الثلاثاء 15 شوّال 1445 هـ :: 23 أبريل 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

29- قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه


عناصر المادة
نص القصة
تفسير القصة
فوائد القصة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:

نص القصة

00:00:09

فمن قصص القرآن الكريم قصة إبراهيم مع أبيه قال الله : وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ۝ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ۝ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ۝ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ۝ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ۝ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ۝ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم: 41-47].
إبراهيم أوتي رشده منذ أن كان صغيرًا، وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [الأنبياء: 51]، فأعطاه الله من الرشد ما كمل به نفسه، وأضاف الرشد إليه لكونه راشدًا قد علت مرتبته، وإلا فكل مؤمن له من الرشد بحسب ما معه من الإيمان، لكن عند إبراهيم رشدًا عظيمًا لأن إيمانه كان إيمانًا عظيمًا، وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ، اختصصناه بالرسالة، وآتيناه النبوة، وجعلناه لنا خليلاً، فاصطفيناه في الدنيا والآخرة لعلمنا أنه أهل لذلك، وكفء لذلك لأن عنده من الزكاء والذكاء، وعنده أيضاً من الأهلية، وقد آتاه الله الحجة على قومه، فكسر الأصنام، وأفحم القوم، وكانت أول دعوته لأبيه، وكان أبوه ممن يعبد الأصنام، وأحق الناس بالدعوة العشيرة والأقربين.

تفسير القصة

00:02:37

وقوله وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا [مريم: 41] جمع الله له بين الصديقية والنبوة، فهو صادق في أقواله وأفعاله وأحواله، مصدق بكل ما أمر الله بالتصديق به، وتصديقه من القلب موجب لليقين والعمل الصالح.
إبراهيم أفضل الأنبياء بعد نبينا ﷺ مباشرة، وهو الأب الثالث للطوائف الفاضلة، وهو الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، وهو الذي دعا الخلق إلى الله، صبر على ما ناله من الأذى، اجتهد في دعوة القريب والبعيد، وكان جريئًا في الحق.
هذه القصة مع أبيه قال الله فيها: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم: 42].
وهذه اللفظة اللطيفة يَا أَبَتِ فيها استمالة للأب، واستعطاف له.
يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ هذه أصنام ناقصة في ذاتها لا تسمع ولا تبصر، وكذلك هي ناقصة في أفعالها لا تغني عنك شيئًا، هي في ذاتها ناقصة لا تسمع ولا تبصر، وفي أفعالها ناقصة، وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا، ولا تملك لعابدها نفعًا ولا ضرًا، ولا تقدر على شيء من الدفع، وهذا برهان جلي، فإن عبادة الناقص مستقبحة شرعًا وعقلاً، وهذا يدل على أن العبادة لله الذي له الكمال في الذات، والأسماء، والصفات، والأفعال، والذي يملك النفع والضر ، ولذلك كان هو المستحق وهو الأهل للعبادة وحده لا شريك له.
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ[مريم: 43]، لا تقل محتقرًا لي إنني مجرد ابن صغير، إني عندي ما ليس عندك، إن عندي شيء ليس عندك، أعطاني الله إياه، أطلعت عليه من الله لم تطلع عليه أنت، ولم يقل يا أبت أنا عالم وأنت جاهل، وإنما قال: وصلني علم لم يصل إليك، لم يقل: ليس عندك شيء من العلم، وإنما قال: جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ، أنت تعرف أشياء لكن أنا جاءتني أشياء لم تأتك، وصلني ما لم يصل إليك، ولذلك ينبغي أن تتبع الحجة، وتنقاد إليها.


فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا [مريم: 43] مستقيمًا يوصل إلى النجاة من المرهوب وتحصيل المطلوب، وهو النعيم والثواب.
ما هو هذا الصراط السوي؟ عباد الله وحده لا شريك له، وطاعته في جميع الأحوال.
يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ[مريم: 44] لا تطعه في عبادتك لهذه الأصنام، كل من عبد غير الله يكون قد عبد الشيطان؛ لأن الشيطان هو الذي أمره بذلك، والله قال: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ[يس: 60].
وقال تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا ۝ لَعَنَهُ اللَّهُ [النساء: 117-118]، كل من عبد غير الله فقد عبد الشيطان.
إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا مخالفًا مستكبرًا عن طاعة ربه، ولذلك فالله طرده، وأبعده، وأخرجه من رحمته.
عَصِيًّاصيغة مبالغة، زيادة للتنفير من الشيطان؛ لأنه شديد العصيان لله. إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا المعاصي ممكن تمنع رحمة الله، كما أن الطاعة من أكبر أسباب جلب رحمة الرب.
يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ [مريم: 45] أظهر الشفقة على أبيه، أخاف عليك من شركك وعصيانك، لم يجزم بأن العقاب لاحق بأبيه، وإنما قال: أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ فذكر الخوف والمس ونكر العذاب، إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ.
والإتيان باسم الرحمن هنا للإشارة إلى وصف الرحمة، وأنه لا يمنع حلول العذاب، فالله يعذب، وهو رحمن ، وهو أعلم بمن يستحق الرحمة .
فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم: 45]، لك ولي ليس إلا إبليس، وموالاتك له توجب العذاب الأليم، تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل: 63].
ونلاحظ أن الخليل تدرج في الدعوة في دعوة الأب الأسهل فالأسهل، فأخبره بعلمه، وأن ذلك موجب لاتباعه لابنه، وأنه إذا أطاعه اهتدى إلى الصراط المستقيم، ثم نهاه عن عبادة الشيطان، وأخبره بما فيها من الأضرار، ثم حذره عقاب الله ونقمته إن أقام على حاله، وإنه يصبح بالتالي وليًا للشيطان، لقد صدرت تلك النصائح الأربعة كل واحدة منها صدرت بلفظة يا أبتِ توسلاً، واستعطافًا، وتأدبًا؛ لكن لم ينجع هذا مع الوالد الشقي، فأجاب بجواب الجاهل، قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ [مريم: 46]، فتبجح بآلهته من الحجر والأصنام، ولام إبراهيم على رغبته عنها، ثم توعده قائلاً: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ [مريم: 46] عن شتم آلهتي ودعوتي إلى عبادة الله لَأَرْجُمَنَّكَ[مريم: 46]، وأقتلك رميًا بالحجارة، وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم: 46] زمانًا طويلاً، اهرب مني قبل أن تصيبك مني عقوبة، اذهب بعيدًا، فأجاب إبراهيم جواب عباد الرحمن عندما يخاطبهم الجاهلون.
قال: قَالَ سَلَامٌ [مريم: 47] والجمهور أن المراد بالسلام هنا المراد هنا المسالمة، التي هي المتاركة، وليست التحية، كما قال الله تعالى في وصف المؤمنين: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان: 63]، وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ[القصص: 55].


فمعنى قول إبراهيم: سَلَامٌ عَلَيْكَ، أي: ستسلم من خطابي لك بما تكره، ستسلم مني فلن ينالك مني مكروه، ولا أذى لحرمة الأبوة، وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 15]، ووعده بأن يستغفر له، وقال: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم: 47]، وأسأل الله أن يهديك ويغفر ذنبك إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم: 47]، عليمًا بحالي، رؤوفًا بي، معتنيًا بي، وقد استغفر إبراهيم لأبيه، كما قال الله تعالى عنه:  رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم: 41].
لكن لما تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله، ومات آزر على الكفر، وعرف إبراهيم أنه لا يفيد شيئًا ترك الاستغفار له، وتبرأ منه، المسلمون لما سمعوا بهذه الآيات من قبل استغفروا لآبائهم وقراباتهم المشركين في أول الإسلام اقتداء بإبراهيم الخليل، لأن الله نبه على أنهم قدوة لما أنزل الله: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الممتحنة: 4]، إلى أن قال إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ[الممتحنة: 4].
لا تتأسوا به في هذا لأنه قاله في البداية، لكن لما علم أن أباه مصر على الكفر، أو مات على الكفر، لما تبين له ذلك، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة: 114].
ولا يمكن أن يدعو له بعد ذلك بالرحمة ولا بالمغفرة، ولذلك قال الله: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: 113].
وبين الله تعالى موقف إبراهيم، فقال: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة: 114].
إذًا لا يجوز الدعاء للكافر بالمغفرة والرحمة، ولذلك يقول بعض الجهلة العرب من يسمون بالمثقفين: ممكن واحد يقول: قال برناردشو رحمه الله، وممكن يكتب بعض الصحفيين العرب الجهلة أيضاً جون يرحمه الله، يعني: نصراني كافر، يكتب في الجريدة في الخبر يرحمه الله رحمه الله، أين الولاء والبراء؟ أين هذه الآية مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى [التوبة: 113].
إذا ما كانوا أولي قربى من باب أولى، إذا كان أبوك، الرسول ﷺ لما استأذن ربه أن يستغفر لأمه منعه من ذلك، ولما جاءه الأعرابي قال: أين أبي؟ قال: أبوك في النار، الأعرابي ولى وفي نفسه حسرة، دعاه قال: أن أبي وأباك في النار [رواه مسلم: 203].


ماذا تريد أكثر من ذلك، فإذًا العلاقة المقدسة -العلاقة عند الله- علاقة العقيدة، والميزان ميزان العقيدة، ولو واحد يعرف أن أباه على مات الكفر، أو أن أمه ماتت مشركة ما جاز له الاستغفار لهما، إبراهيم لما هدده أبوه، وطرده لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم: 46].
قال: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا [مريم: 48]، سأجتنبكم، وأتبرأ منكم، ومن آلهتكم، وأتوجه إلى الله ربي وحده لا شريك له بالعبادة، داعيًا إياه دعاء العبادة ودعاء المسألة، وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا عسي أن يسعدني الله بإجابتي دعائي، وهذه وظيفة الإنسان، إذا يئس ممن يدعوهم، ولم تنفع فيهم المواعظ، وأصروا في طغيانهم، فعليه أن يشتغل بإصلاح نفسه، ويرجو القبول من ربه، ويعتزل الشر وأهله، وهذا موقف اليوم كثيرًا ما يحدث للناس، واحد يكون في أهله أو مع أبيه مثلاً، أو مع أهله إخوانه أخواته، فيحاول أن يدعوهم، وهم يصرون، ويعرضون، ويكفرون.
سألني شخص سؤالاً عن أبيه، وقال: إن أبي غني جداً، ولديه أموال طائلة، لكنه لا يعرف الله، ولا يصلي، ولا يصوم، ولا يزكي، وإذا كلمته سب الله، وقد حاولت معه مرارًا، فلا فائدة، بل ربما إذا ازددت في المحاولة ازداد في السب واللعن والكفر، أتركه بدون دعوة أحسن، أنا لو أمرته بالمعروف سب الله، وهو يعتبر شخصية مرموقة في المجتمع، وله دخل كبير، ويعتبرونه مثقفًا، ويجرون معه المقابلات، ويكتب في الجرائد والمجلات، ويظهر على الشاشات، لكنه يسب الله، أنا أعرف أنه عدو لله، وهو يطاردني، ولذلك أنا أخفي عنه عنواني، حتى مكان سكني، حتى مكان دراستي، لأن أذاه قد لحقني في جميع الأماكن، ماذا أفعل؟ معه ممكن الزوجة تبتلى بزوج عاصي فاجر فاسق يرتكب الكبائر، تدعوه ولا يفيد ذلك، تحاول أن ترشده فيصر على الباطل، يركب رأسه، يلتحق بأصحاب السوء، ما هو الموقف حينئذ في هذه الحالات؟ أب معرض، زوج معرض، أخ معرض، ما هو الموقف؟ أم تشتكي تقول: هذا ابني يا ليتني ما خلفته، أنا أدعو أحيانًا على الثدي الذي أرضعه، مما يفعل بي يوميًا، إذا الإنسان ابتلي بأقارب من هذا النوع.
وهذا أحد الدروس المهمة التي نأخذها من قصة إبراهيم الخليل ، وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي [مريم: 48].


هو الآن حاول وحاول وأن يدعو أباه، يا أبتي، يا أبتي، يا أبتي، والنصح، والإرشاد، والبيان، وإقامة الحجة، ومناقشته في آلهته، ولا فائدة، خلاص، وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105].
حين ذلك تنطبق هذه الآية، إذا رأينا الإصرار، ولم تنجع المواعظ، فعند ذلك ينشغل الإنسان بإصلاح نفسه، ويرجو القبول من ربه، ويعتزل الشر وأهله، ولما كانت مفارقة الإنسان لوطنه، ومألفه، وأهله، وقومه من أشق الأمور على نفسه، ولما كان انفراده عمن يتعزز بهم ويتكثر بهم، لما كان ذلك شيئًا مؤلما للنفس شاقًا عليها، وكان من ترك شيئًا لله عوضه خيرًا منه، فإن إبراهيم لما اعتزل قومه، وخرج من بيت أبيه، ومن مألفه، ومن موطنه، فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ۝ وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم: 49-50].
إذًا جاء الخير من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ۝ وَوَهَبْنَا لَهُمْ [مريم: 49-50] -أي لإبراهيم وبنيه- مِنْ رَحْمَتِنَا [مريم: 50].
من العلوم النافعة، والأعمال الصالحة، والذرية الكثيرة المنتشرة، وفيهم أنبياء وصالحون، وعلماء، ومجاهدون، وقادة في الخير وأئمة، وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم: 50]، فهذه كلها من الرحمة نشر الله لهم لسان ثناء عليهم في الآخرين، بحسب إحسانهم، نشر الله ذكرهم الحسن بين العالمين، فملأ ذكرهم الخافقين، وطبق الأرض الثناء عليهم، ومحبتهم لقد امتلأت بها القلوب، وفاضت بها الألسنة، فصاروا قدوة للمقتدين، وأئمة للمهتدين، ولا تزال أذكارهم في سائر العصور متجددة، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة: 4].


لكن ما هي نهاية قصة إبراهيم مع أبيه؟ هل انتهت القضية بالطرد، وإبراهيم خرج من البيت، واعتزل أباه، وانتهت المسألة؟
كلا قال النبي ﷺ: يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة سواد الكآبة على وجه الأب يوم القيامة، والغبار من التراب يعلو وجه آزر، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، ولكن بعد فوات الأوان، فيقول إبراهيم: يا ربي إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم ما تحت رجليك فينظر فإذا هو بذيخ ملتطخ الذيخ الضبع.
ملتطخ منتن، قذر، متسخ، فيمسخ الله أباه ضبعًا، والحكمة في مسخه ضبعًا لتنفر نفس إبراهيم منه، فلا يشفق عليه، ولا يحس نحوه بأي أسف، لقد صار أباه ضبعًا متسخًا منتنًا مقرفًا، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار [رواه البخاري: 3350]، هذه نهاية آزر، هذه النهاية التي لم تأت بعد، ولكنها ستأتي حتمًا، لأن الخبر من الصادق المصدوق ﷺ.
الضبع حيوان أحمق، وآزر كان من أحمق البشر؛ لأنه بعد أن ظهر له الآيات البينات رفض، وممن؟ من ابنه. يعني: الواحد يفرح أن ابنه يتفوق في أمور الدنيا، فالعجب من هذا الأب الكافر الذي لم يعجبه أن ابنه فاقه في أشياء من العلم، بل صار نبيًا، وأصر على الكفر، ولم يطع ابنه مع أنه رأى بنفسه الآيات، ولأن للضبع عوجًا، فكانت تلك إشارة إلى عوج آزر، هذا سيكون مصير آزر يوم الدين، تبرأ منه إبراهيم في الدنيا، وسيتبرأ منه في الآخرة، وهكذا جاء عن سعيد بن جبير أنه قال يقول إبراهيم لأبيه: إني كنت آمرك في الدنيا وتعصيني، لكن عندما يمسخ ضبعًا يتبرأ منه إبراهيم .

فوائد القصة

00:25:02

إن هذه القصة حفلت بفوائد كثيرة، ومنها:
البداية بالدعوة في الأقربين.
إبراهيم بدأ بأبيه، هذا ما فعله النبي ﷺ امتثالاً لقول الله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ[الشعراء: 214].
ولما نزلت هذه الآية صعد النبي ﷺ، وقال: يا معشر قريش اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئًا  [رواه البخاري: 2753، ومسلم: 206].
إذا كفرتم لا أغني عنكم من الله شيئًا، وهكذا كان الصحابة حريصون على هداية أقربائهم، وهكذا كان أبو هريرة حريصًا على هداية أمه، وهكذا كان أبو بكر حتى أسلم أبوه في فتح مكة، وفقه الله للإسلام شيخًا كبيرًا، نحسن صحبته مادام معنا، ثم إن الله أمر باتباع ملة إبراهيم، ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 123].
ومن اتباع ملة إبراهيم أن نتبعه في طريقة دعوته بالعلم والحكمة، واللين والسهولة، والانتقال من مرتبة إلى مرتبة، والصبر في الدعوة، وعدم السآمة، وبذل الحق للخلق، والقول بالقول والفعل، وكذلك الصفح والعفو والإحسان.
فعلى الدعاة أن يتحلوا بالرفق اقتداء بأبي الأنبياء إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، ولا ما لا يعطي على ما سواه، فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159].
على الداعي أن يهتم بالأدلة السمعية والعقلية.


وليس فقط بالنصوص في دعوة الكفار الكافر قد لا يحترم نصًا، ولا يحترم الآية ولا الحديث، وتحتاج إلى مجادلته بالتي هي أحسن، وأن تورد من والحجج العقلية والسمعية ما يقنعه، وإبراهيم قال لأبيه: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم: 42]، أقام الحجة عليه، الله ناقش الكفار حتى في القرآن بأدلة عقلية، وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ۝ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ۝ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ۝ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ[يس: 78-81]، أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور: 35] خلقوا أنفسهم خلقوا من العدم، كيف جاءوا؟ إن لهم موجدًا وخالقًا؟
وهكذا نرى أن إبراهيم وغيره من الأنبياء لا يملكون الهداية لأحد، وأن الله إذا كتب الضلال على واحد، ولو جئت بأحسن داعية في العالم لا ينفعه، مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ [المائدة: 99]، إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص: 56] ومن رحمة الله بالدعاة أنه كلفهم بالدعوة، ولم يكلفهم بالنتيجة، لو كان كلفنا بالنتيجة مصيبة، معناه إذا ما اهتدى المدعو سنعذب، لكن الله ما كلفنا بالنتائج، قال: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة: 272].
لكن ماذا عليك؟ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:20]، إذًا نحن وظيفتنا أن ندعوا، لكن ما علينا اهتدى الخلق أو لا، ليس علينا هذا، ولا بدّ من تقرير التوحيد، وعرضه على الناس بالحسنى، وهذه من أهم الأمور، ولاحظنا كذلك في هذه القصة، كيف أن من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، وكان التعويض لإبراهيم عن الأبوة التي فقدها بنوة صالحة، وأنبياء من صلبه، والحمد لله رب العالمين.