الخميس 17 شوّال 1445 هـ :: 25 أبريل 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

تقديم الآخرة


عناصر المادة
الخطبة الأولى
الاهتمام والعمل للآخرة
الحج وبعض أحكامه
أهمية العمل في العشر من ذي الحجة
واجبنا نحو إخواننا المحاصرين

الخطبة الأولى

00:00:05

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

الاهتمام والعمل للآخرة

00:00:27
 
هذه الدار التي نحن فيها همومها كثيرة متشعبة، والمسلم عليه أن ينظر أين يجعل همه، هذا الهم الذي يطرقه ليلاً ونهاراً، هذا الهم الذي يفكر فيه باستمرار، هذا الهم الذي يجعله محور حياته، ما هو؟

فإن الله خلق الدارين الدار الأخرى دار الآخرة والدار الدنيا، وجعل هذه الدار دار عمل واكتساب، والأخرى دار جزاء وثواب، وهذه الدار التي نحن فيها همومها كثيرة متشعبة، والمسلم عليه أن ينظر أين يجعل همه، هذا الهم الذي يطرقه ليلاً ونهاراً، هذا الهم الذي يفكر فيه باستمرار، هذا الهم الذي يجعله محور حياته، ما هو؟

وقد جعل الله الموازنة بين الدارين مائلة إلى الآخرة فقال تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَاسورة القصص77 فقدم الآخرة وجعلها الهم الأكبر، ولها العمل الأكثر، وجعل الدنيا تالية وقال: وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا فيستعمل العبد ما وهبه الله من المال والنعم في طاعة ربه والتزود للآخرة؛ لأن صاحب هذه الدار لا يدعنا فيها، ولا بد أن يرحلنا عنها إلى داره الأخرى، وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا مما أباح الله لك فيها من المآكل، والمشارب، والملابس، والمساكن، والمناكح، فإن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً فآت كل ذي حق حقه، إنه الاعتدال في المنهج الإسلامي، ولكن يميل إلى الأهم، ويقدم الأهم على المهم، فالعمل في الدنيا مهم، ولكن للآخرة أهم، فما الذي يقلقنا قبل نومنا؟ ما الذي يفرحنا ويحزننا؟ ما الذي يغضبنا؟ ما الذي فيه أمنياتنا؟ ما الذي أحياناً نراه في أحلامنا؟ الهم الأكثر منصرف إلى ماذا؟

وهكذا فإن المحاسبة هي التي تقود إلى تصحيح المسار في العمل، كان النبي ﷺ يهمه إقامة الدين، ونشر الإسلام، كان دائم التفكير والقلق من أجل هؤلاء المعرضين: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْيعني: مهلك نفسك، إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًاسورة الكهف6، وقال تعالى: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍسورة فاطر8 معنى ذلك: أنه ﷺ كان دائم الهم حزيناً عندما ينظر إلى إعراض هؤلاء، حتى واساه ربه وقال: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍسورة فاطر8، ولما خرج من مكة إلى الطائف يدعو أهلها وكذبوه أهل المدينتين وأغروا به السفهاء، قالت عائشة للنبي ﷺ: "هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟" ومعلوم ما نال المسلمين في أحد من القتل والجراح والفتنة التي تكون بغلبة الكافرين، قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب هذا اسم موضع خارج مكة، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم عليَّ ثم قال: يا محمد إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين  يعني: الجبلان بينهما مكة، فقال النبي ﷺ:  بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً [رواه البخاري3231]، لم يكن همه ﷺ المال، لم يكن همه الأثاث والرياش، لم يكن همه في المراكب والقصور، إنما كان همه في الدين، والدعوة إليه، وبقي هم الدين معه إلى آخر حياته، فقال علي : "كان آخر كلام رسول الله ﷺ:  الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم[رواه أبو داود5156 وهو حديث صحيح]، اتقوا الله في ملك اليمين مروهم بالصلاة، وأحسنوا إليهم، قالت أم سلمة: "حتى جعل نبي الله ﷺ يلجلجها في صدره وما يفيض بها لسانه" الصلاة الصلاة حتى صارت في الصدر واللسان لا يفيض بها فليست واضحة في اللسان في آخر اللحظات عند خروج روحه، وكانت قبل ذلك مسموعة، "حتى جعل يلجلجها في صدره وما يفيض بها لسانه"[رواه أحمد25944].

وكان ﷺ دائم الفكر في أمور الآخرة، فقال أبو بكر : "يا رسول الله قد شبت"، قال: شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت[رواه الترمذي3297 وهو حديث حسن]، ما الذي شيبه في هذه السور؟ ذكرها لأهوال القيامة، وأمر الآخرة، والجنة والنار، والنوازل التي كانت في الأمم السابقة، وهو ﷺ يقول لنا: مالي وللدنيا إنما أنا والدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها[رواه الترمذي2377]، كان الصحابة يسألون النبي ﷺ عن الآخرة: ما الذي ينجيهم فيها؟ ما هو أحب الأعمال إلى الله؟ ما هو العمل الذي يحبه الله؟ ما هو العمل الذي يقرب إلى الله؟ يقول أحدهم: "يا رسول الله دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس؟ قال: ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما أيدي الناس يحبوك"[رواه ابن ماجه4102]، ازهد في الدنيا يعني: لا تبتغ فيها شيئاً لا ينفع في الآخرة، فإذا كان الورع ترك ما يضر في الآخرة؛ فإن الزهد هو ترك ما لا ينفع في الآخرة، وهذه رتبة أعلى، فكل زاهد ورع، وليس كل ورع زاهد، الورِع الذي يترك الحرام والشبهة، لكن الزاهد الذي يترك ما لا منفعة فيه في الآخرة وقد يكون مباحاً واضح الإباحة، لكنه يريد المرتبة العالية، تتوق نفسه إلى المراتب العليا في الجنة، تتوق نفسه إلى ما يكون به جوازه على الصراط أسرع ما يكون كلمح البصر، هناك أناس يعبرون الصراط مثل لمح البصر يجاوزون جهنم العميقة السحيقة بأهوالها وحرها ولهيبها يجاوزونها كلمح البصر، من هؤلاء الذين يزهدون في الدنيا، يعني: يتركون كل ما لا ينفع في الآخرة ويشتغلون بما يكون فيه نفع في الآخرة، شغلهم ما هو الذي ينفع في الآخرة؟ هذا شغلهم، أي شيء آخر يتركونه.

ومما ينفعك في الآخرة أن تنفق على أهلك، وأولادك، ووالديك، ومما ينفعك في الآخرة أن تهادي إخوانك المسلمين فهنالك أمور من متاع الدنيا تنفع في الآخرة كإعفافك لنفسك بالزواج، وما ينفع في الآخرة كثير.

وأما قوله: وازهد فيما أيدي الناس يحبوك فلما كان الناس قد تعلقت نفوسهم بالمال والدنيا فإن نافستهم فيها أبغضوك، وإن سألتهم إياها شنئوك وكرهوك، ثقلت على أنفسهم، وإن زهدت فيما في أيديهم أحبوك وأقبلوا عليك، لك شأن ولهم شأن في أمر الدنيا.

جاء معاوية إلى أبي هاشم بن عتبة وهو صحابي أسلم يوم الفتح وسكن الشام جاء إليه يعوده وهو مريض فبكى أبو هاشم فقال له معاوية: يا خال ما يبكيك أوجع يشئزك -يعني: يقلقك- أم على الدنيا فقد ذهب صفوها؟ قال: كل لا، لا أبكي من وجع، ولا أبكي على فوات دنيا، ولكن رسول الله ﷺ عهد إليَّ عهداً وددت أني كنت تبعته، أبكي لخشية مخالفة ما عهد إليَّ به محمد ﷺ، يقول ﷺ لأبي هشام بن عتبة: إنه لعلك تدرك أموالاً تقسم بين أقوام كما حدث في الفتوحات وما يأتي من عطاء بيت المال، قال: وإنما يكفيك من ذلك خادم ومركب في سبيل الله، إذن قناعة واكتفاء بما يعين على الآخرة وفي سبيل الله، مركب تجاهد عليه في سبيل الله، قال أبو هاشم: " فأدركت" أي: ما قال من تقسيم الأموال، "فجمعت" يعني: زيادة عما أوصاني به، [رواه الترمذي2327 وهو حديث حسن]، وفي رواية: "فلما مات حصل ما خلف" جمع ما ذهب الصحابي كم جمع؟ "فلما مات حصل ما خلف فبلغ ثلاثين درهماً" فقط يخشى المخالفة في هذه الثلاثين، وتشمل الثلاثين قال في الرواية: "وحسبت فيه القصعة التي كان يعجن فيها وفيها يأكل"، فهو يبكي خشية مخالفة العهد.

وعن أنس قال: "اشتكى سلمان فعاده سعد" الصحابة بينهم رحم الدين يتعاطفون، عيادة المريض فيما بينهم، "فرآه يبكي فقال له سعد: ما يبكيك يا أخي ألست قد صحبت رسول الله ﷺ؟ " أليس أليس؟ يذكره بالأعمال الصالحة التي قام بها، قال سلمان: "ما أبكي ضِناً للدنيا ولا كراهية للآخرة ولكن رسول الله ﷺ عهد إليَّ عهداً فما أراني إلا قد تعديت"، قال: وما عهد إليك؟ قال: "عهد إليَّ أنه يكفي أحدكم مثل زاد الراكب ولا أراني إلا قد تعديت"، قال ثابت: فبلغني أنه ما ترك إلا بضعة وعشرين درهماً من نفقة كانت عنده.ﷺ هذا هم الصحابة، هذا الذي كان يبكيهم، هذا الذي كانوا يخشون منه التوسع في الدنيا والمباحات، ولم يكن عندهم إلا هذا المقدار، إذن: كان الفرق بيننا وبينهم الهم الأول لديهم الآخرة اشتغالهم بالدنيا قليل، حرصهم على أمور الدين، قال الحسن البصري رحمه الله: "قد أدركت أقواماً ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل ولا يتأسفون على شيء منها أدبر، لهي كانت أهون في أعينهم من التراب فأين نحن منها الآن" هذا يقوله الحسن البصري قبل أكثر من ألف سنة.

هذا عمر بن عبد العزيز لما مرض جيء له بطبيب فقال: به داء ليس له دواء، قالوا: ما هو ما هو؟ قال: غلب الخوف على قلبه، الخوف من الله، يعني: سبب المرض ليس مرضاً عضوياً سببه عضوي هذا سببه الخوف من الله، كيف نعالجه؟

قال ابن مهدي عن سفيان الثوري: "كنت أرمق سفيان في الليلة بعد الليلة ينهض مرعوباً ينادي: النار النار شغلني ذكر النار عن النوم وعن الشهوات".

من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له

قال ﷺ: من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له [رواه الترمذي2465 وهو حديث صحيح]

من كانت الآخرة همهيعني: قصده ونيته فقلبه يشتمل عليها.

جعل الله غناه في قلبهيعني: بالكفاف ويرزقه الكفاية كي لا يتعب من الزيادة، فليس الغنى عن كثرت العرض والمال ولكن الغنى غنى النفس، وهكذا إذا كف الله نفس العبد عن الطمع ارتاح، ولا يحتاج إلى إراقة ماء وجهه، ولا إلى ما فيه دناءة نفسه ولا إلى ذل.

وجمع له شملهيعني: أموره المتفرقة يجعل خاطره مجتمعاً غير متفرق، يجعل قلبه هادئاً، ونفسه ساكنة، وعيشه هنيئاً، ويدخل السرور عليه، يجمع عليه أهله وأبناءه، يجمع عليه أقرباءه، يبعد عنه الشقاق والنزاعات الأسرية، يبعد عنه الخلافات العائلية والمالية، يبعد عنه ما يكون من التفرق بينه وبين الناس، والجيران، وأصدقاء العمل، لا يشتت خاطره في صفقة خاسرة، ولا تجارة بائرة، ولا تصرف أحمق، يجمع القلوب عليه فلا يراه أحد إلا أحبه، وهكذا جمع له شمله.

وأتته الدنيا وهي راغمةأي: ما قسمه الله له منها ستأتيه الدنيا ذليلة حقيرة تابعة لا يحتاج في طلبها إلى كد ولا تعب.

ومن كانت الدنيا همهلا يفكر إلا فيها، ولا يعمل إلا لها، ولا يهتم إلا من أجلها، ولا يفرح إلا بما جاءه منها، ولا يحزن إلا بما فاته منها.

جعل الله فقره بين عينيهيعني: بالاحتياج إلى الخلق، فلا يشعر بالقناعة أبداً دائماً لهاث دائم الجري ولو كان عنده ما يكفيه فهو يريد الزيادة.

قوله: وفرق عليه شمله يعني: أموره المجتمعة يفرق عليه أمره، يمزق شأنه تمزيقاً، فتراه مشتت البال مفرق الفكر مضطرب النفس كثير القلق حائراً واهناً قد تفرق من حوله عليه وكثر في حياته الخلافات العائلية والنزاعات المالية والتشتتات، وهكذا تركه كثير ممن حوله، وكل يوم من قضية إلى أخرى، فرق الله الأحبة عنه وكتب البغضاء له في الأرض.

ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر لهيعني: بعد كل هذا الجري لن يأتيه إلا المقدور؛ ولذلك جاء في الحديث الحسن الآخر الذي رواه ابن ماجه:  من جعل الهموم هماً واحداً هم آخرته كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك [رواه ابن ماجه257 وهو حديث حسن]

من جعل الهموم هماً واحداًهم الآخرة.. هم مرضاة الله.. هم النجاة من النار.. هم دخول الجنة.

كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهمومكل يوم يشتغل بهم: هم المال، وهم المراكب، وهم المسكن، وهم التجارة، وهم الصفقات.

لم يبال الله في أوديتها هلكفي أي أودية الدنيا هلك، هذا الخسران.

يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك وإلا تفعل ملأت يديك شغلاً ولم أسد فقرك[رواه الترمذي2466 وهو حديث صحيح حديث قدسي] إذن: هم الدنيا كما يقول عثمان ظلمة في القلب، وهم الآخرة نور في القلب، منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال[رواه الدارمي331] فمن كان همه في طلب العلم إرضاء لله وتفقهاً في دينه، يعني: هذا الاهتمام بدين الله فلسان حاله يقول: أنا مقبل على ما أنزلت من القرآن وما بينه نبيك من السنة فأنا همي في تحصيله، وحفظه، وفهمه، والقراءة فيه، والإقبال عليه، والعمل به، والتعليم للخلق، ماذا يكون يدعو ﷺ؟  اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا [رواه الترمذي3502] لكن يا إخوان الصراحة اليوم أن الدنيا هي أكبر همنا مما أعطى الأزمة المالية الزخم الكبير والصدى الكبير أن الدنيا المال فيها هو أكبر الهم، فلما تحصل مصيبة في المال فتضاعف ويتردد صداها بين جبال النفوس، وهكذا تجد المسألة تأخذ الحيز الكبير وأحاديث الناس في المجالس.

لا تجعل الدنيا أكبر همنالا تجعل طلب المال والجاه هو أكبر قصدنا ونحزن من أجل فواته ونفرح لمجيئه.

ولا مبلغ علمنايعني: غاية علمنا، فمن الناس من تراه خبيراً في المكاسب ولكن في تفسير القرآن نفسه خراب يباب فارغة، فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ۝ ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِسورة النجم29-30 مبلغهم من العلم قضية الدنيا أمور الدنيا، نفهم في الجوالات، والآلات، والمراكب، والسياحات، والأسفار، والأجهزة، والتجارات، والأسهم، والصفقات، ونفهم في هذه الشبكات، والاستعمالات، والاستخدامات، والقنوات، فماذا نفهم في أمور الآخرة؟ ماذا نفهم في أمور الدين؟ هذا القرآن كلام الله أكبر معجزة، وهذا القرآن الذي هو أساس الدين، ماذا نعرف من تفسيره؟

الحج وبعض أحكامه

00:21:10

عباد الله: قال نبينا ﷺ: من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة[رواه أحمد1837 وهو حديث حسن]، وفي رواية: تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له[رواه أحمد 2864]، وقال عمر : "لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فننظر كل من كانت له جدة" يعني: قدرة مالية "ولم يحج فيضرب عليه الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين"وصححه ابن حجر رحمه الله، فهذا كلام فيه تهديد بليغ خطير لمن استطاع الحج فلم يحج فرضه، ولم يوجب الله على عباده إلا الحج مرة في العمر، لم يكلفهم شططاً ولم يثقل عليهم ولم يشق سبحانه: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَسورة البقرة 185فرضه مرة واحدة، ومن العجب أن بعض الناس يتحمس للحج مراراً وقد حج، وآخرون لم يرو البيت العتيق فهم في لهوهم سادرون، وينبغي أن يكون في قدوم الناس من الأماكن البعيدة عبرة لهؤلاء القاعدين الذين لم يقضوا فريضتهم.

كان حجاج بعض الأماكن البعيدة كإندونيسيا يلتقي وفد الحجاج منهم البحري في طريق ذهابه إلى مكة في البحر مع سفينة الحجاج الذين عادوا من موسم الحج الذي قبله، يأتون قبل الحج بمدة ويذهبون بعد الحج فيلتقي حجاج السنة الماضية مع حجاج السنة الحاضرة في البحر، ستة أشهر في البحر، أو أربعة أشهر، أو خمسة أشهر أو ثلاثة أشهر في البحر من أجل أن يصلوا، ويموت كثيرون، وكان بعضهم يتعرض لقطع الطريق وخروج اللصوص؛ لأن القرصنة البحرية قديمة وليست الآن، وكان بعض الصليبيين يغيرون على سفن المسلمين الذاهبة للحج ويحرقونها، وقد مات من المسلمين شهداء في عرض البحر وهم يقصدون بيت الله الحرام، أفبعد أن صارت الطرق ميسرة إلى بيت الله يوجد في مكة من لم يحج فرضه، إنه العجب العجاب.

عباد الله: إن العمر عند الله يأخذ من يشاء، ويبقي من يشاء إلى أجل مسمى عنده، هذه العبادة العظيمة من شروطها العقل، والبلوغ، فلا يجب الحج على الصبي، فإن حج به وليه صح الحج ويكون للصبي أجر الحج ولوليه أجر أيضاً ولكنه يحتاج، أي: الصبي، إلى حجة أخرى إذا بلغ، وعلى الأب أن يأمر ابنه بالحج إذا بلغ وأن يهيئ له الأسباب في ذلك، فإن حج معه فهذا أحسن.

ومن شروط الحج: الاستطاعة البدنية والمالية: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاًسورة آل عمران97 والاستطاعة البدنية أن يكون صحيح البدن، وأن يتحمل مشقة السفر إلى بيت الله الحرام، والاستطاعة المالية أن يملك النفقة التي توصله إلى بيت الله الحرام ذهاباً وإياباً، وتكون هذه النفقة زائدة عن حاجاته الأصلية ونفقاته الشرعية وقضاء ديونه التي هي حقوق الله كالكفارات، وحقوق الآدميين، إذا زاد بعد كل هذا ما يكفي للذهاب والعودة، وليس الذهاب فقط، فيجب عليه الحج، نفقة أهله أثناء ذهابه لا بد أن تكون موجودة لا يتركون بلا نفقة، والشرع يقول بعد تسديد الديون إذا فضل شيء يذهب به إذا كان كافياً؛ لذلك لا يجب عليه الاستدانة، ولا أن يحج بالفيزا، وبالربا كما يفكر بعض الناس تفكيراً معوجاً عجيباً.

ولما ارتفعت نفقات الحج الآن بهذه الحملات التي لا بد للذهاب فيها، ثم بعد ذلك تزداد الأسعار، فإن الإنسان غير القادر لا يكلف، وليس عليه حرج أبداً، فإن الله قال: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ وربنا عليم خبير، وهو سبحانه علام الغيوب يعلم ماذا يكون في المستقبل، وماذا ستئول إليه الأمور، وكيف سترتفع الأسعار.

والنفقة الشرعية التي يجب على الإنسان أن يبقيها لأهله ما يكفيهم حتى يعود، ولا يلزم بتصفية ممتلكاته للحج، أو تصفية أعماله التي هي مصدر رزقه، أو أن يبيع سيارته الوحيدة التي يحتاجها، ولكن قد يكون له أكثر من واحدة، قد يكون له أكثر من بيت، وأيضاً فإنه لا بد أن يكون مستطيعاً ببدنه، فإذا كان غير مستطيع ببدنه فإنه يوكل بالحج عنه، إذا كان عجزه تاماً، إذا كان لا يرجى زوال العلة فمن رزقه الله الصحة فليغتنم صحته قبل مرضه، وغناه قبل فقره، وحياته قبل موته، كان الإمام عبد الله بن المبارك يحج على نفقته في كل عام عشرات ممن لم يحجوا، وكذلك كان مسلم بن يسار رحمه الله يحجج معه رجالاً من إخوانه.

ويشترط لوجوب الحج على المرأة أن يكون لها محرم، فلا يحل لها السفر بغير محرم، وكثير من النساء والخادمات يتحمسن لهذا، وقد قال ﷺ:  لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم [رواه البخاري1862]، والمحرم من تحرم عليه على التأبيد، فزوج الأخت ليس بمحرم، وهذا التأبيد قد يكون بنسب، أو رضاع، أو مصاهرة، ويشترط في المحرم أن يكون عاقلاً بالغاً، والمقصود منه صيانة المرأة، وخصوصاً الآن تتعرض المرأة في زحام الحج إلى من لا يخافون الله، وتحتاج إلى رعاية، وحفظ، وصيانة، وقد تضيع، ولا تهتدي للطريق: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَىسورة آل عمران36، ولا يجوز للزوج أن يمنع زوجته التي لم تقض فرضها من الحج إذا استطاعت، وكان عندها محرم، ومن الإحسان إلى الزوجة أن يحج بها، وكذلك فإذا تبرع لها بالنفقة فهو مأجور، وإلا فإن نفقة الحج ونفقة المحرم عليها أصلاً، وكذلك فإنه يعان الحاج فقد لا يكون عنده كامل النفقة فيأتي دور المحسنين بتكميل النفقة، شيء منه وشيء من غيره مثلاً، والمرأة أيضاً تعين أختها بحفظ أولادها وهي ذاهبة.

أهمية العمل في العشر من ذي الحجة

00:28:51

عباد الله: ستأتينا عشر عظيمة، عشر فاضلة ينبغي الاستعداد لها بالأعمال الصالحة، وألا يكون هم الناس فقط الرحلات والذهاب يميناً وشمالاً، وإنما يحرصون في الحل والترحال، في البر والبحر، في السفر والحضر، على الاستثمار استثمار العشر الأوائل من ذي الحجة، ونحن في ذي القعدة وهو شهر حرام من أشهر الحج شهر عظيم أيضاً، وما بقي منه خير عظيم.

وستأتي عبادة كبيرة وهي الأضحية التي يتقرب بها أهل البلدان إلى الله، انهار الدم لله توحيد؛ ولذلك لا يجزي التصدق بثمن الأضحية، ولا يقوم مقام الأضحية، انهار الدم توحيداً لله ذكراً لاسمه عند الذبح، هذه عبادة عظيمة فريدة، وكان المشركون ينحرون لأصنامهم، فنحن نذبح توحيداً لله تعالى، نذبح على اسمه: وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِسورة الأنعام121، وقضية اللحوم هذه قضية كبيرة في الشريعة لها أحكام متعددة.

وينبغي أن يكون بين المسلمين مواساة، فكما أن على أصحاب الحملات في الحج الوفاء بالعقود فإن الإخلال بعقود حملات الحج كثير مع الأسف، بسبب الطمع في الدنيا من جهة، وبسبب القصور من جهة أخرى، وقد يكون مرغماً على شيء لم يقصده من الخلل، ولكن العتب فيما يستطيع إصلاحه ولا يصلحه، أو الاستعداد ولا يستعد، وهذه أمانة في الرقاب، وكذلك يقال في تجار المواشي كما يقال في تجار الحملات، لأننا قادمون على العبادتين العظيمتين: الأضحية والحج.

واجبنا نحو إخواننا المحاصرين

00:30:54

ونحن في هذا نتذكر إخواناً لنا خلف أسوار الحصار يتعذبون بقلة الطعام، وتوقف المخابز، وانتهاء الغاز مع قدوم الشتاء، وكذلك انقطاع الكهرباء، توقف آلات وإمدادات، وحتى مستودعات المعونات، وهؤلاء اليهود يحاصرون، ويعيثون في الأرض فساداً، ومن والاهم يعينهم في ذلك، ويدنسون مساجد المسلمين، ومقابر المسلمين، تسلط المستوطنون على مساجد ومقابر المسلمين يرسمون على القبر النجمة السداسية على مقابر المسلمين، يلقون فيها النفايات، ويلطخونها ويقذرونها، إهانة وحرب نفسية، وإلا فالناس الذين فيها ماتوا لكن لا حرمة عندهم للأحياء ولا للأموات.

وعندما نسمع عن نفاد مخزون الوقود، وهؤلاء الرجال الذين يبيتون على ضوء الشموع، والمرضى الذين لا دواء لهم، والطلاب الذين لا حافلات توصلهم إلى المدارس؛ لأن الوقود قد نفد، والتعرض لآلام البرد والتشرد في العراء، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِسورة البروج8.

فينبغي على المسلمين إغاثة إخوانهم والدعاء لهم، وأن يكون من الأخوة الإسلامية ما يجبر الكسر ويفرج الله به الكربة، والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومهما حصل من أنواع الإهانات من الأعداء اليوم كما فعل هؤلاء اليهود في المساجد فقد كتبوا الشتائم والسباب لنبينا ﷺ بالأمس في أحد المساجد فإننا كما قال الله: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَسورة آل عمران139فالله سيذلهم.

اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزم هؤلاء اليهود وانصر المسلمين عليهم يا رب العالمين، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كربهم، واشف مريضهم، وارحم ميتهم، واستر عيوبهم، واقض ديونهم، وارفع البأس عنا وعنهم يا أرحم الراحمين، اللهم آوِ طريدهم، وأطعم جائعهم، واحمل حافيهم، وانصر مجاهدهم، اللهم ارحم ضعفهم واجبر كسرهم وأقل عثرتهم وتولهم برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم عجل فرجنا وفرج المسلمين، واغفر لنا أجمعين، اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان وللمؤمنين والمؤمنات، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، اجعلنا مقيمي الصلاة ومن ذرياتنا ربنا وتقبل دعاء، اجعل من ذرياتنا وزوجاتنا قرة أعين لنا، اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد والنجاة يوم المعاد يا رب العباد، اللهم تولَّ أمورنا، واقض ديوننا، واستر عيوبنا، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ۝ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

1 - رواه البخاري3231
2 - رواه أبو داود5156 وهو حديث صحيح
3 - رواه أحمد25944
4 - رواه الترمذي3297 وهو حديث حسن
5 - رواه الترمذي2377
6 - رواه ابن ماجه4102
7 - رواه الترمذي2327 وهو حديث حسن
8 -
9 - رواه الترمذي2465 وهو حديث صحيح
10 - رواه ابن ماجه257 وهو حديث حسن
11 - رواه الترمذي2466 وهو حديث صحيح حديث قدسي
12 - رواه الدارمي331 
13 - رواه الترمذي3502 
14 - رواه أحمد1837 وهو حديث حسن
15 - رواه أحمد 2864
16 - رواه البخاري1862