانكم  [رواه ابن ماجه: 1625، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه: 2286]، قال الله -تعالى- في كتابه: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا  [الإنسان: 8]".

ثم أتى بعبارة عجيبة في كتابه يقول: ""أما ما عندنا في أمر النصارى وما يفعل الله بهم من إدالة المسلمين عليهم وتسليطه عليهم، فهذا مما لا أخبر به الملك لئلا يضيق صدره"، قال: أما الأشياء التي الله يسلطنا عليكم فيها ويجعل العاقبة لنا عليكم، فهذا مما لا أخبر به الملك لئلا يضيق صدره، "ولكن الذي أنصحه" هو في الحقيقة أعطاهم لكن ليس على التفصيل، "ولكن الذي أنصحه به أن كل من أسلف إلى المسلمين خيراً ومال إليهم كانت عاقبته معهم حسنة بحسب ما فعله من الخير"، يرغبه، يقول: إن أحسنت إلى أسرانا، إن أحسنت إلى المسلمين نعاملك على حسب إحسانك، فإن الله يقول: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7 - 8].

ثم دخل عليه من باب عقيدته ودينه النصراني، قال له: "ثم المسيح صلوات الله عليه لم يأمر بجهاد ولا الحواريون بعده، فيا أيها الملك كيف تستحل سفك الدماء وسبي الحريم وأخذ الأموال بغير حجة؟" يعني أنت الآن في دينك النصراني ما في شيء اسمه جهاد، دينكم النصراني ما في جهاد، كيف تقاتلنا وتأخذ أسرى منا؟ يعني إذاً أنت فاسق حتى على مذهبك ودينك، أنت خارج عن دينك ومذهبك، قال: "ثم أما يعلم الملك أن بديارنا من النصارى أهل الذمة والأمان ما لا يحصي عددهم إلا الله، ومعاملتنا فيهم معروفة، فكيف يعاملون أسرى المسلمين بهذه المعاملات التي لا يرضى بها ذو مروءة ولا ذو دين؟".

ثم قال أبو العباس الحامل للرسالة: شاكر للملك ولأهل بيته كثيراً، معترفاً بما فعلوه معه من الخير، وإنما أقول عن عموم الرعية أليس الأسرى في رعية الملك؟ أليست عهود المسيح وسائر الأنبياء توصي بالبر والإحسان؟ فأين ذلك؟".

فأنت ترى خطابه فيه ترغيب وفي ترهيب، فيه تهديد، فيه بيان باطل، فيه بيان إلزام الخصم، فيه عدة أشياء في خطابه، هل قال شيخ الإسلام كلاماً باطلاً في خطابه؟ أبداً، لما خاطب النصارى هل خاطبهم بكلام باطل؟ إطلاقاً.

أضرار عدم الوضوح في الدعوة

01:25:44

وكذلك فإنه لابد -أيها الإخوة- من السعي لإرضاء الله وليس إرضاء الناس.

المشكلة أنه عندما نفكر بإرضاء الناس نقع في الأخطاء، وأحياناً تتبين لنا مصالح موهومة، وربما نأتي بألفاظ فضفاضة ومجملة وموهمة، ولذلك قال ابن القيم -رحمه الله- في النونية:

فعليك بالتفصيل والتمييز فالإطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسد هذا الوجود وخبط الأذهان والآراء كل زمان

[النونية، ص: 52].

ومن أضرار عدم الوضوح: أن الواحد ربما يقع في أن يكون من ذي الوجهين، وقد قال النبي ﷺ:  إن من شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه [رواه البخاري: 6058 ، ومسلم: 2526]، وقال النبي ﷺ:  من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار  حديث صحيح [رواه أبو داود: 4873، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 892].

قال النووي: "وهو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها، ويظهر لها أنه منها في خير أو شر، وهي مداهنة محرمة" [المنهاج: 16/79]، فيجعل له لسانان من نار يوم القيامة.

ومن أضرار عدم الوضوح: إحداث التشويش في الناس، إحداث الفتنة في الخلق، والدخول في المناورات لاسترضاء الخلق يوقع في اللبس والفتنة والتغبيش المنافي لمقصد الدين في التوضيح والبيان، والعلماء ما كانوا يرضون الألفاظ الموهومة المشكلة حتى في الأشياء الفقهية والمتون، ولذلك لما جاء ابن أبي زيد واختصر مدونة مالك، وجاء البراذعي واختصر مختصر ابن أبي زيد، وجاء ابن الحاجب واختصر المختصر، وجاء مختصر خليل مختصر لمختصر لمختصر، ولذلك صارت عباراته مثل الألغاز، وأحد الفقهاء لما جاء يعرف الإجارة، قال: "بيع منفعة ما أمكن نقله غير سفينة ولا حيوان لا يعقل بعوض غير ناشئ عنها بعضه يتبعض بتبعيضها" [فقه السنة: 1/14] ففسر لي الآن قوله: "بعضه يتبعض بتبعيضها"؟، فإذا صارت الأشياء من هذا النوع كيف يفهم الناس؟

وأحياناً يدخلون ضمائر في بعض ولا تعرف الآن ما هو المقصود بالضمير يعود على أي شيء؟

إن الإسلام يرفض مداهنة أهل الباطل، وإن من علامات نجاح الدعوة: أن تكون متمتعة بقوة التعبير، وفصاحة اللسان، وحسن البيان، وجودة العرض، والوضوح في المواقف والأقوال والأفعال، والصراحة في عرض الأفكار والمعتقدات، عرض المعتقدات بعيداً عن المداهنة.

إن هذا سيجعل من نجاحها من عواقب الدعوة ويكتب لها الانتشار.

وإن تقديم الإسلام بصورة مشوهة بتلك التنازلات، إنه لا يفيد في الدعوة بل يضر.

لا التقاء للحق مع الباطل

01:29:42

ومما يجب أن يعلمه الدعاة: أن القاعدة العظيمة: لا التقاء مع الباطل لا في نصف الطريق ولا في غيره، بل المفاصلة التامة: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون: 1 - 2]، فلا يعرف الإسلام أنصاف الحلول، وليس من حق الداعية أن يتنازل عن بعض الدين، لا يملكه الدين لله.

ولا يمكن أن يلتقي مع خصومه من الفسقة والمبتدعين والكفار، أو يسترضيهم: وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ  [الكهف: 29].

كما لا يصح تقديم التنازلات التي تكون علامة الضعف والإهانة أو المهانة، ولما عرض كفار قريش على النبي ﷺ أن يعبد إلههم سنة، ويعبدوا إلهه سنة، ماذا كان الموقف؟

ولما خاطبه بعض المشركين أن يسكت عن الجهر بهذا الحق نزل قوله تعالى: حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: 2 - 3].

وهكذا قال لهم: إني نذير لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ.

الفرق بين التهور والوضوح

01:31:12

ويجب أن نفرق بين التهور والوضوح، فإن الوضوح ليس معناه مجانبة الحكمة -كما تقدم-، أو ترك الأولويات، أو قول الحق كله في مجلس واحد، وإن الإيضاح لا يعني ترك التأني، ولكن الإيضاح ينافي قول الباطل.

وكذلك فإن إطلاق التصريحات المتناقضة لا يمكن أن يخدم قضيتنا بشيء، ولكن البيان وقول الحق.

الفرق بين المداراة والمداهنة

01:31:44

أيها الإخوة: إننا إذا رأينا الفرق بين المداراة والمداهنة سهلت القضية، فإن بعض الناس يقولون: نحتاج أن نداري بعض الناس، كفار فساق مبتدعة، لعظم قوتهم، فهل هذا حرام في الدين؟

الفرق بين المداراة والمداهنة، يقول ابن القيم -رحمه الله-: المداراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذم، والفرق بينهما أن المداري يتلطف بصاحبه حتى يستخرج منه الحق، أو يرده عن الباطل، والمداهن يتلطف به ليقره على باطله، ويتركه على هواه، فالمداراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النفاق.

وقد ضرب لذلك مثل مطابق وهو حال رجل به قرحة قد آلمته، فجاءه الطبيب المداوي الرفيق فتعرف حالها، القرحة، التهاب، ثم أخذ في تليينها حتى إذا نضجت أخذ في بطها برفق وسهولة، حتى أخرج ما فيها، يعني من القيح والصديد، ثم وضع على مكانها من الدواء والمرهم ما يمنع فسادها، ثم تابع عليه بالمراهم التي تنبت اللحم، ثم يذر عليها بعد نبات اللحم ما ينشف رطوبتها، ثم يشد عليها الرباط، ولم يزل يتابع ذلك حتى صلحت، هذا المداري، والمداهن قال لصاحب القرحة: لا بأس عليك منها، وهذه لا شيء، فاسترها عن العيون بخرقة، ثم الْهُ عنها، ما تهتم فيها، فلا تزال تقوى وتستحكم حتى يعظم فسادها.

أيها الإخوة: إن النبي ﷺ كتم أسماء أشخاص في بعض المناسبات، وكان يقول: ما بال أقوام  [رواه البخاري: 6101، ومسلم: 2356]، لماذا؟ وهل هذا ينافي الإيضاح والتبيين؟

الجواب: كلا؛ لأن المقصود إذا حصل بالإجمال ولم يكن في التصريح فائدة، فلماذا يكون التصريح؟

فنسأل الله  أن يجعلنا من الذين يقولون بالحق وبه يعدلون.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.