الجمعة 11 شوّال 1445 هـ :: 19 أبريل 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

مراعاة الفقهاء للجوانب الاجتماعية


عناصر المادة
تنحية أعداء الله للشريعة وحيلهم في ذلك
إعادة الهيبة للدين ووسائل ذلك
تعظيم القرآن والسنة في نفوس المسلمين
ربط النص بالواقع
أسباب انتشار الجرائم في المجتمع
عدم التدين
التدين الصحيح صمام أمان للمجتمع
العلماء ليسوا بمعصومين
عدم السكوت عن الطاعنين في الإسلام وأهله
إظهار الوجه الحسن للمجتمع
بيان شرف ومكانة أهل العلم الشرعي
كيف نعرف العلماء
صفات وعلامات العلماء
بعض حقوق العلماء

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
درس الليلة درس طويل، ولذلك سنقسمه إلى قسمين، ولن يزيد درسنا في هذه الليلة عن الساعة إن شاء الله، وستكون المحاضرة أيضاً القادمة إن شاء الله عن هذا الموضوع، وسيكون الموضوع يميل إلى الجانب العلمي لطبيعته، ولعلنا سنبدأ بقضية الفقهاء والعلماء قبل أن نتكلم في مسألة مراعاة الأحوال، فنتكلم عن مسـألة الفقهاء والعلماء أولاً بهذا الدرس بمشيئة الله، ثم نتكلم عن مراعاة الأحوال في الدرس القادم بمشيئة الله تعالى.

تنحية أعداء الله للشريعة وحيلهم في ذلك

00:00:56

لا شك -أيها الإخوة- أننا نعيش في هذا الزمن أمراً عصيباً يتمثل في قيام أعداء الإسلام بتنحية الشريعة عن جوانب الحياة المختلفة.
وقد أخذت هذه القضية في هذا الزمان بعداً خطيراً، وتلبست الدعوة إلى تنحية الشريعة عن الحكم في نواحي الحياة بلبوسات كثيرة، ومن ذلك: أنك ترى هؤلاء الذين يريدون إسقاط الشريعة عن الحكم في حياة الناس لا يقولون: إن الشريعة غير صالحة، ولا يقولون: إن الإسلام سيء، فهم لا يسبون الدين، أو يتهمون الإسلام صراحة؛ لأنهم يعلمون أنهم إذا فعلوا ذلك فإنهم سيسقطون من عيون الناس، فلذلك ترى دعواهم الآن تقول: الإسلام دين جميل، الإسلام دين عظيم، الإسلام دين رائع، ونحو ذلك، لكن يقولون: لكن المشكلة في العلماء والفقهاء والدعاة وطلبة العلم والصحوة، والذين ينتسبون إلى الإسلام.
وهذه النظرة التعميمية كل العلماء وكل الفقهاء وكل الدعاة وكل الصحوة، وكل من أراد أن يحمل هم الدين، إسقاط هؤلاء هو في الحقيقة إسقاط للدين، لكن نظراً لأن كلمة: الإسلام سيء، أو الشريعة غير صالحة، صار هذا كفراً بواحاً واضحاً، فلذلك الخطة الجديدة تقتضي أن لا يقال هذا الكلام، وإنما يقال: المشكلة في جمود فقهائنا، المشكلة في جمود علمائنا، المشكلة في هؤلاء أهل الدين أنفسهم.
هذا هو الوتر الجديد الذي يعزف عليه هؤلاء.
ولا شك أن هذا سيؤدي إذا أسقطنا الفقهاء والعلماء والقضاة، شن الحملة الآن على الفقهاء والعلماء والقضاة وطلبة العلم والدعاة كلهم هو في الحقيقة إسقاط للدين، وهذه قضية خطيرة جداً ينبغي أن يتنبه إليها، ينبغي أن يتنبه إليها المسلمون، فإن هناك من يريد شراً عظيماً بهذا الدين.
وكذلك فإنه يوجد عندنا ثلاث طوائف قد أساؤوا إساءة بالغة إلى هذا الدين، ونحن لا ننكر أنه يوجد أناس جامدون، ويوجد أناس متفلتون، ولذلك عند الكلام في هذا الموضوع فلا بد أن تراعى مسألة الجمود ومسألة التفلت؛ لأنهما طرفان، فيمكن أن نقول: إن هذه الشريعة قد جنى عليها الجامدون كما جنى عليها الجاحدون، وقد تكلمنا عن الجاحدين في بداية الكلام، ويمكن أن نزيد بعضاً من أطروحاتهم قبل أن نتكلم عن الجامدين.
أما الجاحدون فإنه قد يصل به من الأمر إلى التصريح الواضح والصريح بأهمية تنحية الدين وإن كانوا لا يستعملونه مؤخراً، لكن سبق هذا الطرح في وقت من الأوقات، ومن أمثلة من طرح هذا الطرح: محمد شقرون -عليه من الله ما يستحق-، فيقول: إن ضرورة تفكيك الدين من أجل التحرير ضروري لمجال الفكر، وذلك لإنتاج تأويل علمي عن الاجتماع لم تطرح بصراحة وجرأة في الوطن العربي كضرورة واضحة لممارسة العلم بصفة عامة، وممارسة العلوم الإنسانية بصفة خاصة، ويرجع هذا بالطبع إلى غياب حقل علمي يتمتع بكامل الاستقلالية عن الدين نفسه.
فإذًا هؤلاء يقولون: إن وجود الدين عائق عن التفكير، وعائق عن الانطلاقة العلمية، وحتى يكون هناك انطلاقة علمية، ونأخذ بركاب الحضارة كما يقولون، لا بد من تنحية الدين.
ويقول سعد الدين إبراهيم: نعم يستطيع مجتمعنا أن يعيش ويتقدم بلا علماء الاجتماع العرب، أما علماء الاجتماع والنفس والإعلام والآثار، فيمكن للمجتمع أن يعيش ويتقدم بغيرهم، ماذا يحدث للوطن العربي إذا اختفى كل علماء الاجتماع فجأة ؟ والإجابة لا شيء سيحدث للمجتمع سلباً أو إيجاباً.


وقد طرح أحدهم مؤخراً في بعض المقابلات التي جرى الحديث عنها مسألة أن المسلمين يطعنون في الغرب، والعيب فيهم، ولكن لا يقول: عيب في الدين، يقول: الدين جميل والدين متين، ولكن العيب في هؤلاء المسلمين، ويقصد بهم العلماء والدعاة وطلبة العلم، هؤلاء جميعاً، ولذلك يقول: إنكم تضخمون ما عند الغرب من العيوب، إنكم تقولون إن الغرب فيه فضائح جنسية، وفيه أزمات نفسية، وفيه إحباطات، إلى آخره، ولكنه في الحقيقة هو الذي يمثل الإسلام الحقيقي، يعني وصل الأمر إلى أنهم قالوا: ما هو موجود عند الغرب هو الإسلام الحقيقي، ونحن عندنا قشور، والغرب عنده اللب، ولذلك فإنه ينبغي على هؤلاء الذين يريدون النهوض بالأمة اليوم أن يتركوا الذين يدعون إلى هذه الشريعة على الطريقة القديمة، ويسمون الذين يتمسكون بالدين تارة نصوصيين، وتارة شفهيين، ما معنى شفهيين؟ يعني يقولون إن القضية عندهم قضية خطابة، وتسميع، وحفظ، شفهيين، لكن ما عندهم قضية تجارب، وليس عندهم قضية المختبرات، وليس عندهم قضية العلوم التجريبية، وهكذا...
وأحياناً الكلام قد يكون فيه جزء من الصواب، ولكنه يراد به إسقاط الكل، إسقاط الحق بالكلية.
وأما بالنسبة للجامدين فقد نص العلماء على أن من يفتي من بطون الكتب من غير نظر لواقع الناس أنه من أسباب الضلال المبين، والانحراف عن الحق والهدى.
قال القرافي -رحمه الله-: والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين، وجهل بمقاصد المسلمين، والسلف الماضين.
قال ابن القيم -رحمه الله- معلقاً: وهذا محض الفقه، ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم، فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل، وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم -والله المستعان- [إعلام الموقعين: 3/66].
إذًا، ما نجده اليوم من تخلف عند المسلمين نتيجة للجاحدين والجامدين.
ولا شك أن شريعتنا شريعة كاملة ومرنة، ومن أدلة ذلك: وجود القياس، لو كان هناك جمود لما كان هناك قياس، ولكنك تجد العلماء يستنبطون الأحكام من النصوص، يستنبطون أحكام الوقائع الموجودة من قضايا مشابهة موجودة في الكتاب والسنة.

إعادة الهيبة للدين ووسائل ذلك

00:08:18

 فماذا يجب علينا اليوم للرجوع إلى إعادة الهيبة لهذا الدين؟
إن عودة الهيبة لهذا الدين تقتضي وجود علماء أقوياء، والدفاع عن هؤلاء العلماء وجعل المرجعية لهؤلاء العلماء في أمور الحياة المختلفة.
إن هذه المرجعية هي التي تعيد للدين هيبته التي فقدت عند الكثيرين.

تعظيم القرآن والسنة في نفوس المسلمين

00:08:44

 لإعادة هيبة الدين أيضاً لابد من تعظيم القرآن والسنة في نفوس المسلمين، فإن قضية هيبة النصوص أو هيبة القرآن والسنة قد ضاعت عند الكثيرين نتيجة لمزاحمة نصوص القرآن والسنة بزبالات أذهان البشر، ونحن إلى التمسك بنصوص القرآن والسنة اليوم أحوج من أي يوم مضى.
وجهل الناس باللغة العربية هو أحد الأسباب التي أدت إلى ضياع هيبة النص، فإنك ترى أن المستوى النازل في اللغة يسبب عدم فهم النص، وبالتالي عدم التأثر بالنص، وإذا كان النص بالنسبة للجيل هو عبارة عن طلاسم فكيف سيكون له أثر في النفوس؟ وكيف سيعظمونه؟ لكن عندما يدرك الناس هيبة النص، فإنهم سيعظمونه عندما يدركون معناه سيهابونه.

ربط النص بالواقع

00:09:41

 وأيضاً من الأمور أيضاً المهمة: ربط النص بالواقع الموجود، فإن الناس كلما رأوا النصوص ترتبط بالواقع الذي يعيشون فيه كلما كان ذلك مدعاة لتعظيم هذا النص؛ لأنهم يرونه يتكلم في واقعهم، والله قد ذكر لنا في كتابه العزيز كثيراً من الأمثلة التي نراها منطبقة موجودة في واقعنا أيضاً، ونرى النص وإن كان يتحدث عن سبب معين له سبب نزول معين أو مرتبط بقصة معينة فيما مضى، فإننا نجده في الواقع أيضاً ينطبق على أمور كثيرة، والله قص على سبيل المثال، قص علينا في سورة البقرة قصة منافقي اليهود، اليهود كان منهم رهبان وكبراء معلنين للكفر، والنبي ﷺ لما أراد أن لا يدخل المدينة إلا مؤمن من باب المحافظة عليها، ولا يكون هناك غرباء ودخلاء وجواسيس على المسلمين، فإن بعض هؤلاء الكبراء من اليهود والأحبار قد أمروا بعض أتباعهم بإعلان الإسلام في الظاهر، فصاروا يدخلون المدينة على أنهم من المسلمين: وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا  مثلكم دخلنا في الدين وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [البقرة: 76 - 77].
ونحن في تأملنا لهذا النص على سبيل المثال نتصور أن هنالك مؤامرات خفية واجتماعات سرية كان يعقدها اليهود ويعقدها المنافقون للنيل من الدين، وكان الصحابة بلا شك يتمنون أن يعرفوا ماذا يدور في هذه الاجتماعات؟ وماذا يدبر في هذه المؤامرات؟ لكي يأخذوا حذرهم، لكي يعملوا ما يبطل هذه المؤامرات، والله -سبحانه وتعالى- من لطفه بالصحابة وعنايته بهم وقدرهم عظيم عنده، فلذلك أوحى إلى نبيه ﷺ بما يوجد في اجتماعات هؤلاء السرية والخاصة بالنص، فلذلك قال في الآية مثلاً: وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [البقرة: 76] يعني إذا جاء منافقو اليهود إلى الصحابة قالوا: آمنا مثلكم وأسلمنا، وإذا رجعوا إلى أحبارهم وكبرائهم ككعب بن الأشرف وغيره، وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ  قال الذين لم ينافقوا للذين نافقوا ودخلوا على المسلمين وحدثوهم ببعض ما في التوراة، فحدث مثلاً أن بعض اليهود حدثوا بعض المؤمنين بما يوجد في التوراة من صفة النبي ﷺ وبمبعثه والإيمان به.
وهناك قول آخر بأنهم حدثوا المسلمين بما فتح الله عليهم من العقوبات، فإن كلمة: فَتَحَ  تأتي بمعنى قضى وحكم، يفتح تأتي بمعنى يحكم ويقضي، فصاروا يقولون إن مثلاً موجود في التوراة أن بعضنا قد مسخوا إلى قردة وخنازير في السابق، فصار المسلمون يأتون ويقولون لليهود: يا إخوان القردة والخنازير، فقال بعض اليهود: مم هذا؟


بالتأكيد إن بعضكم قد أخبر المسلمين بما في التوراة من أننا سبق أن حصل لنا كذا وكذا، مع أن الله قد أخبرنا عن قضية المسخ، ولا نحتاج إلى التوراة لمعرفتها، لكن من جهلهم يظنون أن السبب المصدر هو إفشاء بعض اليهود لما في التوراة.
وكذلك أنهم قالوا: أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ  إذا كان المقصود ذكر صفة النبي ﷺ ومبعثه والإيمان به، فإن في هذه الحالة التحديث به عند المسلمين يعني إعطاء المسلمين مستمسكاً في الاحتجاج على اليهود؛ لأن المسلمين سيقولون لليهود حينئذ : أنتم مذكور عندكم في التوراة محمد ﷺ وصفة محمد ﷺ ومبعثه والإيمان به، ثم لا تؤمنون به، فتكون هذه حجة قوية ضد اليهود، وحيث أن اليهود لا يريدون أن يكون بيد المسلمين حجة عليهم ولا مستمسك، فلذلك قالوا لأصحابهم: أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ، هذا الكلام سري أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ  هذا كان في اجتماع خاص بين اليهود أنفسهم، ومع ذلك تم إفشاؤه في القرآن، وانتقلت المسألة من السر إلى العلانية من عند الله ، ولماذا سميت سورة التوبة بالفاضحة والمقشقشة؟
لأنها أظهرت ما عند المنافقين ما يخفونه في أنفسهم وما أسروه في اجتماعاتهم، كله انكشف يعرض، يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون: 8]،  لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ [المنافقون: 7] أقوال المنافقين التي كانت سرية في اجتماعات السرية،لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ تم إفشاؤها، في السور التي تناولت المنافقين، في سورة المنافقين، والنور والأحزاب، وكذلك التوبة، وغيرها.
إذًا، نفس ما كانوا يدبرونه في الخفاء ظهر إلى العلن، ففضحهم الله -سبحانه وتعالى-.
الآن هذه القضية قضية إفشاء ما عند القوم التي تولاها القرآن الكريم نصرة للصحابة والنبي ﷺ يحذر منها هؤلاء جداً اليوم أن تظهر سرائرهم، ولذلك أحياناً ترى تسريباً من بعضهم أو تصريحاً يدين هؤلاء الأعداء أنفسهم، فسرعان ما يسحبونه، يقولون: سحب التصريح، أو يخرج واحد ويخطئ، يخرج رئيس الذي صرح ويخطئه على تصريحه، أو أنهم يقولون: ما فهم وأخذ على غير مقصود، وأنه قد حرفت كلماته على غير مراده، ونحو ذلك.
المهم أن لا يوحد مستمسكات عند المسلمين بهذا الشأن.
والقضية مرة أخرى أن هؤلاء -أيها الإخوة- أن النص هذا إذا نحن فهمنا كيف يشابه الواقع ما في النص زادت هيبة النص في نفوسنا.


إذًا مرة أخرى نقول: لتعظيم هيبة النصوص:
أولاً: لا بد أن تفهم، ثم يبين ارتباطها بالواقع، وكذلك أن تحفظ في الصدور، وقد قال الله :بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ[العنكبوت: 49].
ثم إننا يجب أن ننظر في خطة هؤلاء أعداء الدين في قضية تضييع هيبة الدين من النفوس، فإذا كانت خطتهم مثلاً: التنزيل من شأن العلماء، أو الطعن في القضاة، كما يفعلون الآن، الطعن في القضاة، وإذهاب هيبة المحاكم والأحكام الشرعية، فإنه يجب علينا أن نعزز هذا، فنذكر فضل العلماء، فضل القضاة، فضل الأحكام الشرعية، ونحو ذلك.

أسباب انتشار الجرائم في المجتمع

00:17:00

وأيضاً فإن هنالك اليوم هجوماً على أهل الدين والمتدينين، وأن يقال: إن التدين هو سبب المصائب، فيجب أن نبين بجلاء أن التدين ليس هو سبب المصائب، وأنه لا تحدث مصيبة أو كارثة أو يحدث شر إلا بسبب مخالفة التدين، وليس بسبب التدين، وهذه المسألة مهمة جداً، فإن أعدائنا يريدون الربط اليوم بين الشرور الذي تحدث والمكروهات وبين التدين، فيقال لهم: كلا، ليس التدين سبباً لها، إنما عدم التدين هو السبب.
وإذا قيل: فما بال أهل الغلو؟
نقول: ليس التدين بالغلو من الإسلام، ولا يعتبر هذا تديناً، فهل أن تقول مثلاً عن الخوارج الذين ظهروا في عهد الصحابة -رضي الله عنهم- إنهم ناس متدينون، وإنهم على السبيل المستقيم وإنهم على الجادة أبداً، هؤلاء منحرفون، أهل غلو، كفروا الصحابة، كفروا علياً ، وهؤلاء الذين ولغوا في دماء الأمة، وقتلوا من أبناء الصحابة، قتلوا من أتقى الناس، جاؤوا إلى رجل كان يعبد الله في مكان واعتزل الفتنة عنده مصحف ويقرأ منه، وعنده أمه وليدة حامل، أخذوه وجروه وأخذوا مصحفه، قطعوا رأسه، وأسالوا دمه في الماء، وأخذوا جاريته، فبقروا بطنها واستخرجوا جنينها، هذا الفعل، هل يمكن يقوم به شخص متدين؟ أبداً.
إذًا، هذا ليس بصاحب دين.
وبالتالي فإنه يجب في المعركة مع هؤلاء أن نبين لهم أن التدين هو سبب الأمان، وأن التدين هو الذي يحمي المجتمع من الشرور، وأن التدين هو ضد الغلو وضد التفلت، فإنك ترى الآن ما هي أسباب الجرائم في المجتمع؟

عدم التدين

00:18:51

أولاً: عدم التدين؛ لأن الذي لا دين له، لا يخاف الله فإنه يقتل، يسفك الدماء، يسرق، يعتدي على الأعراض، يزور، يرتشي، يغش، يظلم، كل هذا يفعله، ولذلك هناك أناس كثيرين في البيوت يخشون على أنفسهم، بل ربما يوجد مدمن مخدرات في البيت أخوات هذا المدمن لا يأمن على أنفسهن.
إذًا عدم التدين سبب لزوال الأمن، وحوادث السطو المسلح، وقطع الطرق، وسرقة السيارات، ونشر المخدرات، وما يحدث من أنواع التزوير والسرقة، وغيرها، ما هو السبب فيها؟ عدم التدين.

التدين الصحيح صمام أمان للمجتمع

00:19:34

إذًا التدين هو السبب هو الأساس لأمان المجتمع، وإذا ظهر من عنده غلو يستبيح به دماء المسلمين، فلا يقال عنه شخص متدين، بل عنده غلو، والغلو هذا مفسق، يعني الآن أن تنظر إلى بدعة الخوارج الذين استحلوا بها دماء المسلمين، هل تقول إن هذه البدعة مع التدين؟
أبداً، ولو كان عندهم بعض مظاهر التدين، لكن ليسوا حقيقة بمتدينين، بل إن هذه البدعة تفسقهم، ويرى كثير من العلماء أنها تكفرهم.
فإذًا هذا ليس تديناً صحيحاً.
إذًا -أيها الإخوة- من الأشياء أيضاً التي ينبغي التركيز عليها في هذا الوقت: أن التدين الصحيح هو سبب الأمن، وهو صمام الأمن في المجتمع، وإذا اختل هذا التدين سواء بزيادة وغلو، أو بنقص وتفريط وتضييع، فإن المجتمع سيختل أمنه.

العلماء ليسوا بمعصومين

00:20:33

وأيضاً فنحن في كلامنا عن موضوع العلماء والفقهاء والدعاة وطلبة العلم، فإنه ينبغي أن نظهر الجانب البشري للموضوع، فنقول: إن هؤلاء ليسوا بمعصومين، وإنهم يصيبون ويخطئون، والنبي ﷺ قد خطأ بعض كبار أصحابه في مواقف معروفة، حتى أبو بكر وعمر، وقال لأبي بكر -رضي الله عنه-: أصبت بعضاً، وأخطأت بعضاً.
وبين استعجال عمر في بعض المواضع، وقال له:إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدا[رواه البخاري: 3182، ومسلم: 1785].
إذًا، الجانب البشري هذا مهم بيانه لئلا يظن بعض الناس أن هؤلاء لا يخطئون، وإذا أخطأوا كيف يخطئون؟ فيفقد الثقة بهم، فتبيين بشرية هؤلاء، والتأكيد عليها هذا مهم، مع قضية توقيرهم واحترامهم، كما سنعرف، هذه مسألة مهمة.
فإذًا، الذين يقولون: هذا أخطأ، إذًا يسقط، نقول: لماذا؟
النبي ﷺ أخطأ في مواضع، بل إنك تجد بعض النصوص عجيبة في القرآن: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى  [عبس: 1 - 2]، وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ [الأحزاب: 37] عبارات شديدة،وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ[الإسراء: 73]، ثم قال له: لو فعل ذلك أو أخفى شيئاً من القرآن، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: 45 - 46] عرق القلب الذي إذا قطع مات الإنسان، فإذا كان هذا الكلام يقال على شدته للنبي ﷺ وهو أحب الخلق إلى الله، يقال له هذا الكلام، فلغيره من باب أولى؛ لأن المقصود هو الصراحة في عرض الحق، وأن الحق أعلى وأغلى من الرجال، ولذلك فإن مسألة الحفاظ على هيبة العلماء واحترامهم وتوقيرهم لا تعني ادعاء العصمة لهم، لا، لكن من الذي يخطئ العالم؟ سؤال من الذي يخطئ العالم؟ عالم آخر، لكن إذا قام على تخطئة العلماء هؤلاء المنافقين، هؤلاء الذين يكتبون السموم، فهل نقبل منهم؟ وأيضاً نفس الشيء أنت أحياناً في موقف من المواقف قد يقع في أحد الدعاة شخص، فيقال له: ليس مثلك الذي يبين خطأه، إنما الذي يبين خطأه الدعاة، لماذا؟ لأن هذا إذا قصد التشفي، يقول: وأخيراً وقعنا على ممسك، يفرح بها، لكن الداعية إذا وجد خطأ عند الداعية الآخر، قال بأسلوب الإشفاق: فلان إن هذا خطأ، ما كان ينبغي، ولعله قصد كذا، ويلتمس له عذراً، ويبين أنه خطأ، المهم بيان أنه خطأ، لكن بأدب وإشفاق، الآخر ينتهزها فرصة للطعن في الدين، وأن يقال: هذا التدين لا نريده، والمقصود به الدين في الحقيقة.

عدم السكوت عن الطاعنين في الإسلام وأهله

00:23:22

 وكذلك -أيها الإخوة- فإن من الأمور المهمة جداً في  المواجهة في هذا الوقت: قيامنا بالرد وعدم السكوت، وإن السكوت عن الذين يطعنون في الدين وأهل الدين جريمة؛ لأن السكوت في هذه الحالة عن هذه القضية يعني بأن الذي ينتقدون معهم حق، ولو كان هؤلاء المنتقدين على حق لردوا عن أنفسهم، ولذلك فإن الإنسان أحياناً لا يشتهي أن يرد أساساً، ولا يتكلم ابتداءً، لكن إذا تكلموا تكلمنا، لو تكلمنا ابتداءً قد تفسر على أنها انتصار للنفس أو يقال: لماذا تدافعون عن أنفسكم؟ كأنكم متهمون، "كاد المريب أن يقول خذوني"، ولكن عندما تأتي التهمة من هؤلاء أو الطعن، فلا بد من الرد، وإذا أتينا على سبيل المثال إلى قضية المرأة، والمؤامرات التي تحاك حول المرأة اليوم، لا بد أن النساء أيضاً يشتركن في الرد، وحبذا لو أن بعض المعلمات والداعيات في مراكز القرآن وغيرها أن يقدمن: مسابقة أحسن رد، فيأخذ من دعاوى هؤلاء الكذابين والمنافقين وأصحاب الشهوات والشبهات التي يكتبونها في المقالات اليوم يؤخذ مقطع، ويجعل في مسابقة أحسن رد، وتستنفر هؤلاء الفتيات والنساء لكتابة الرد على هذه المقالة، ويوضع شروط للرد، مثلاً يكون لا يخلو من النص الشرعي كآية أو حديث، لا يخلو من قول عالم حتى يكون له مستند، أن يكون فيه رد بالمعقول أيضاً وليس بالمنقول فقط؛ لأن بعض هؤلاء لا يؤمنون بالأدلة، وأن يكون مكتوباً بأسلوب رصين وجيد وقوي ومفهوم، وفيه عاطفة أيضاً، وقوة وجرأة في الطرح، وتجعل الجوائز لتشجيع هؤلاء على الرد على هذه الأطروحات، هذه مسألة مهمة جداً.
وفي بعض القضايا كقضايا المرأة عندما ترد المرأة يكون ردها أقوى من رد بعض الرجال، وحتى لو كتبت اسمها الحقيقي لا ضير في ذلك، فهذه معركة بين الحق والباطل، ويسلك في السبيل إليها كل طريق يقويها، ولو كتبت مثلاً: أختكم في الله أو ناصحة، وكان الرد ضعيفاً أو لا ينشر، فلتكتب اسمها الصريح.
إذًا، لا بد من عدم السكوت والرد على هذه الأطروحات الكثيرة.

إظهار الوجه الحسن للمجتمع

00:25:38

 أيضاً من الإجراءات التي تتخذ اليوم في مواجهة هؤلاء الذين يطعنون في العلماء والدعاة والتدين: إظهار الوجه الحسن للمجتمع.
وهذه مسألة مهمة جداً -يا إخوان-، فإنك أحياناً تستغرب عندما تستعرض بعض ما يكتب في هذه الصحف أكثره شر، اختطاف، قتل، سرقة، اعتداء، فواحش، عصابات، زنا، لواط، شذوذ، من كثرة ما تقرأ تظن أن المجتمع هذا خربان، يعني تظن المجتمع هذا كله فاسد؛ لأن هذه كل العناوين هكذا، ولا يشترط أن يكون هذا الشيء حاصل فقط بسبب مسألة الشهرة والإثارة، لا، يمكن أن يكون هؤلاء القوم يريدونها عمداً، لكي يقال هذا هو المجتمع.
فإذًا، خلاص المسألة لا أحد يستحي من شيء، ترى كله كذا، كل الناس في خراب، وتذكر بعض الجرائم بأشنع تفاصيلها حتى تهون ما دونها ويصبح يعني ارتكاب الشيء الأدنى أمراً عادياً، وهنا يكمن أهمية إظهار الوجه المشرق للمجتمع، وأن يقال المجتمع فيه صلحاء وعباد وزهاد وأخيار وأبرار وأفاضل، وفيه علماء وطلبة علم وقضاة ودعاة، وفيه محتسبون للأجر، ومتصدقون ومنفقون، وفيه عباد في المساجد، وفيه ناس يبكرون فيها، ويعبدون الله، وفي رمضان والحج، وانظر إلى ازدحامهم في العمرة، والجمع، وكل ما بني مسجد جديد قد امتلأ بالناس والحمد لله، وهذه حلق تحفيظ القرآن، والناس مقبلون عليها كثر، والدورات العلمية والمسجلون فيها كذا، ومواقع الإنترنت التي تنتشر بهذا الدين يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً، وما يحدث في العالم من بناء المراكز الإسلامية، وهذه الجاليات الإسلامية كذا، وبحث الناس عن المصارف الإسلامية ليضعون فيها أموالهم، وكثرة الاستفتاءات عن الاكتتابات والأسهم التي تدل على أن الناس تميز الحلال من الحرام، وأن عندها ورع وعندهم فقه وعندهم رغبة في تعلم الأحكام الشرعية، وهذه إقبالاتهم على الدروس والمحاضرات، وإذاعات القرآن الكريم التي تنتشر وتتكاثر، وأنها لها شعبية أكثر من قنوات الأغاني مثلاً، وعندها عند كثير من المسلمين، هذا الكلام مهم جداً جداً في مواجهة من يحاول أن يصور المجتمع إنه كله مجتمع دعارة وفسق وخمور ومخدرات، وأن هذا هو الواقع، وهذا هي الشيء العام وهذا هو الشيء الطبيعي، وقضية واحد في المسجد ويقرأ في كتب العلم هذا شيء شاذ، فخلاص يا ناس انزلوا، لا تستنكروا خلاص الوضع طبيعي، كله جرائم ومنكرات، ومحرمات، خلاص، هذا شيء طبيعي.
وسنعرف إن شاء الله في قضية مراعاة الأحوال في الموضوع في الدرس القادم في التعليق على حديث: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود [رواه أبو داود: 4375، وأحمد: 25474، وقال محققو المسند: "حديث جيد بطرقه وشواهده"] في مراعاة الشريعة للأحوال، ذوي الهيئات  الناس أصحاب المكانة، سواء كان مكانة دينية علمية أو بين مثلاً في القبيلة كأن يكون سيداً، أو شريفاً له سؤدد، لماذا هذا الحديث: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم ؟ يعني إذا حصلت منه زلة لأول مرة، مرروها له إلا الحدود، الحدود ما فيها لعب، خلاص هذه إذا بلغ الإمام الحد فلا بد أن يقام، لكن لماذا  أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم ؟ فيه معنى مهم في الموضوع هذا، لماذا يراعى حال هذا الشخص؟ واحد صاحب مكانة دينية علمية مثلاً، صاحب شرف بين قبيلته مثلاً من المقدمين؛ لأنه لو عوقب على الخطأ الذي يعمله لصارت مسألة المعصية ما تفرق معه، خلاص يقول: يعني ما دام فضحنا وفضحنا، وعوقبنا وعوقبنا خلاص الثانية تسهل، لكن لما يقال: نحن سترنا عليك نظراً لمكانتك بين الناس؛ لأننا لا نريد أن نحطم مكانتك بين الناس؛ لأننا لا نريد أن نشوه سمعتك، فامض بستر الله ولا تعد، أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم ، هذا المفهوم مهم جداً، لأجل قضية المحافظة على مكانة هؤلاء الناس؛ لأنه إذا صار هؤلاء الكبراء أيضاً الخطأ ما يفرق معهم، الفضيحة وصارت، والعقوبة حصلت، فيتجرأ ويجرئ غيره، بينما لما يبقى هناك تماسك في منطقة معينة أو مستوى معين في المجتمع، والناس يخشون من الزلل ويحاولون لو صار شيء إخفاء ما حصل، والواحد نفسه تريده أن يقع في معصية، لكن يخاف على سمعته يصبح هناك شيء من الفرملة كما يقولون في قضية ارتكاب المعاصي والاجتراء عليها.
إذًا، هذه من الأمور المهمة في هذه المواجهة.

بيان شرف ومكانة أهل العلم الشرعي

00:30:22

 أيضاً من القضايا: تبيين شرف أهل العلم الشرعي على غيرهم، وهذا الكلام طبعاً قد لا يسوغ عند بعض الناس، لا يروق لهم، فإذا قلت لهم: إن الآيات الواردة في الكتاب والسنة في فضل العلماء وشرف العلماء المقصود بها العلم الشرعي، فسيقولون: طيب وعلم الطب؟ وعلم الفلك؟ وعلم الجيولوجيا؟ وعلم الهندسة؟ وعلم الأحياء الدقيقة؟ وعلم الفيزياء والكيمياء؟
نقول: هذه علوم مهمة، والنافع منها لا بد للمسلمين أن يأخذوا به، ولو ما أخذوا به يأثمون؛ لأن الله قال: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ [الأنفال: 60] وقوة نكرة في سياق الأمر تفيد العموم، وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ  فإذا كانت القوة طبية قوة نووية قوة فيزيائية كيميائية، فلا بد من الأخذ بها، لكن إذا قارنت بين شرف علماء الفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك والجيولوجيا وعلوم الاقتصاد والإدارة، وبين علوم الشريعة لا يمكن أن تقول: إنهم سواء.
وإذا واحد قال: أعطنا أدلة من القرآن تثبت ذلك، أنتم تقولون: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ  [المجادلة: 11] العلم الشرعي، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] العلم الشرعي، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ  [فاطر: 28] العلم الشرعي، ما الدليل على هذا؟
نقول: خذ الآيات الأخرى مثلاً: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت: 49]، بَلْ هُوَ  ما المقصود بكلمة: هُوَ ؟ القرآن الكريم، بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ، ومن الذي يحفظ القرآن؟ يعني عادة القرآن عند من؟ علماء الشريعة ولا علماء الفلك والطب، وإلخ..؟ عند علماء الشريعة هذا هو الأصل، والعالم أول شرط فيه أنه يحفظ القرآن، أو أنه على الأقل يحفظ الآيات التي يبني عليها اجتهاده وفتاويه، وطبعاً وفهم هذه الآيات.
ثانياً: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ [سبأ: 6] ، وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ، يرون  الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ ، كيف يعرفون أنه الحق؟ بما آتاهم الله من العلم والإيمان.
أما علماء الطب والفيزياء والكيمياء، وإلى آخره، فهل يعرفون بعلومهم الفيزيائية والكيميائية والطبية أن هذا القرآن هو الحق؟ لا، بل إن كثيراً منهم تطغيهم علومهم، بل الواقع الآن أن أكثر علماء الدنيا في العالم كفار.
بل إن بعضهم يدفعهم علمهم للطغيان، أليس كذلك؟


صحيح فيه ناس يريد الله بهم خيراً، لما يطلع على بعض الكائنات الدقيقة، والمجرات البعيدة، وآيات الله في خلقه، ممكن يصير عنده مثلاً اعتقاد بالخالق، مثلاً يقول لك: والله أنا صرت أؤمن أن هناك مدبر لهذا الكون، لكن  هل كلمة آمنت أن هناك مدبر لهذا الكون، هل هو دخول في الإسلام؟ لا، هذه خطوة، لكن ما هو دخول في الإسلام، ولذلك الذي يجعل العالم يخشى الله هو علمه الشرعي: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28] الخشية تحصل لمن؟ لأصحاب العلم الشرعي؛ لأن علمهم بعظمة الله وقدرة الله وبطش الله وعذاب الله، واليوم الآخر، وتفاصيل اليوم الآخر، والجنة والنار والقبر، هذا الذي يجعلهم يخشون الله.
أما أولئك كثير منهم في سكرتهم يعمهون أصلاً، ولا فكروا في الآخرة ، يعبدون الدنيا.
إذًا، لو قال لك واحد الآن: حديث: وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء [رواه أبو داود: 3641، والترمذي: 2682، وقال الألباني: "حسن لغيره" كما في صحيح الترغيب والترهيب: 70] أي علماء؟ علماء الشريعة بالتأكيد ما فيها قولان ؛ لأن علماء الدنيا لا يرثون الأنبياء، الأنبياء ماذا ورثوا؟ فلك وطب وهندسة وكيمياء وفيزياء ورياضيات؟ لا.
إذًا، واضح أن المقصود بالنصوص هذه هو علم الشريعة والدين.
خذ مثالاً آخر: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [آل عمران: 18] بماذا شهدوا؟ أنه لا إله إلا هو، شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ [آل عمران: 18].
إذًا، هؤلاء أولوا العلم هؤلاء المقصود بهم العلم بالله ورسوله ودينه، العلم بكتابه وشرعه وحكمه، هؤلاء أشهدهم الله على أعظم حقيقة، وهي: لا إله إلا الله.
أما الآخرون فيمكن ما يشهدون أصلاً، ولا يعترفون بالله، بعضهم ما يقرون.
إن إعطاء هذا القدر لأهل العلم في نفوس الناس يرفع من ثقة الناس بالدين ومن يمثل الدين.

كيف نعرف العلماء

00:35:12

 وينبغي -طبعاً- أن نعلم -أيها الإخوة- أن العالم معروف بماذا؟
نقول: العلماء يعرفون بأقوال العلماء الآخرين، وبتزكيتهم، فالعالم يزكي العالم، والعالم يثني على العالم، والعالم يرجع المستفتي إلى العالم، ألا ترى أن بعض العلماء من حكمتهم إذا جاءه من يستفتيه من بلد يسأله قبل أن يجيبه، يقول: من عندكم في بلدكم من أهل العلم؟ فربما لو قال: فلان، يقول: هذا معروف ارجع إليه، اذهب.
لماذا يرده؟
ليرفع من قدر ذلك العالم في نفس العامي، وهذه حكمة عظيمة يفعلها بعض العلماء.
وليعرف الناس في تلك المنطقة أن عندهم فلان، فلا يفرطون فيه، ويرجعون إليه، هذه حكمة عظيمة، ويفعلها بعض العلماء، ولذلك فإن تبيين قدر العالم، والثناء على العالم، وأيضاً طلبة العلم يقولون للناس: هذا عالم، العامة لا يعرفون، العامي ربما إذا سمع واحداً يتكلم كثيراً يظنه عالماً، وليس العالم الذي كلامه أكثر، بعض الناس إذا رأى واحد أبكاه، يقول: هذا عالم، ما هو شرط، قد يكون قاصاً من القصاص، قد يكون واعظاً، ما هو عالم، فيه فرق بين العالم والواعظ، بعض الناس ما يعرف يفرق بين العالم وبين خطيب الجمعة، والعالم والأديب، والعالم والمؤرخ، والعالم والكاتب، والعالم والشاعر.
إذًا، الدلالة عليهم ورفعهم في أنظار الناس.
ولا يشترط أن يكون العالم صاحب منصب أبداً، قد يكون إنساناً عاكفاً على نفسه يتعلم وليس له علاقة بأي منصب من المناصب، بل إن العالم الحقيقي يفر من المناصب، بل يفر من الشهرة، يفر من السمعة، ولذلك شهرة العالم تحصل له بغير قصده، وشهرة المتعالم تحصل بقصد، فهو يغضب إذا لم يذكر اسمه هنا، ويغضب إذا لم يعرف به هنا، ويغضب إذا..، بينما ترى العالم يفر من الشهرة، لكن الله يجعل له لسان صدق، وثناءً حسناً بين الناس، فالعالم الحقيقي الشهرة تأتيه وليس هو الذي يسعى إليها، وقد كان ابن مسعود يبين لتلاميذه الفرق، وكيف ستتغير يتغير الحال ويتغير الزمان، قال: "إنكم في زمان كثير علماؤه، قليل خطباؤه، وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه كثير خطباؤه، فمن كثر علمه وقل قوله فهو الممدوح، ومن كان بالعكس فهو مذموم".
إذًا، ما يشترط أن كثرة الكلام تدل على العلم، فقد يكون كلامه قليلاً وهو أعلم، قال ابن رجب -رحمه الله-: وقد فتن كثير من المتأخرين بهذا، وظنوا أن من كثر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الدين فهو أعلم ممن ليس كذلك، وهذا جهل محض.

صفات وعلامات العلماء

00:38:07

 لو واحد قال: نريد صفة هؤلاء العلماء والفقهاء حتى نعرفهم؟
فنقول: في القرآن يوجد صفات، وكذلك في كتب أهل العلم ذكروا صفات.
أولاً: مثلاً من صفاتهم في كتاب الله: أنهم يعرفون رد المتشابه إلى المحكم.
المحكم الذي لا يحتمل إلا وجهاً واحداً الواضح، هذا المحكم.
المتشابه الذي يشكل يخفى، لا يعرفه كثير من الناس، يحتمل أكثر من وجه.
من صفات العالم: أنه إذا ورد عليه المتشابه المشكل يوضحه لك برده إلى المحكم، يقول: هذه الذي أشكل عليك النص هذا يفهم بالنص الفلاني، هذا النص الذي خفي عليك معناه يفهم بالنص الفلاني، فيجلي لك الغبش، وتذهب عنك الحيرة والشك والاضطراب.
ما هو الدليل على أن هذه من صفات العلماء؟
قال تعالى: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران: 7] على أحد الكيفيات في الأداء، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ  [آل عمران: 7] يعلمون تأويله أيضاً على أحد القولين في التفسير، وهو قول قوي.
ثانياً: من صفاتهم: الخشوع والخضوع لله، وهذا أحد أدلة أن الممدوحين في الكتاب والسنة هم علماء الشريعة، من صفاتهم: الخشوع والخضوع لله، قال تعالى: قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء: 107 - 109].
فإذا قال لك واحد: عندنا واحد هنا عنده شهادة دكتوراه في التفسير، في الفقه، في أصول الفقه، واحد عنده علم، لكن والله لا يبكي من خشية الله، ولا يخشى الله أصلاً: وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء: 109] لا يمكن تنطبق عليه، فقل: ليس بعالم، هي المسألة ما هي قضية جمع معلومات، لو كانت قضية جمع معلومات صار الكمبيوتر أكبر عالم، هات كمبيوتر، الكمبيوتر ممكن نحشر في الكمبيوتر مثلاً مليون معلومة في التفسير والحديث والفقه والأصول واللغة، فهل تقول إن الكمبيوتر عالم؟ والله هذا الكمبيوتر أحفظ من ابن باز.
فإذًا ليست المسألة هي فقط كثرة المعلومات، صحيح العالم عنده كثرة معلومات، لكن ليس هذا فقط، فمن صفات العالم: أنه يخشى الله، إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا [الإسراء: 107] سجداً لمن؟ لله، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا  [الإسراء: 108]، سُبْحَانَ رَبِّنَا  يسبحون، إذا عرضت عليهم آيات الله لما ينزل في قلوبهم من معانيها ورهبتها، وماذا يقولون؟ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا  [الإسراء: 108 - 109] إذا ما في خشوع هذا ما هو عالم، ولذلك قال ابن مسعود: "ليس العلم من كثرة الحديث، ولكن العلم من الخشية" إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ  [فاطر: 28] هذا النور الذي يقذفه الله في قلوبه.


ثالثا: من صفاتهم في القرآن: أن علمهم في صدورهم آيات بينات كما تقدم في الآية: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ  [العنكبوت: 49].
رابعا: أنهم يرون أن الحق والهداية في اتباع ما أنزل الله: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سبأ: 6].
خامسا: أنهم يعقلون الأمثال التي في القرآن أو في السنة، قال الله -تعالى-: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ  [العنكبوت: 43].
إذًا، هؤلاء يعني من صفاتهم أنهم يعقلون الأمثال، الله ضرب أمثالاً في القرآن، وأوحى إلى نبيه في السنة بأمثال، فمن صفات العلماء: أنهم يعقلون الأمثال، قال: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت: 43].
وأما ما ورد في كتب أهل العلم من علاماتهم: فلا يرون لأنفسهم حالاً ولا مقاماً، ويكرهون التزكية والمدح، ولا يتكبرون على أحد، وكلما ازدادوا علماً ازدادوا تواضعاً.
سادساً: ومن علاماتهم: الهرب من الدنيا والرياسة والشهرة والمدح، فإن وقع لهم شيء من ذلك فهو بغير قصد واختيار، ويخشون على أنفسهم من عاقبته، ويظنونه مكراً واستدراجاً، فأحياناً ممكن يأتي واحد مثلاً إلى أحد هؤلاء يقول: يا شيخ والله أنا ما أظن علمك انتشر إلا إنك من المخلصين، أظن أن الله وضع لك القبول في الأرض .
العالم يستقبل هذا الكلام بخوف حتى لو صار مشهوراً، يقول: يمكن هذا استدراج، يمكن شهر أمري ليستدرجني لكي اغتر بنفسي وأهلك، فيخشى على نفسه.
سابعاً: ومن علاماتهم: أنهم لا يدعون العلم، ولا يفخرون على أحد، ويسيئون الظن بأنفسهم، ويحسنون الظن بمن سلف من العلماء، إذا كان ابن المبارك وهو ابن المبارك وعلى جلالة قدره وعلى كثرة علمه، وعلى أنه من السلف، إذا ذكرت أخلاق الجيل الذي قبله الصحابة والتابعين، يقول:

لا تعرضن بذكرانا في ذكرهم *** ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد

لا تجيب سيرتنا عند سيرة هؤلاء، ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد، لسنا كهؤلاء.
ومن الناس من يظن أن العلم بمجرد كبر السن، وإن لم يكن معه رسوخ في العلم، وهذا خطأ، فقد يكون كبيراً في السن وليس عنده رسوخ، وقد يكون شاباً وعنده شيء من الرسوخ، فلو قال قائل: ما معنى النهي عن أخذ العلم عن الأصاغر؟


فقد فسروه بأهل البدع، وفسروه بصغار السن الذين لم ترسخ قدمهم في العلم بعد، ولا زال عندهم عجلة، وشيء من التهور وطيش الشباب، بخلاف كبير السن الذي صار عنده حلم وحكمة ووقار بسبب سنه، السن له دور، لكن ليس كل كبير سن عالماً.
ثامناً: وكذلك من علاماتهم: أنهم لا يفتون فيما لا يعلمونه، ولذلك سئل النبي ﷺ: أي البلاد شر؟ ما هو شر البقاع؟ شر الأماكن؟ فقال: لا أدري، فسأل جبريل، فقال جبريل: لا أدري، فسأل ربه ، فقال: أسواقها [رواه أحمد: 16744، والحاكم: 303، وحسنه الألباني، وقال الحاكم: "هذا الحديث أصل في قول العالم لا أدري"] إذا ما عرفت الجواب، ماذا تقول؟ لا أدري.
وقال القائل:

ومن كان يهوى أن يرى متصدراً *** ويكره لا أدري أصيبت مقاتله

وقال ابن عمر: العلم ثلاثة: كتاب ناطق، وسنة ماضية، ولا أدري.
وقال مالك: العجلة في الفتوى من الجهل.
وقال الهيثم بن جميل: شهدت مالكاً سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنين وثلاثين منها: لا أدري، يعني أكثر من الثلثين.

بعض حقوق العلماء

00:45:22

 نحن قلنا الآن في المواجهة والمعركة مع هؤلاء لا بد أن نرفع من قدر أهل العلم، وقد يكون هؤلاء العلماء غير مشهورين، وقد يكونون مشهورين، وقد يكونون في مناصب، وقد لا يكون لهم مناصب البتة، ولا إمام ولا خطيب ولا شيء، المهم أن نعرفهم، فإذا عرفناهم فإن من حقوقهم علينا ومن واجبنا نحوهم: إحسان الظن بهم، قال جعفر بن محمد: "إذا بلغك عن أخيك الشيء تنكره، فالتمس له عذراً واحداً إلى سبعين عذراً، فإن أصبت عثرت على عذره وإلا قل: لعل له عذراً لا أعرفه" [روضة العقلاء، ص: 184].
ومن حقهم: اتهام المرء نفسه أمام فهمهم وتقواهم وورعهم.
ومن حقهم: احترام اجتهادهم ولو أخطأ فله أجر؛ لأنه أهل للاجتهاد، المصيبة أن بعض الناس يجتهد، وما هو أهل للاجتهاد، ويقول: أنا لي أجر، إلا عليك وزر طبعاً، هذه مصيبة، الآن بعض الناس يقول: يا أخي ليش تحرج علينا خلونا نجتهد، إذا صابت صابت وإذا ما صابت، فنقول له: أنت لست  من أهل الاجتهاد، فكيف تجتهد؟ ويقول: أنا لي أجر إذاً، فنقول: الذي يؤجر هو من كان أهلاً للاجتهاد، هذا الذي يؤجر، وماذا عندك من اللغة العربية؟ وماذا عندك من نصوص القرآن والسنة؟ وماذا عندك من فهم السلف لنصوص القرآن والسنة؟ وماذا عندك من الاطلاع على أقوال العلماء الآخرين؟ وماذا عندك من الاطلاع على الخلاف في المسألة؟ من لم يعرف الخلاف لا يحل له أن يفتي، وماذا عندك من معرفة الناسخ والمنسوخ والخاص والعام والمطلق والمقيد؟ ماذا عندك من البضاعة؟
ثم نريد نعرف إن أنت من أهل الاجتهاد أو لست من أهل الاجتهاد، ولذلك العلماء إذا اجتهدوا وأخطأوا يعذروا، أما الجاهل والذي ليس بأهل الاجتهاد إذا اجتهد ينكر عليه اجتهاده، ويقال: عليك وزر ولو أصبت؛ لأن فيه ناس هكذا يأتي يقول للشيخ يعني للعالم أيش رأيك يا شيخ كذا كذا؟ يقول: والله سبحان الله نفس الذي كنت أفكر فيه، وهكذا تراهم يعني يجترئون.


أنت الآن تريد أن تتعلم ولا تريد تبين للشيخ إنك توصلت لها قبله، ولذلك فإن من الآداب معهم: أن لا يفتأت عليهم، ولا يتقدم بين أيديهم، وكذلك ترك التعصب لقولهم إذا لم يكن له دليل، هذا من حقهم؛ لأن الشافعي ومالك وأحمد وأبو حنيفة وغيرهم نهونا عن اتباعهم بلا دليل، نهونا عن تقليدهم تقليداً أعمى، نهونا إذا عرفنا الحق بخلاف قولهم أن نتبع قولهم، بل قالوا: إن الذي يتبين له أن الصواب خلاف قولنا ويأخذ بقولنا فهو مجنون.
فإذًا، لا نتعصب لهم إذا تبين، وممن سيتبين؟ من أقوال العلماء الآخرين أن قولهم خطأ، والعلماء ليسوا كسائر الناس، بل فوقهم بما وهبه الله من علم وحملوا من ميراث النبوة، وبما كان عندهم من لسان الشرع، وإذا قال الله عن عموم الناس: وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ [الشعراء: 183] فحق العلماء من باب أولى، وإذا قال النبي ﷺ: ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا [رواه أحمد: 22755، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 101]، ويشمل كبير السن، كبير القدر وكبير العلم من باب أولى، قال الربيع بن سليمان: "والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلي هيبة له" [الآداب الشرعية: 1/226]، وقال أحمد بن حنبل: "لزمت هشيم بن بشير أربع سنين ما سألته عن شيء إلا مرتين هيبة له" [سير أعلام النبلاء: 8/290] ، وكان الشافعي يقول: "إذا رأيت رجلاً من أصحاب الحديث كأني رأيت واحداً من أصحاب رسول الله ﷺ" [الطبقات الكبرى: 1/44].
وقال أبو داود الطياليسي: "لولا هذه العصابة" المجموعة هذه العلماء "لاندرس الإسلام" انمحى وذهب.
قال النووي: "ينبغي أن ينظر إلى معلمه بعين الاحترام، ويعتقد أهليته، فهو أقرب إلى انتفاعه به [آداب حملة القرآن، ص: 47].
قال ابن الصلاح: ينبغي للمستفتي أن يحفظ الأدب مع المفتي ويبجله في خطابه وسؤاله.
وقال ابن سيرين: رأيت ابن أبي ليلى وأصحابه يعظمونه ويسودونه مثل الأمير [سير أعلام النبلاء: 4/263].
وأخذ عبد الله بن عباس بركاب زيد بن ثابت، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا [سير أعلام النبلاء: 2/437].
وقال الشيخ السعدي -رحمه الله-: وينبغي للمتعلم أن يحسن الأدب مع معلمه ويحمد الله إذا يسر له من يعلمه من جهله ويحييه من موته، ويوقظه من سنته.
فهذا نعمة فقدرها.
والرجوع إليهم، والصدور عنهم، وعرض المسائل عليهم، والأخذ برأيهم، والإذعان لرأيهم، هذا من المهمات.
والرجوع إليهم في الفتن.
الفتنة أمرها شديد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء" الكلام هذا مهم جداً، قال شيخ الإسلام: "والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء، وهذا شأن الفتن كما قال تعالى:  وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً  [الأنفال: 25]، وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله" [منهاج السنة: 4/343]، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "إن هذه الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل" [الطبقات الكبرى: 7/122] أول ما تقبل الفتنة تخفى على أكثر الناس، ولا يعرفون ما هو الموقف الصحيح فيها، والذي يعرف الموقف الصحيح فيها هم العلماء، وإذا أدبرت انتهت الفتنة بعد ما خرب الذي خرب، ومات قتل الذي قتل، وحصل الذي حصل، وفسد الذي فسد، قال: "وإذا أدبرت عرفها كل جاهل".
نسأل الله أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشداً، وأن يهب لنا من لدنه رحمة أنه هو الوهاب. هذا والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد.