الخميس 19 رمضان 1445 هـ :: 28 مارس 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

تحكيم الشرع في التفجيرات


عناصر المادة
الخطبة الأولى
حرص الإسلام على الأمن
التعامل مع أهل الذمة
الأمن ضرورة
خطورة التكفير بغير برهان
ما يثبت به الكفر
موانع التكفير
العواصم من المزالق

الخطبة الأولى

00:00:01

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

حرص الإسلام على الأمن

00:00:46

عباد الله، إن النبي ﷺ قد حذر هذه الأمة من أن السيف إذا وُضع فيها لم يرفع إلى يوم القيامة؛ ولذلك كانت الفتن إذا نزلت بين المسلمين موجبة لكف بعضهم عن بعض، وكان إزهاق الأرواح البريئة، وإسالة الدماء المعصومة من أعظم المنكرات والكبائر، قال الله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [سورة النساء:93]، وبين النبي ﷺ مبيحات الدماء، ففي بعضها يقول: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة[1]، وهذا هو المرتد الذي ترك دين الإسلام، وخرج منه، وكفر بالله تعالى، خرج من دين الإسلام، وكفر به بعد أن كان مسلماً، فكل من ادعى الإسلام، ثم نقض الإسلام بناقض من النواقض، ليس له من عذر فإنه يعتبر مرتداً خارجاً عن ملة الإسلام، وقال النبي ﷺ: كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعرضه[2].
وكذلك كفلت الشريعة فيما كفلت بالإضافة إلى حفظ دماء المسلمين، وأعراض المسلمين، وعقول المسلمين، ودين المسلمين قبل كل ذلك، بالإضافة إلى حفظ أموالهم، وقال النبي ﷺ في المحافظ على أمن المسلم الفردي: لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً[3]، وعنده رحمه الله: "أن أصحاب محمد ﷺ كانوا يسيرون مع النبي ﷺ، فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه؛ ففزع" أي: المأخوذ منه متاعه، "فقال رسول الله ﷺ: لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً"، وقال ﷺ: لا يأخذ أحدكم عصا أخيه لاعباً أو جاداً، فمن أخذ عصا أخيه فليردها إليه[4].

وهذه النصوص تبين أهمية المحافظة على أمن المسلم الفردي بالإضافة إلى المحافظة على أمن المسلمين الجماعي، ومن هنا استنكر العلماء حوادث التفجيرات بين المسلمين، هذه التفجيرات العشوائية التي لا تميز أحداً من أحد، فإنها تنطلق في كل ناحية، فكم روعت من آمن، وكم أتلفت من ممتلكات، وكم أهدرت من دماء؛ ولذلك كانت حرمتها واضحة عندما تكون بين المسلمين؛ لأن دماً واحداً يراق لمسلم أشد عند الله من هدم الكعبة، وقال النبي ﷺ: من أشار إلى أخيه بحديدة؛ فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه[5]، فإذا أشار إليه بحديدة، فكيف بمن يقتله؟! وكيف بمن يبادئه، فيرفع عليه سلاحه، فيزهق روحه؟!

عباد الله: ولما كان مجتمع المسلمين مجتمعاً آمناً، هذا هو الأصل والأساس، فإن من فيه من الناس الذين وُجدوا بسبب شرعي آمنون أيضاً؛ ولذلك كان أهل الذمة يعيشون بين المسلمين آمنين، وأهل الذمة هم الكفار الذين يدفعون الجزية عن يد وهم صاغرون -كما قال ، وقد جاءت الآثار ببيان ما يؤخذ من كل واحد منهم، وهو دينار في السنة، وهذا شيء يسير، ومن قارن ذلك بالضرائب التي تفرضها الدول على الأجانب فيها رآها شيئاً يسيراً، فإن الدينار هو مثقال، وهو أربعة غرامات وربع من الذهب، أربعة غرامات فقط، أربعة غرامات وربع، هذا كل ما يؤخذ منه في السنة، أفبعد ذلك يتهم دين الإسلام بالظلم، وأنه ظلم أهل الذمة، وهذا كل الذي يأخذه عليهم؟.

التعامل مع أهل الذمة

00:06:42

وعندما يكون في مجتمع المسلمين من أهل الذمة، وكذلك من له عهد مع المسلمين، فإنه لا يجوز الاعتداء عليه، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "والمراد بالمعاهد من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية، أو هدنة من سلطان أو أمان من مسلم"، وهذا كان تعليقاً على حديث النبي ﷺ: من قاتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً[6]، وأما إذا ظهر من أهل الذمة خيانة كأن اكتشف تجسسهم على المسلمين، أو العمل على الإضرار بهم، فإن عقد الذمة ينفسخ تلقائياً بخيانتهم؛ لأنه عقد يجب الوفاء به من الطرفين، ومن أمَّن كافراً من مسلم سواء كان ذكراً أو أنثى فإنه آمن، قال العلماء: لو قال له قف وهو يهرب فهذه كلمة أمان، ولو أسقاه ماء فهذه كلمة أمان. 

ولذلك لما أعطى صلاح الدين الأيوبي رحمه الله الملك جفري -من ملوك الصليبيين الذين أُسروا- قدحاً من ماء علم بذلك أنه أمنه، وحقن دمه، وأنه لن يقتله، فانتهز جفري الفرصة، وأعطى الماء لأرناط، وكان أرناط قد اعتدى على حجاج المسلمين، وأحرق بعضهم في سفنهم مع أنه كان قد أمَّنهم، فغدر وخان، وقال: دعوا نبيكم يأتي لينقذكم، فاستهزأ بالنبي ﷺ، فلما بلغ صلاح الدين ما فعله أرناط بالمسلمين الحجاج الآمنين، وما فعله قبل ذلك في حق النبي ﷺ عاهد الله أن يقتله بيده، فلما أعطى جفري الماء لأرناط؛ قال صلاح الدين لجفري: أنت الذي أعطيته، وأنا لم أعطيه شيئاً، فقام صلاح الدين إلى أرناط فعرض عليه الإسلام، فأبى أرناط، وكان وقع أسيراً، فلما أصر على الكفر، قال صلاح الدين رحمه الله: أنا أنتصر لمحمد ﷺ، وقام فقتله بيده في موقف عظيم من مواقف العزة الإسلامية عبر التاريخ.
عباد الله: إن هذه الشريعة قد فرقت بعدلها بين الكافر المحارب وغير المحارب، فأما الكافر المحارب الذي يريد أن يحتل بلادنا، وينهب ثرواتنا، ويعتدي على دمائنا وأعراضنا، فليس له منا إلا السيف والله، وأما الكافر المسالم الذي لم يقاتلنا في الدين، ولم يخرجنا من ديارنا، ولم يعاون على إخراجنا، فإن جواز بره قد ثبت بالكتاب العزيز، وجواز الإحسان إلى الكفار المسالمين، إلى الكفار الذين لم يقاتلونا في الدين، ولم يخرجونا من ديارنا، ولم يظاهروا على إخراجنا أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [سورة الممتحنة:8]، هكذا جاء جواز ذلك، لا ينهاكم الله عن هذا، وكم كان هذا الإحسان سبباً في دخول هؤلاء الإسلام، وبيننا من هؤلاء ممن يعملون من الخدم والسائقين والموظفين من عُرض عليهم الإسلام فأسلموا، فهذا يبين أهمية الإحسان إلى هؤلاء الذين سالمونا فإذا أحسنا إليهم كان لذلك أثر عظيم في نفوسهم، فيدخلون في الإسلام، أما القتل العشوائي الذي لا يفرق بين مسالم وغيره فإنه لا يجوز.

الأمن ضرورة

00:11:18

عباد الله: إن المحافظة على أمن المجتمع الإسلامي في غاية الأهمية؛ لأن هذا الأمن به يعبد الله، ويذهب الناس إلى الجمع والجماعات، ويحضرون العلم وحلقه، ويصلون أرحامهم، ويذهبون إلى معايشهم ومكاسبهم، ويعمرون أرضهم، وبهذا أمر الله، وامتن على الكفار، فقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ [سورة العنكبوت:67]، وقال أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [سورة القصص:57]، وقال: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ۝ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ [سورة قريش:3، 4].

عباد الله: إن المحافظة على الأمن واجب لا بد منه، ويعكر الأمن أشياء كثيرة، فحوادث السطو المسلح، والترويع والتفجير، وكذلك النهب والسلب، والإخافة والترويع، وأعمال الفساد، ورفع السلاح على المسلمين، وكذلك الخطف والاغتيال للأبرياء، كل ذلك من أنواع الفساد المسيئة إلى الأمن، بل إنها إذا حصلت لهؤلاء الأبرياء شمت الكفار فينا، وقالوا: هؤلاء يقتل بعضهم بعضاً، وليست بلادهم بآمنة.
ومراعاة العقود والعهود الشرعية مهم جداً؛ لأن الكفار ينظرون إلينا من خلالها، ويقوِّمون هذا الدين من خلالها؛ ولذلك فإن النبي ﷺ راعى تلك العهود، ومن ذلك عقد الحديبية الذي عقده النبي ﷺ، فلما خان كفار قريش ذلك، ونقضوا العهد فتح النبيﷺ مكة.

خطورة التكفير بغير برهان

00:13:42

عباد الله: وإن من حماية أعراض المسلمين المحافظة على المسلم الذي ثبت إسلامه من سهام التكفير، وتحريم إخراجه عن الملة بغير دليل، وهذا التكفير -وهو الحكم على شخص بالكفر وإخراجه من ملة الإسلام- حق لله ورسوله، فهو الذي يقرر ويحدد من الذي يكفر ممن لا يكفر؛ ولذلك كان لا بد قبل الحكم على شخص بخروج من الملة أو عدمه من الرجوع إلى الراسخين في العلم الذين يعلمون كلام الله، ومعاني أحاديث نبيه ﷺ.

قال الشوكاني رحمه الله في هذه القضية المعضلة الخطيرة: "وهاهنا تسكب العبرات، ويناح على الإسلام وأهله بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر لا لسنة ولا لقرآن، ولا لبيان من الله ولا البرهان"؛ لأنه لو كان فيها سنة وقرآن يحكم بالكفر لوجب الحكم عليه بالكفر، ولذلك كان من لم يكفر من كفره الله كافراً، فإذا قام إنسان فقال: أنا لا أكفر اليهود ولا النصارى، ولا المجوسيين ولا البوذيين، ولا أكفر من ارتد عن دين الإسلام، ولا ولا، ونحو ذلك من الذين ثبت كفرهم بالكتاب والسنة، فهو نفسه كافر، لماذا؟ لأنه ضاد الله في حكمه، فالله كفره وهو يعاند ويقول: ليس بكافر "أما التكفير بغير سنة ولا قرآن، ولا بيان من الله ولا برهان، فهذا حرام؛ ولذلك جاءت النصوص بأنه باء بهذا الإثم العظيم، حار عليه" أي: رجع عليه إثم هذا التكفير، كفر مسلماً بغير بيان. 

قال الشوكاني رحمه الله: "بل لما غلت به مراجل العصبية في الدين، وتمكن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين لقنهم إلزامات بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء والسراب بقيعة" يعني يقال: يفهم من كلامه كذا، ويفهم من الفهم كذا، ونرتب على مفهوم المفهوم كذا، إذن أنت كافر.

ولذلك قال رحمه الله: "لقنهم" أي: لهؤلاء الجهلة الشيطان لقنهم "إلزامات بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء والسراب بقيعة، فيالله وللمسلمين من هذه الفاقرة التي هي أعظم فواقر الدين، والرزية التي ما رزي بمثلها سبيل المؤمنين..."إلى أن قال: "والأدلة الدالة على وجوب صيانة عرض المسلم، واحترامه تدل بفحوى الخطاب على تجنب القدح في دينه بأي قادح، فكيف إخراجه عن الملة الإسلامية إلى الملة الكفرية، فإن هذه جناية لا يعدلها جناية، وجرأة لا تماثلها جرأة، وأين هذا المجترئ على تكفير أخيه من قول رسول الله ﷺ: المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يسلمه، وقوله ﷺ: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر[7]، وقوله: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام[8]"، وجاءت النصوص بالزجر عن هذا الأمر الخطير، فقال تعالى: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  [سورة النساء:94].

وعن أبي سفيان قال: سألت جابراً، وهو مجاور بمكة: هل كنتم تزعمون أحداً من أهل القبلة مشركاً؟ فقال: معاذ الله، وفزع لذلك، فقال رجل: هل كنتم تدعون أحداً منهم: كافراً؟ قال: لا، ومعنى ذلك: أن من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فهو مسلم؛ له ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين.

ما يثبت به الكفر

00:18:26

أما إذا ثبت كفره بالدليل الشرعي فإنه لا كرامة له؛ ولذلك تكلم العلماء في حكم المرتد، وهذه قضية ينبغي التوقف عندها، فإنه لا بد أن يُتأكد من أن هذا القول أو الفعل الذي ارتكبه فلان قد حكمت الشريعة عليه بالكفر، وأن هذا الرجل أو هذا الشخص الذي صدر منه ذلك القول والفعل ليس عنده مانع يمنع من تكفيره، فقد يكون القول أو الفعل كفراً لكن الرجل جاهل أو عنده شبهة أو مكره؛ ولذلك لما بين العلماء ضوابط التكفير وما هي الأشياء التي تكفر، بينوا موانع التكفير، فعندما قالوا: إن من سب الله، أو رسوله، أو دينه؛ فإنه كافر، وإن من اتهم النبي ﷺ بالخيانة، أو شتم نبي الله ﷺ، أو ادعى أنه لم يبلِّغ أشياء من الدين للأمة كتم فهو كافر، وكذلك من كفَّر أصحاب النبي ﷺ جميعاً، وكفَّر الشيخين بالذات فهو كافر، ومن اتهم عائشة بما برأها الله منه فرماها بالفاحشة فهو كافر؛ لأنه كذَّب القرآن، فالله برأ عائشة، وهو يقول: ليست بريئة، فهو كافر، وكذلك من ادعى علم الغيب، ومن تعامل بالسحر مع الشياطين، ولا بد من علاقة كفر هنا، وكذلك من أشرك بالله، فعبد مع الله غيره، أو أتى بأفعال تدل على ذلك كالسجود لصنم، أو أنه استهزأ بشيء من دين الله، أو جحد معلوم من الدين بالضرورة كالصلاة والزكاة والصيام، وتحريم الزنا والربا والخمر، فمن جحد معلوماً من الدين بالضرورة، وقال: ليس بحرام هذا فهو كافر؛ لأنه يرد على الله حكمه، وكذلك فإن من عاب حكماً من الأحكام الشرعية، أو قال: الشريعة لا تصلح لكل زمان ومكان، أو أنها قاصرة، أو أن غيرها أفضل منها، أو أنه يجوز الحكم بغير شريعة الله، فهذا أيضاً كفر مخرج عن الملة، ونحو ذلك من الأشياء المكفرة، كالامتناع عن تكفير من لم يكفرهم الله كاليهود والنصارى، وقد قال الله: لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ [سورة المائدة:73]، فمن امتنع عن تكفيرهم فإنه مضاد لله في حكمه، رد على الله حكمه الذي أصدره عليهم، وكذلك من جحد ما نص الله على وجوده، فكذَّب بوجوده، كمن كذَّب بالجن أو الملائكة، وقال: لا أؤمن بهم، وهؤلاء خرافات، والله قد نص على ذكر الملائكة، وعلى الجن، وأنهم موجودون، وأنزل سوراً في كتابه، وهناك سورة باسمهم: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ [سورة الجن:1]، ونحو ذلك، فأنت ترى أن المسألة تدور على تكذيب الله ورسوله، أو جحد ما أنزله الله، أو السخرية والاستهزاء، ونحو ذلك من صرف عبادة لغير الله لا يجوز أن تصرف إلا لله، ونحوه، هذا كله مما يخرج عن الملة، وكذلك من أعرض عن دين الله، لا يتعلمه، ولا يعمل به، ويقول: أنا مسلم بالاسم! لا صلاة، ولا زكاة، ولا صيام، ولا حج، ولا يحرم ما حرم الله، ولا يحل ما أحل الله، وإنما هو بالاسم فقط، فهذا أيضاً كفر إعراض.

وهناك أمور في التكفير واضحة جداً، فمن سب الله مثلاً، فلا يقال: هذا ممكن أن يكون معذوراً بالجهل، لا يمكن؛ ولذلك إذا سب الله وهو يعقل ما يقول، مريد لما يقول بدون إكراه فإنه كافر.

موانع التكفير

00:22:52

لقد بين العلماء بالإضافة إلى ما يكفر ما هي الموانع:
فمن الموانع الجهل، فقد يجهل أن هذا الشيء يكفِّر، وهذا يكون أحياناً في بعض البلدان النائية، أو في بعض المجتمعات البعيدة عن العلم وأهل العلم يقع أشياء من هذا، يكون هناك مسلمون لكنهم لا يعرفون أشياء أساسية، وقواعد من الدين، فقد ينكرونها أو يهزئون بها وهم لا يعلمون أنها من الدين.
وقد تكون هناك شبهة عند البعض، فلا يجوز الحكم عليه بالكفر ولو صدر منه حتى تزال الشبهة.

وكذلك فقد يكون مكرهاً، فلا يجوز الحكم عليه وهو مكره، قال ابن أبي العز رحمه الله: "إن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمة الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق"، وتأمل قوله: "التكفير وعدم التكفير"، التكفير بغير برهان مصيبة، وعدم التكفير لمن ثبت كفره مصيبة؛ لأن بعض الناس لا يكفر أحداً، ولا شيئاً، ولا فعلاً، ولا قولاً، وهذا مصيبته مصيبة، ودينه مختل، وتوحيده مختل، وكذلك الذي يكفر بلا برهان مصيبة، قال ابن أبي العز رحمه الله: "إن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمة الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه على طرفين ووسط"، ثم قال: "وإنه لمن أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه، بل يخلده في النار".

وقال ابن القيم رحمه الله:

الكفر حق الله ثم رسوله بالنص يثبت لا بقول فلان
من كان رب العالمين وعبده قد كفراه فذاك ذو الكفران

وقال النووي رحمه الله: "اعلم أن مذهب أهل الحق ألا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب" إذن مجرد الزنا، أو الربا، أو شرب الخمر لا يكفر، لكن استحلال هذا يكفر، ولو لم يتعاطاه.
والشاهد: أن هذه المسألة لا بد من ضبطها بالضوابط الشرعية، والرجوع فيها إلى أهل العلم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفِّرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، إذ الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله".

فإذا كفَّر شخص شخصاً فلا يلزم من هذا أن يكون المكفِّر -ولو كان مكفِّراً بالباطل- كافراً، يكون مرتكباً لكبيرة؛ لأنه كفر مسلماً نعم، لكن لا يلزم منه أن يكون كافراً؛ ولهذا قال: أهل الحق لا يكفرون كل من كفرهم، فقد يعتدي عليك واحد من أهل البدعة الذين ليست بدعتهم كفرية، فبدعتهم إذن شنيعة وخطيرة لكنها لا تصل إلى الكفر، فيظلمك ويعتدي عليك، ويحكم عليك بالكفر، فهل يجوز أن تكفره بالمقابل؟ لا، لا يرد الظلم بالظلم، قال شيخ الإسلام: "إذ الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك، وزنا بأهلك ليس لك أن تكذب عليه، ولا تزني بأهله؛ لأن الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق الله؛ فلا يكفَّر إلا من كفره الله ورسوله".

وقال الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "وبالجملة فيجب على كل من نصح نفسه ألا يتكلم في هذه المسألة" يعني التكفير "إلا بعلم وبرهان من الله، وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه، واستحسان عقله؛ فإن إخراج رجل من الإسلام، أو إدخاله من أعظم أمور الدين، وقد استزل الشيطان أكثر الناس في هذه المسألة".

نسأل الله أن يهدينا سبل السلام، وأن يرزقنا اتباع الحق، وأن يعطينا البصيرة، إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
00:27:20

الحمد لله العليم الحكيم، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له العزيز الكريم، وأشهد أن محمداً رسول الله الرحمة المهداة، البشير والنذير، والشافع المشفع، والمقفى والحاشر، وحامل لواء الحمد يوم الدين، أشهد أنه رسول الله حقاً، والداعي إلى دين الله صدقاً، صلى الله عليه وعلى آله وذريته الطيبين، وعلى أزواجه وعلى خلفائه الغر الميامين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

العواصم من المزالق

00:27:57

عباد الله: إن من أعظم العواصم من المزالق الرجوع إلى أهل العلم: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء [سورة فاطر:28] الذين يخشون الله ولا يخشون الناس، الذي يقولون الحق ولا تأخذهم في الله لومة لائم، الذين عرفوه وثبتوا عليه، الذين يدركونه ويؤمنون به: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ [سورة الحج:54]، وقد جعل سبحانه آياته في صدور هؤلاء، فقال: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ  [سورة العنكبوت:49]، ورفعهم وأعظم شأنهم: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [سورة الزمر:9]، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [سورة المجادلة:11]، وإذا كان الله فضل الكلب المعلم على غير المعلم لأجل التعليم، وهو تعليم دنيوي -تعليم الصيد-، وجعل الصيد الكلب المعلم حلالاً.

وصيد الكلب غير المعلم إذا قتلها حراماً، فكيف بتعليم شرع في جوف إنسان بشر؟ إنه شيء عظيم، وهذا العلم تحصل به الوقاية من الشرور، والعصمة من الفتن، وهؤلاء العلماء كالنجوم في السماء يقتدى بهم: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم...، إن الله وملائكته، وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير[9]، ولذلك وجب سؤالهم، والرجوع إليهم، إنهم يفتحون أبواب الخير، ويغلقون أبواب الشر: إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر [10]؛ ولذلك فإن المسلم لا يقرر قراراً في شأن مصيري، ولا يُمضي أمراً في قضية خطيرة إلا بعد الرجوع إلى أهل العلم، إنه يستفتي، إن مثل قضية إعلان الجهاد، أو شن الحرب، أو البدء بالإغارة، أو القتل والاغتيال، ونحو ذلك، قضايا خطيرة وكبيرة، وآثارها على مستوى الأمة، بل تتعدى إلى عوالم أخرى من غير المسلمين؛ ولذلك كان لا بد فيها من الرجوع إلى أهل العلم.

إن هذه القضية لا يقررها شخص، ولا فرد، ولا متحمس، ولا صاحب غيرة، لا يكفي هذا لتقريرها، لا بد من الرجوع إلى العلماء؛ ولذلك كان أسلافنا يعودون إلى أهل العلم، ويصدرون عنهم، وتأتي الاستفتاءات، فترجع منهم موقعة عن الله ورسوله، إن العلماء يوقعون عن الله ورسوله في الفتاوى؛ ولذلك ألف ابن القيم رحمه الله كتاباً: "إعلام الموقعين" أو "أعلام الموقعين عن رب العالمين"، ولذلك فإن المفتي إذا جاءه السؤال أول شيء ينظر فيه نجاة نفسه قبل أن يفكر بأي شيء، إذا جاء السؤال إلى المفتي أول شيء يفكر فيه كيف ينجو هو قبل أن يفكر في السؤال والسائل، كيف ينجو هو، وبأي شيء يلقى الله؛ ولذلك كانت جرائم الأئمة المضلين عظيمة، يضلون بشراً خصوصاً في عصر القنوات الفضائية، فتوى ضالة واحدة تنتشر على الملايين، إنه العجب العجاب في هذا الزمان، أول ما يفكر فيه المفتي نجاة نفسه، كيف ينجو بنفسه، هذا إجماع من أهل العلم.

قال ابن عباس: "طلبت العلم فلم أجد أكثر منه في الأنصار، فكنت آتي الرجل منهم، فأسأل عنه، فيقال لي: نائم، فأتوسد ردائي، ثم أضطجع حتى يخرج الظهر، فيقول: متى كنت هاهنا يا ابن عم رسول الله ﷺ؟ فأقول: منذ طويل، فيقول: هلا أعلمتني، فأقول: أردت أن تخرج إلي وقد قضيت حاجتك" يعني: مستريحاً، هادئ البال حتى تجيبني، ما كان يحرجه ليخرجه، وقال: "إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي ﷺ" هذا هو التحري، هذا هو التثبت.

ولما توفي رسول الله ﷺ قلت لرجل من الأنصار: "يا فلان، هلم فلنسأل أصحاب رسول الله ﷺ، فإنهم اليوم كثير، قال: واعجباً لك يا ابن عباس! أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب رسول الله ﷺ ما ترى، فترك ذلك، وأقبلت على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل؛ فآتيه وهو قائل، فأتوسد ردائي" في القيلولة أتوسد ردائي على باب العالم، "فتسف الريح على وجهي التراب، فيخرج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله، ما جاء بك، ألا أرسلت إليك فآتيك؟ فيقول: أنا أحق أن آتيك، فأسأل عن الحديث".

هكذا كانوا يأتون العلماء، وعند الفتن يكون اللجوء إلى أهل العلم هؤلاء أوجب وأوجب؛ لأن الفتن تُعمي إذا نزلت، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال: "لما وقع من أمر عثمان ما كان" الفتنة "أتيت أبي بن كعب قلت: أبا المنذر ما المخرج؟" فتن، أمواج متلاطمة، وثوار، وسفك دماء، وقتل خليفة، "أبا المنذر ما المخرج؟ قال: كتاب الله"رده إلى النص، "كتاب الله".

وعن بشير بن عمرو قال: "شيعنا ابن مسعود حين خرج، فنزل في طريق القادسية، فدخل بستاناً، فقضى حاجته، ثم توضأ، ومسح على جوربيه، ثم خرج، وإن لحيته ليقطر منها الماء، فقلنا: اعهد إلينا، فإن الناس قد وقعوا في الفتن، ولا ندري هل نلقاك أم لا؟ قال: اتقوا الله، واصبروا حتى يستريح بر، أو يُستراح من فاجر"، "اتقوا الله واصبروا حتى يستريح بر" يعني: منكم بالموت، "أو يُستراح من فاجر" الذي صبرتم عليه، قال: "وعليكم بالجماعة؛ فإن الله لا يجمع أمة محمد على ضلالة" إسناده صحيح.

وكذلك: "جاء أبو موسى إلى باب عبد الله بن مسعود" كلاهما من الصحابة لكن ابن مسعود أعلم "قبل صلاة الغداة، قال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعاً" إلى ابن مسعود "فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيراً، قال: فما هو؟ قال: إن عشت فستراه، رأيت في المسجد قوماً حلقاً" حلق، دوائر "جلوساً ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة؛ فيكبرون مائة، هللوا مائة؛ فيهللون مائة، سبحوا مائة؛ فيسبحون مائة، قال ابن مسعود لأبي موسى: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاً؛ انتظار رأيك، وانتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم ألا يضيع من حسناتهم! ثم مضى، ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقع عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم ﷺ متوافرون! وهذه ثيابه لم تبل! وآنيته لم تكسر!" يعني: بسرعة ابتدعتم، بسرعة تحولت الأذكار إلى أذكار جماعية، واحد يأمر، والبقية يعدون بالحصى، هكذا كان عليه الصلاة والسلام؟ أبداً، عدوا سيئاتكم أحسن من هذا الذي تفعلونه من البدع، "ويحكم يا أمة محمد ما أسرعة هلكتكم" قال: "والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحوا باب ضلالة" إما طريقة التسبيح هذه التي ابتكرتموها أحسن مما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنها لو كانت أحسن لفعلها عليه الصلاة والسلام وما تركها، أو أنكم مفتتحوا باب ضلالة، "قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه" عبارة ذهبية: "كم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله ﷺ حدثنا: أن قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم[11]" قال الراوي -راوي القصة-: "رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج".

عباد الله: إن العصمة من الفتن الكتاب والسنة، ومن يعلم شروحهما من أهل العلم.
اللهم إنا نسألك أن تجعل بلادنا آمنة مطمئنة بشرعك يا رب العالمين، من أرادنا بسوء وأراد بلاد المسلمين بشر فاجعل كيده في نحره.
اللهم اجعلنا ممن يقيمون الحق يا أرحم الراحمين، اللهم اجعلنا من أهل العدل وممن يحكمون به يا رب العالمين.

اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا إنك سميع مجيب، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ۝ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

  1. ^ رواه مسلم (1676).
  2. ^ رواه مسلم (2564).
  3. ^ رواه أبو داود (5004)، وهو حديث صحيح. ​​​​
  4. ^ رواه الترمذي (2160).
  5. ^ رواه مسلم (2616).
  6. ^ رواه البخاري (3166).
  7. ^ رواه البخاري (48)، ومسلم (64).
  8. ^ رواه  مسلم (1679).
  9. ^ رواه الترمذي (2685).
  10. ^ رواه ابن ماجه (237).
  11. ^ رواه الدارمي (204).